المَطْلَبُ الأوَّلُ: من أدِلَّةِ تقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ: إلزامُ المُشرِكينَ باعتِرافِهم بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ ليُقِرُّوا بتوحيدِ الأُلوهيَّةِ الذي يُنكِرونَه
قال
ابنُ باز: (قد أوضَحَ أهْلُ العِلْمِ رَحِمَهم اللهُ أنَّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ يَستلزِمُ توحيدَ الأُلوهيَّةِ -وهو: إفرادُ اللهِ بالعِبادةِ- ويوجِبُ ذلك ويقتضيه؛ ولهذا احتَجَّ اللهُ عليهم بذلك)
[499] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (7/ 62). .
وهذا النَّوعُ من الأدِلَّةِ يكونُ في مسألتينِ:
المَسْألةُ الأولى: العِلْمُ بأنَّ اللهَ هو المنفَرِدُ بالخَلْقِ والتَّدبيرِ.
المَسْألةُ الثَّانيةُ: العِلْمُ بأنَّ اللهَ هو المنفَرِدُ بإعطاءِ النِّعَمِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ
[500] يُنظر: ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) للسعدي (ص: 20، 30)، ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/108). .
ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك:- قَولُ الله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21-22] .
أي: اعبُدوا اللهَ تعالى أيُّها النَّاسُ؛ لأنَّه هو الذي أوجَدَكم أنتم ومَن قَبْلَكم من العَدَمِ؛ وذلك مِن أجْلِ أن تَصِلوا إلى مَرتَبةِ التَّقوى، واعبُدوه؛ لأنَّه هو الذي جعَل لكم الأرضَ مُمهَّدةً كالفِراشِ، مُوطأةً مُثبَّتةً يَستقِرُّ عليها الإنسانُ، وجعَل لكم السَّماءَ سَقْفًا، وهو الذي أَنزَلَ مِنَ السَّحابِ مَطَرًا؛ فأنبَتَ للنَّاسِ بسَبَبِه أنواعًا متعدِّدةً من الثِّمارِ؛ رزقًا لهم؛ فلا تتَّخِذوا له أمثالًا ونُظراءَ بزَعْمِكم، وهو الذي خلَقَكم ورزَقَكم؛ فهو المستَحِقُّ لأنْ تُخلِصوا له العِبادةَ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنتم تَعلَمونَ أنَّه إلهٌ واحدٌ، لا نِدَّ له ولا شَريكَ له في الخَلْقِ والرَّزْقِ وغيرِ ذلك؛ فليس كمِثْلِه شَيءٌ سُبحانَه وتعالى
[501] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الفاتحة والبقرة)) (ص: 106). .
- وقال اللهُ سُبحانَه:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ [الأنعام: 14] .
أي: قُلُ -يا محمَّدُ-: أأجْعَلُ غيرَ اللهِ تعالى مِن هذه المخلوقاتِ العاجزةِ وَليًّا يتولَّاني؛ فأَستنصِرَه وأستعينَ به؟ كَلَّا فلا أتَّخِذُ وليًّا غيرَ اللهِ تعالى؛ لأنَّه خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ، ومُبدِعُهما على غيرِ مثالٍ سبَق، ولا أتَّخِذُ غيرَه سُبحانَه وليًّا؛ لأنَّه سُبحانَه الرَّزَّاقُ لجميعِ خَلْقِه، من غيرِ احتياجٍ إليهم، وقد أَمَرني ربِّي أنْ أكونَ أوَّلَ مَن يخضَعُ له سُبحانَه بالتَّوحيدِ، وينقادَ له بالطَّاعةِ من هذه الأُمَّة، ونُهيتُ عن أنْ أكونَ مِن المشْرِكين
[502] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الأنعام)) (ص: 73). .
- وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام: 101-102] .
