المَطْلَبُ الأوَّلُ: كُفرُ الإباءِ والاستِكبارِ
من الكُفْرِ المناقِضِ لعَمَلِ القَلبِ: كُفرُ الإباءِ والاستكبارِ والامتناعِ
[1801] لا يلزم الترابطُ التامُ بين الإباءِ والاستكبارِ والامتناعِ في كلِّ الأحوالِ؛ فقد يوجَدُ إباءٌ وامتناعٌ دونَ استكبارٍ. ككُفرِ
إبليسَ، وفِرعَونَ، وعُلَماءِ اليَهودِ؛ حيث إنَّهم عَرَفوا الحَقَّ فلم ينقادوا ويَستَسْلموا له.
قال
محمَّدُ بنُ نَصرٍ المَرْوزيُّ: (قال اللهُ تبارك وتعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] ، فهل جحد
إبليسُ رَبَّه وهو يقولُ:
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، ويقول:
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: 36] إيمانًا منه بالبَعثِ، وإيمانًا بنفاذِ قُدرتِه في إنظارِه إيَّاه إلى يومِ البَعْثِ؟ أو هل جَحَد أحدًا من أنبيائِه، وأنكر شيئًا من سُلطانِه، وهو يحلِفُ بعِزَّتِه؟! وهل كان كُفرُه إلَّا بتَرْكِ سَجدةٍ واحدةٍ أمره بها، فأباها؟!)
[1802] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/394). .
وقال
ابنُ جريرٍ: (وهذا وإن كان من اللهِ جَلَّ ثناؤه خبرًا عن
إبليسَ، فإنَّه تقريعٌ لضُرَبائِه مِن خَلْقِ الله الذين يتكبَّرون عن الخُضوعِ لأمرِ اللهِ، والانقيادِ لطاعتِه فيما أمَرَهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليمِ له فيما أوجب لبَعْضِهم على بَعضٍ مِنَ الحَقِّ، وكان ممَّن تكَبَّر عن الخُضوعِ لأمرِ اللهِ والتذَلُّلِ لطاعتِه والتسليمِ لقضائِه فيما ألزمهم من حُقوقِ غَيرِهم اليَهودُ الذين كانوا بين ظَهْرانَيْ مُهاجَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأحبارُهم الذين كانوا برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصِفَتِه عارفين، وبأنَّه لله رسولٌ عالِمين، ثم استكبَروا مع عِلْمِهم بذلك عن الإقرارِ بنُبُوَّتِه، والإذعانِ لطاعتِه؛ بغيًا منهم له وحَسَدًا)
[1803] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/544). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (كُفرُ
إبليسَ وفِرعَونَ واليَهودِ ونَحوِهم لم يكُنْ أصلُه من جهةِ عَدَمِ التَّصديقِ والعِلمِ؛ فإنَّ
إبليسَ لم يُخبِرْه أحدٌ بخبرٍ، بل أمره اللهُ بالسُّجودِ لآدَمَ، فأبى واستكبر وكان من الكافرينَ، فكُفْرُه بالإباءِ والاستكبارِ وما يَتْبَعُ ذلك، لا لأجلِ تكذيبٍ، وكذلك فِرعَونُ وقَومُه جحدوا بها واستيقَنَتْها أنفُسُهم ظُلمًا وعُلُوًّا)
[1804] يُنظر: ((الإيمان الأوسط)) (ص: 418). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/97)، ((العبودية)) (ص: 99). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا كُفرُ الإباءِ والاستكبارِ، فنحوُ كُفرِ
إبليسَ، فإنَّه لم يجحَدْ أمْرَ اللهِ ولا قابَلَه بالإنكارِ، وإنَّما تلَقَّاه بالإباءِ والاستكبارِ، ومن هذا كُفرُ من عرف صِدْقَ الرَّسولِ، وأنَّه جاء بالحَقِّ من عند اللهِ، ولم يَنْقَدْ له إباءً واستكبارًا، وهو الغالِبُ على كُفرِ أعداءِ الرُّسُلِ)
[1805] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 346). .
ووَجْهُ كَونِ الإباءِ والاستكبارِ كُفرًا مناقَضَتُه للانقيادِ والاستسلامِ الذي هو أساسُ عَمَلِ القَلْبِ وأصلُه.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (كلامُ اللهِ خَبَرٌ وأمرٌ، فالخَبَرُ يَستوجِبُ تصديقَ المخبِرِ، والأمرُ يستوجِبُ الانقيادَ له والاستسلامَ، وهو عَمَلٌ في القَلبِ، جِمَاعُه الخُضوعُ والانقيادُ للأمرِ، وإن لم يَفعَلِ المأمورَ به، فإذا قوبِلَ الخَبَرُ بالتصديقِ، والأمرُ بالانقيادِ، فقد حصل أصلُ الإيمانِ في القَلْبِ، وهو الطُّمَأنينةُ والإقرارُ)
[1806] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 967). .
وقال أيضًا: (إنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ -أعني في الأصلِ- قولًا في القَلْبِ، وعملًا في القَلْبِ، فإنَّ الإيمَان بحسَبِ كلامِ اللهِ ورسالتِه يتضَمَّنُ أخبارَه وأوامِرَه، فيُصَدِّقُ القَلبُ أخباره تصديقًا يوجِبُ حالًا في القَلبِ بحسَبِ المصَدَّقِ به، والتصديقُ هو نوعٌ من العِلْمِ والقَولِ، وينقادُ لأَمْرِه ويستسلِمُ، وهذا الانقيادُ والاستسلامُ هو نوعٌ من الإرادةِ والعَمَلِ، ولا يكونُ مؤمنًا إلَّا بمجموعِ الأمرَينِ، فمتى ترك الانقيادَ كان مستكبِرًا فصار من الكافِرين، وإن كان مُصَدِّقًا)
[1807] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 967). .
وقال
حافِظ حَكَمي: (وإن انتفى عَمَلُ القَلبِ وعَمَلُ الجوارحِ، مع المعرفةِ بالقَلْبِ والاعترافِ باللِّسانِ، فكُفرُ عنادٍ واستكبارٍ، ككُفرِ
إبليسَ، وكُفرِ غالِبِ اليهودِ الذين شَهِدوا أنَّ الرَّسولَ حَقٌّ ولم يتَّبِعوه، أمثالُ: حُيَيِّ بنِ أخطَبَ، وكَعْبِ بنِ الأشرَفِ، وغيرِهما، وكُفرِ مَن تَرَك الصَّلاةَ عِنادًا واستكبارًا، ومحالٌ أن ينتفيَ انقيادُ الجوارحِ بالأعمالِ الظَّاهِرةِ مع ثبوتِ عَمَلِ القَلْبِ)
[1808] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/ 594). .
فهذا النَّوعُ لا خِلافَ ولا إشكالَ في تكفيرِ من وقع فيه سواءٌ كان فردًا أو طائفةً؛ لأنَّ الاستكبارَ ينافي حقيقةَ الإسلامِ، وهو الاستسلامُ لله بالتَّوحيدِ، والانقيادُ له بالطَّاعةِ، والخُلوصُ مِنَ الشِّركِ
[1809] ينظر: ((فتح المجيد)) (ص: 92)، ((نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف)) للوهيبي (1/387). .