المَطْلَبُ الرَّابعُ: التكفيرُ بالمآلِ أو بلازمِ المذهَبِ
التكفيرُ بالمآلِ هو التصريحُ بقَولٍ ليس بكُفرٍ في ذاتِه، ولكِنْ يلزمُ عنه الكفرُ مع عدَمِ اعتقادِ قائِلِه بهذا الكفرِ الذي يلزمُ عنه
[1597] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (4/242). .
قال
ابنُ حزم: (أمَّا من كفَّر النَّاسَ بما تؤول إليه أقوالُهم فخطأٌ؛ لأنَّه كَذِبٌ على الخَصمِ، وتقويلٌ له ما لم يقُلْ به، وإنْ لَزِمَه فلم يحصُلْ على غير التناقُضِ فقط، والتناقُضُ ليس كفرًا، بل قد أحسن إذ قد فَرَّ من الكُفرِ،... فصَحَّ أنَّه لا يكفُرُ أحدٌ إلَّا بنفس قَولِه، ونَصِّ مُعتَقَدِه، ولا ينتَفِعُ أحدٌ بأن يعبِّرَ عن معتقَدِه بلفظٍ يحسِّنُ به قُبحَه، لكن المحكومُ به هو مقتضى قَولِه فقط)
[1598] يُنظر: ((الفصل)) (3/ 139). .
وقال عياضٌ: (فأمَّا من أثبت الوَصفَ، ونفى الصِّفةَ فقال: أقولُ: عالمٌ، ولكن لا عِلْمَ له، ومتكَلِّمٌ ولكن لا كلامَ له، وهكذا في سائرِ الصِّفاتِ على مذهَبِ
المعتَزِلةِ، فمن قال بالمآلِ لِما يؤدِّيه إليه قَولُه، ويسوقُه إليه مذهبُه، كفَّره؛ لأنَّه إذا نفى العِلمَ انتفى وصفُ عالم، إذ لا يوصَفُ بعالم إلَّا من له عِلمٌ، فكأنَّهم صَرَّحوا عنده بما أدَّى إليه قَولُهم ... ومن لم يَرَ أخْذَهم بمآلِ قَولهم، ولا ألزمهم موجِبَ مذهَبِهم، لم يَرَ إكفارَهم، قال: لأنَّهم إذا وقفوا على هذا قالوا: لا نقول: ليس بعالمٍ، ونحن ننتفي من القولِ بالمآلِ الذي ألزمْتُموه لنا، ونعتَقِدُ نحن وأنتم أنَّه كُفرٌ، بل نقولُ: إنَّ قَولَنا لا يَؤولُ إليه على ما أصَّلْناه، فعلى هذين المأخذَينِ اختَلَف النَّاسُ في إكفارِ أهلِ التأويلِ، وإذا فَهِمْتَه اتَّضح لك الموجِبُ لاختلافِ النَّاسِ في ذلك.
والصَّوابُ: تَرْكُ إكفارِهم، والإعراضُ عن الحتمِ عليهم بالخُسرانِ، وإجراءُ حُكمِ الإسلام عليهم في قِصاصِهم، ووراثاتِهم، ومناكَحَتِهم، ودِيَاتِهم، والصَّلاةِ عليهم، ودَفْنِهم في مقابِرِ المسلمين، وسائِرِ معاملاتِهم، ولكِنَّهم يُغلَظُ عليهم بوجيعِ الأدَبِ، وشديدِ الزَّجرِ والهَجرِ، حتى يرجِعوا عن بدعَتِهم)
[1599] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 293). .
وقال
الشاطبيُّ: (الذي كُنَّا نسمعُه من الشُّيوخِ أنَّ مَذهَبَ المحَقِّقين من أهلِ الأصولِ أنَّ الكفرَ بالمآلِ ليس بكفرٍ في الحالِ، كيف والكافِرُ ينكِرُ ذلك المآلَ أشَدَّ الإنكارِ، ويرمي مخالِفَه به؟!)
[1600] يُنظر: ((الاعتصام)) (3/ 135). .