أي: إنَّ اللهَ تعالى-الذي جَعَلَ المُشركونَ
الجِنَّ شُرَكاءَ له، وخَرَقوا له بنينَ وبناتٍ بغَيْرِ عِلمٍ- هو خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ، ومُحْدِثُهما على غيرِ مثالٍ سَبَقَ، فكيفَ يكونُ له ولَدٌ، ولا زوجةَ له؟ فالولَدُ إنَّما يكونُ متولِّدًا عن شيئينِ متناسِبَينِ، واللهُ لا يناسِبُه ولا يشابِهُه مِن خَلْقِه شيءٌ، وهو سُبحانَه لا يحتاجُ إلى زوجةٍ، فهو الغنيُّ عن جميعِ مخلوقاتِه، وكلُّها فقيرةٌ إليه، وجميعُ الكائناتِ خَلْقُه وعَبيدُه، ولا يُمكِنُ أن يكونَ شَيءٌ مِن خَلْقِه ولَدًا أو زوجةً له بحالٍ، وهو سُبحانَه عالِمٌ بالموجوداتِ والمعدوماتِ، والجائزاتِ والمُسْتحيلاتِ، فمِنْ إحاطَةِ عِلْمِه عزَّ وجَلَّ أنَّه يَعلَمُ المعدومَ الذي سَبَق في عِلْمِه أنَّه لا يُوجَدُ، يعلَمُ أنْ لو كان كيف يكونُ؟ فمن أحاط عِلْمُه بكلِّ شيءٍ فكيف يكونُ جِنْسًا له -كالوَلَدِ- من لا يعلَمُ شيئًا إلَّا ما عَلَّمَه اللهُ؟ وهو عالِمٌ أيضًا بأعمالِ أولئك الذين يزعُمونَ أنَّ للهِ شَريكًا أو ولدًا، وهو مُحْصيها عليهم فيُجازِيهم بها، وذلك الذي لا وَلَدَ له ولا صاحِبَةَ، وخَلَقَ كُلَّ شيءٍ، وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، هو المألوهُ المعبودُ الذي يستحِقُّ نهايةَ الذُّلِّ ونهايةَ الحُبِّ، الرَّبُّ الذي ربَّى جميعَ خَلْقِه بنِعَمِه، فلا ينبغي أن تكونَ عبادَتُكم وعبادَةُ جميعِ الخَلْقِ إلَّا خالِصةً له وحْدَه؛ فحَقٌّ على المصنوعِ أن يُفْرِدَ جميعَ أنواعِ العبادَةِ لصانِعِه، ويَقْصِدَ بها وَجْهَه، فاعْبُدوه وحْدَه لا شَريكَ له، وأَقِرُّوا له بالوَحدانيَّةِ، فلا وَلَدَ له، ولا والِدَ، ولا صاحِبَةَ له، ولا نَظيرَ ولا شريكَ. واللهُ على جميعِ ما خَلَقَ رَقيبٌ وحَفيظٌ؛ فيقومُ بأرزاقِهم وأقواتِهم، وسياسَتِهم وتدبيرِ شُؤونِهم؛ بكمالِ عِلْمِه، وقُدْرَته ورَحْمَتِه، وعَدْلِه وحِكْمَتِه عزَّ وجَلَّ، وكلُّ شيءٍ بِيَدِه، وأمورُ كُلِّ شيءٍ تُفَوَّضُ إليه وَحْدَه، فيفعَلُ فيها ما يشاءُ سُبحانَه، فذلك -الذي هذه صفاتُه- هو الذي يَستَحِقُّ أن يُعبَدَ وَحْدَه لا شريكَ له
[503] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الأنعام)) (ص: 491). .
- وقال اللهُ تعالى:
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31-32] .
