المَطْلَبُ الثَّاني: مِن أدِلَّةِ تقريِر تَوحيدِ الأُلوهيَّةِ: بَيانُ حالِ الآلِهةِ التي تُعبَدُ دُونَ اللهِ في الدُّنيا والآخِرةِ بصِفةٍ تُقَرِّرُ عَدَمَ استِحقاقِها للعِبادةِ
وهذا النَّوعُ من الأدِلَّةِ يكونُ في ثلاثِ مَسائِلَ:
المَسْألةُ الأولى: مَعرِفةُ ما يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ مِن المخلوقاتِ، وبَيانُ نَقْصِها من جَميعِ الوُجوهِ.
المَسْألةُ الثَّانيةُ: تعجيزُ المسؤولينَ مِن دونِ اللهِ.
المَسْألةُ الثَّالِثةُ: الإخبارُ عن العداوةِ الواقِعةِ بَعْدَ البَعْثِ
[506] يُنظر: ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) للسعدي (ص: 20، 30)، ((رسالة الشرك ومظاهره)) لمبارك الجزائري (ص: 282)، ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/113). .
المَسْألةُ الأولى: مَعرِفةُ ما يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ مِنَ المَخلوقاتِ وبَيانُ نَقْصِها من جميعِ الوُجوهِ- قال اللهُ تعالى:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] .
أي: واتَّخَذ المُشرِكونَ من دونِ اللهِ مَعبوداتٍ مِن الأصنامِ وغَيرِها لا تَستطيعُ أن تَخلُقَ شَيئًا، وهذه الآلِهةُ مَخلوقةٌ، بل منها ما هو مَصنوعٌ ومَنحوتٌ بأيدي المُشرِكينَ، ولا تَستطيعُ أن تدفَعَ عن نَفْسِها ضَرًّا، ولا أن تجلِبَ لنَفْسِها نَفْعًا، ولا تستطيعُ إماتةَ حَيٍّ ولا إحياءَ مَيِّتٍ ولا بَعْثَه
[507] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الفرقان)) (ص: 16). .
وقال
الشِّنقيطي: (قَولُه تعالى:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، ذكَرَ جَلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ الآلِهةَ التي يَعبُدُها المُشرِكونَ مِن دُونِه مُتَّصِفةٌ بسِتَّةِ أشياءَ، كُلُّ واحدٍ منها بُرهانٌ قاطِعٌ أنَّ عِبادتَها مع اللهِ لا وَجْهَ لها بحالٍ، بل هي ظُلمٌ مُتناهٍ، وجَهلٌ عظيمٌ، وشِرْكٌ يُخَلَّدُ به صاحِبُه في نارِ جَهنَّمَ، وهذا بَعْدَ أن أثنى على نَفْسِه جَلَّ وعلا بالأمورِ الخَمسةِ المذكورةِ في الآيةِ التي قَبْلَها التي هي براهينُ قاطِعةٌ على أنَّ المتَّصِفَ بها هو المعبودُ وَحْدَه، والأمورُ السِّتَّةُ التي هي مِن صِفاتِ المعبوداتِ مِن دُونِ اللهِ:
الأوَّلُ منها: أنَّها لا تَخلُقُ شَيئًا، أي: لا تَقدِرُ على خَلْقِ شَيءٍ.
والثَّاني منها: أنَّها مخلوقةٌ كُلُّها، أي: خَلَقَها خالِقُ كُلِّ شَيءٍ.
والثَّالِثُ: أنَّها لا تَملِكُ لأنفُسِها ضَرًّا ولا نَفْعًا.
الرَّابعُ والخامِسُ والسَّادِسُ: أنَّها لا تَملِكُ مَوتًا، ولا حياةً، ولا نُشورًا، أي: بَعثًا بعد الموتِ، وهذه الأمورُ السِّتَّةُ المذكورةُ في هذه الآيةِ الكريمةِ جاءت مُبَيَّنةً في مواضِعَ أُخَرَ مِن كِتابِ اللهِ تعالى.
أمَّا
الأوَّلُ منها: وهو كونُ الآلهةِ المعبودةِ مِن دُونِ اللهِ لا تَخلُقُ شَيئًا، فقد جاء مبَيَّنًا في آياتٍ كثيرةٍ؛ كقَولِه تعالى
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية
[الحج: 73] ، وقَولِه تعالى:
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل: 20، 21]، وقَولِه تعالى في سورة «فاطر»
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [فاطر: 40]، وقَولِه تعالى في سورةِ «لقمانَ» :
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [لقمان: 11] ، وقَولِه تعالى في «الأحقافِ»:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: 4] ، وقَولِه تعالى:
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف: 51] ، وقد بَيَّن تعالى في آياتٍ مِن كِتابِه الفَرْقَ بين من يخلُقُ، ومن لا يخلُقُ؛ لأنَّ مَن يَخلُقُ هو المعبودُ، ومن لا يخلُقُ لا تصِحُّ عبادتُه؛ كقَولِه تعالى:
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الآية
[البقرة: 21] ، أي: وأمَّا مَن لم يخلُقْكم فليس برَبٍّ ولا بمعبودٍ لكم، كما لا يخفى، وقَولِه تعالى:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] ، وقَولِه تعالى:
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16] ، أي: ومَن كان كذلك فهو المعبودُ وَحْدَه جَلَّ وعلا، وقَولِه تعالى:
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] .