وقريبٌ من معنى التكفيرِ بالمآلِ: التكفيرُ بلازمِ القَولِ.
وقد جعَلَهما ابنُ الوزير شيئًا واحدًا فقال: (أمَّا الوجهُ الثَّالث: وهو التكفيرُ بمآلِ المذهَبِ، ويُسمَّى التكفيرَ بالإلزامِ، فقد ذَهَبَ إليه كثيرٌ، وأنكره المحقِّقون)
[1601] يُنظر: ((العواصم والقواصم)) (4/367). .
ومعنى اللازمِ: ما يمتَنِعُ انفكاكُه عن الشَّيءِ، وقد يكونُ هذا اللازم بيِّنًا، وهو الذي يكفي تصَوُّرُه مع تصوُّرِ ملزومِه في جَزمِ العَقلِ باللزومِ بينهما، وقد يكونُ غيرَ بَيِّن، وهو الذي يفتَقِرُ جزمُ الذِّهنِ باللزومِ بينهما إلى وسَطٍ
[1602] يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 190). .
وقد سُئِل
ابنُ تَيميَّةَ: هل لازمُ المذهَبِ مَذهَبٌ أم لا؟ فقال: (الصَّوابُ أنَّ لازمَ مذهَبِ الإنسانِ ليس بمذهَبٍ إذا لم يلتَزِمْه؛ فإنَّه إذا كان قد أنكره ونفاه، كانت إضافتُه إليه كَذِبًا عليه، بل ذلك يدُلُّ على فسادِ قَوله وتناقُضِه في المقالِ... ولو كان لازمُ المذهَبِ مَذهبًا للزم تكفيرُ كُلِّ من قال عن الاستواءِ وغيرِه من الصِّفاتِ: إنَّه مجازٌ ليس بحقيقةٍ؛ فإنَّ لازمَ هذا القولِ يقتضي أن لا يكونَ شيءٌ من أسمائِه وصفاتِه حقيقةً)
[1603] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/217). .
وقال أيضًا: (لازمُ قولِ الإنسانِ نوعان:
أحدُهما: لازمُ قَولِه الحَقِّ، فهذا ممَّا يجِبُ عليه أن يلتَزِمَه، فإنَّ لازمَ الحَقِّ حقٌّ، ويجوز أن يضافَ إليه إذا عُلِمَ من حاله أنَّه لا يمتنعُ من التزامِه بعد ظهورِه، وكثير ممَّا يضيفُه النَّاسُ إلى مذهَبِ الأئِمَّة من هذا البابِ.
والثَّاني: لازم قَولهِ الذي ليس بحقٍّ، فهذا لا يجِبُ التزامُه؛ إذ أكثَرُ ما فيه أنَّه قد تناقَضَ، وقد ثبت أنَّ التناقُضَ واقعٌ من كلِّ عالمٍ غيرِ النبيِّين، ثمَّ إنْ عُرِف من حالِه أنَّه يلتَزِمُه بعد ظهورِه له، فقد يضافُ إليه، وإلَّا فلا يجوزُ أن يضافَ إليه قولٌ لو ظهر له فسادُه لم يلتَزِمْه؛ لكونه قد قال ما يلزمُه، وهو لم يشعُرْ بفسادِ ذلك القَولِ ولا يلزَمُه.
وهذا التفصيلُ في اختلافِ النَّاسِ في لازمِ المذهَبِ: هل هو مذهَبٌ أو ليس بمذهَبٍ؟ هو أجودُ من إطلاقِ أحَدِهما، فما كان من اللوازمِ يرضاه القائِلُ بعد وضوحِه له فهو قَولُه، وما لا يرضاه فليس قَولَه)
[1604] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/ 42) (5/306، 477). ويُنظر: ((شرح نونية ابن القيم)) لابن عيسى (2 /394). .
ونقل
ابنُ ناصرِ الدِّينِ الدِّمَشقي عن
الذَّهبي أنَّه قال: (نعوذُ بالله من الهوى والمراءِ في الدِّينِ، وأن نكفِّرَ مسلمًا موحِّدًا بلازم قَولِه، وهو يفرُّ من ذلك اللازمِ، وينَزِّهُ ويعَظِّمُ الرَّبَّ)
[1605] يُنظر: ((الرد الوافر)) (ص: 20). .