أي: قُل -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن الذي يرزُقُكم من السَّماءِ مياهَ الأمطارِ، ويَرزُقُكم من الأرضِ أنواعًا من الحُبوبِ والثِّمارِ والبُقولِ والمعادِنِ؟ أم مَن الذي يملِكُ سَمعَكم وأبصارَكم، ولو شاء لسَلَبَكم إيَّاها؟ ومَنْ يُخرِجُ الشَّيءَ الحَيَّ مِن الشَّيءِ الميِّتِ بقُدرتِه العظيمةِ، فيُخرجُ الإنسانَ الحيَّ والأنعامَ والبهائمَ الأحياءَ من النُّطَفِ الميِّتةِ، ويُخرِجُ الزَّرعَ من الحَبَّةِ، والنَّخلةَ من النَّواةِ، والدَّجاجةَ مِن البيضةِ، والمؤمنَ من الكافِر، إلى غيرِ ذلك؟ ومَنْ يُقدِّر أمرَ جَميعِ الخلائِقِ، ويتصَرَّفُ في السَّماءِ والأرضِ بما يشاءُ؟
فسيَقولُ المُشرِكونَ: اللهُ وَحدَه هو الذي يرزُقُنا مِنَ السَّماءِ والأرضِ، ويَملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ويُخرِجُ الحَيَّ من الميِّتِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحيِّ، ويُدَبِّرُ الأمرَ.
فقُل-يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: أفلا تتَّقونَ اللهَ، وتخافونَ عِقابَه على إصرارِكم على الشِّرْكِ، فتُخلِصونَ له العِبادةَ؟! فأنتم مُقِرُّونَ أنَّه خالِقُكم ورازِقُكم، ومُدَبِّرُ أمورِكم، فالذي يقومُ بتلك الأفعالِ، فَيرزُقُكم من السَّماءِ والأرضِ، ويَملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ويُخرِجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحَيِّ، ويُدَبِّرُ الأمرَ؛ هو المستَحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه دونَ ما سِواه، وهو ربُّكم الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه. فأيُّ شَيءٍ غيرِ الحقِّ إلَّا الضَّلالُ؟! فلا واسِطةَ بين الحَقِّ والباطِلِ؛ فمَن عبدَ غَيرَ اللهِ المستَحِقِّ وَحدَه للعِبادةِ، فقد ضلَّ. فكيف يَقَعُ صَرفُكم بعدَ وضوحِ الحقِّ، فتَعدِلونَ عن عِبادةِ اللهِ إلى عِبادةِ ما سِواه، وأنتم تعلمونَ أنَّ اللهَ وَحْدَه هو المتفرِّدُ بالخَلقِ والتَّدبيرِ
[504] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة يونس)) (ص: 153). ؟
وقال
الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى:
إنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون [الجاثية: 3 - 5] .
ذكَرَ جَلَّ وعلا في هذه الآياتِ الكريمةِ مِن أوَّلِ سُورةِ «الجاثيةِ» سِتَّةَ بَراهينَ مِن براهينِ التَّوحيدِ الدَّالَّةِ على عَظمتِه وجَلالِه، وكَمالِ قُدرتِه، وأنَّه المستَحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه تعالى.
الأوَّلُ منها: خَلْقُه السَّمَواتِ والأرضَ.
الثَّاني: خَلْقُه النَّاسَ.
الثَّالِثُ: خَلْقُه الدَّوابَّ.
الرَّابعُ: اختِلافُ اللَّيلِ والنَّهارِ.
الخامِسُ: إنزالُ الماءِ مِن السَّماءِ وإحياءُ الأرضِ به.
السَّادِسُ: تصريفُ الرِّياحِ.
وذَكَر أنَّ هذه الآياتِ والبراهينَ إنَّما ينتَفِعُ بها المؤمِنونَ الموقِنونَ الذين يَعقِلونَ عن اللهِ حُجَجَه وآياتِه، فكأنَّهم هم المختَصُّونَ بها دونَ غَيرِهم.
ولذا قال:
لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ، ثم قال:
آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 4] ، ثم قال:
آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 5] .
وهذه البراهينُ السِّتَّةُ المذكورةُ في أوَّلِ هذه السُّورةِ الكريمةِ جاءت مُوضَّحةً في آياتٍ كثيرةٍ جِدًّا، كما هو معلومٌ)
[505] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 179). .