وقال
الشاطبيُّ: (لازمُ المذهَبِ: هل هو مذهَبٌ أم لا؟ هي مسألةٌ مختَلَفٌ فيها بين أهلِ الأصولِ، والذي كان يقولُ به شيوخُنا البجائيون والمغربيُّون، ويرون أنَّه رأيُ المحقِّقين أيضًا أنَّ لازمَ المذهَبِ ليس بمذهَبٍ؛ فلذلك إذا قَرَّر عليه الخَصمُ، أنكره غايةَ الإنكارِ)
[1606] يُنظر: ((الاعتصام)) (2/ 401). .
وقال
السخاويُّ نقلًا عن شيخِه
ابنِ حَجَر: (الذي يظهَرُ أنَّ الذي يُحكَمُ عليه بالكُفرِ من كان الكُفرُ صريحَ قَولِه، وكذا من كان لازمَ قَوِله وعُرِضَ عليه فالتزمَه، أمَّا من لم يلتَزِمْه، وناضل عنه، فإنَّه لا يكونُ كافرًا، ولو كان اللازمُ كفرًا)
[1607] يُنظر: ((فتح المغيث)) (2/ 73). .
وقال
السَّعديُّ: (التحقيقُ الذي يدُلُّ عليه الدَّليلُ أنَّ لازمَ المذهَبِ الذي لم يصرِّحْ به صاحبُه ولم يُشِرْ إليه، ولم يلتَزِمْه ليس مذهبًا؛ لأنَّ القائِلَ غيرُ معصومٍ، وعِلمُ المخلوقِ مهما بلغ فإنَّه قاصِرٌ، فبأيِّ برهانٍ نُلزمُ القائِلَ بما لم يلتَزِمْه، ونقَوِّلُه ما لم يقُلْه، ولكِنَّنا نستدِلُّ بفسادِ اللازمِ على فسادِ الملزومِ، فإنَّ لوازمَ الأقوال من جملة الأدِلَّة على صِحَّتِها وضَعْفِها وعلى فسادِها، فإنَّ الحَقَّ لازمُه حقٌّ، والباطِلَ يكونُ له لوازمُ تناسِبُه، فيُستدَلُّ بفسادِ اللازمِ -خصوصًا اللازمَ الذي يعترفُ القائِلُ بفسادِه- على فسادِ الملزومِ)
[1608] يُنظر: ((توضيح الكافية الشافية)) (ص: 241). .
وخلاصةُ ما سبق أن يقالَ: إنَّ لازمَ أقوالِ المذاهِبِ والعُلَماء له ثلاثُ حالاتٍ:
الحالةُ الأولى: أن يُذكَرَ اللازمُ للقائِلِ، ويلتزمُ به، فهو يُعَدُّ قولًا له.
الحالةُ الثَّانيةُ: أن يُذكَرَ له اللازمُ، ويمنعُ التلازمَ بينه وبين قَولِه، فهذا ليس قولًا له، بل إنَّ إضافَتَه إليه كَذِبٌ عليه.
الحالةُ الثَّالثةُ: أن يكونَ اللازمُ مسكوتًا عنه، فلا يُذكَر بالتزامٍ ولا منعٍ، فحُكمُه في هذه الحالِ ألَّا يُنسَبَ إلى القائِلِ؛ لأنَّـه يحتَمِلُ لو ذُكِر له أن يلتزمَ به أو يمنعَ التلازُمَ، ويحتَمِلُ لو ذُكِر فتبيَّن له لزومُه وبطلانُه أن يرجِعَ عن قَولِه.
وبهذا يُعلَمُ أنَّه لا يصِحُّ التكفيرُ بلازمِ المذهَبِ بإطلاقٍ، خاصَّةً إذا كان من تلبَّس به ينفي ذلك اللازمَ وينكِرُه، أو كان يجهَلُه، أو يغفُلُ عنه. واللهُ أعلَمُ
[1609] ينظر: ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 12). .