وأمَّا الأمرُ الثَّاني منها: وهو كونُ الآلهةِ المعبودةِ مِن دُونِه مخلوقةً، فقد جاء مُبَيَّنًا في آياتٍ مِن كِتابِ اللهِ؛ كآيةِ «النَّحل»، و «الأعرافِ» المذكورتَينِ آنِفًا.
أمَّا آيةُ «النحل» فهي قَولُه تعالى:
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20] فقَولُه:
وَهُمْ يُخْلَقُونَ صريحٌ في ذلك. وأمَّا آيةُ «الأعراف» فهي قَولُه تعالى:
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
وأمَّا الأمرُ الثَّالِثُ منها: وهو كَونُهم لا يَملِكونَ لأنفُسِهم نَفعًا ولا ضَرًّا، فقد جاء مُبَيَّنًا في مواضِعَ مِن كِتابِ اللهِ؛ كقَولِه تعالى:
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [الرعد: 16] ، وكقَولِه تعالى:
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 191، 192]، ومن لا يَنصُرُ نَفْسَه فهو لا يملِكُ لها ضَرًّا ولا نَفعًا، وقَولِه تعالى:
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 197]، وقَولِه تعالى
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الآية
[الأعراف: 193 - 195] .
وفيها الدَّلالةُ الواضِحةُ على أنَّهم لا يَملِكونَ لأنفُسِهم شَيئًا، وقَولِه تعالى:
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ الآية
[الحج: 73] ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
وأمَّا الرَّابِعُ والخامِسُ والسَّادِسُ مِن الأمورِ المذكورةِ -أعني: كَونَهم لا يَملِكونَ مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، فقد جاءت أيضًا مُبَيَّنةً في آياتٍ مِن كِتابِ اللهِ؛ كقَولِه تعالى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم: 40] ، فقَولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ:
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ شُرَكاءَهم ليس واحِدٌ منهم يَقدِرُ أن يَفعَلَ شَيئًا من ذلك المذكورِ في الآيةِ، ومنه الحياةُ المعَبَّرُ عنها بـ: "خَلَقَكُمْ"، والموتُ المعَبَّرُ عنه بقَولِه:
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، والنُّشورُ المعَبَّرُ بقَولِه:
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، وبَيَّن أَّنهم لا يملِكونَ نُشورًا بقَولِه:
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [الأنبياء: 21] ، وبَيَّن أنَّهم لا يَملِكونَ حَياةً ولا نُشُورًا، في قَولِه تعالى:
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الآية
[يونس: 34] ، وبَيَّن أنَّه وَحْدَه الذي بيَدِه الموتُ والحياةُ، في آياتٍ كثيرةٍ؛ كقَولِه تعالى:
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145] ، وقَولِه تعالى:
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الآية
[المنافقون: 11] ، وقَولِه تعالى:
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ الآية
[نوح: 4] ، وقَولِه تعالى:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الآية
[البقرة: 28] ، وقَولِه تعالى:
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الآية
[غافر: 11] ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ. وهذا الذي ذكَرْنا مِن بيانِ هذه الآياتِ بَعضِها لبعضٍ: مَعلومٌ بالضَّرورةِ مِنَ الدِّينِ)
[508] يُنظر: ((أضواء البيان)) (6/ 9 - 11). .
- وقال اللهُ سُبحانَه:
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [يونس: 34] .
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: هل من آلهَتِكم -التي زَعَمتُم أنَّها شُرَكاءُ لله في العِبادةِ- مَن يبتدِئُ خَلقَ أيِّ شَيءٍ مِن العَدَمِ، ثمَّ إذا مات يُعيدُه إلى الحياةِ مَرَّةً أُخرى؟ فقُلْ لهم: اللهُ وَحدَه هو الذي يَبتَدِئُ خَلقَ كُلِّ شَيءٍ مِن العدَمِ، ثمَّ يُعيدُه بعد مَوتِه متى شاء مِن غَيرِ مُعاوِنٍ ولا شَريكٍ، فكيف تُصرَفونَ وتُقلَبونَ عن اتِّباعِ الحَقِّ إلى الباطِلِ
[509] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة يونس)) (ص: 170). ؟
- وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73-74] .
أي: يا أيُّها النَّاسُ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا للآلِهةِ التي يَعبُدُها المُشرِكونَ، فأنصِتُوا لهذا المَثَلِ، وتفهَّموا ما احتَوى عليه؛ إنَّ الذين تَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ مِنَ الأصنامِ وغَيرِها لن يَقدِروا على خَلقِ ذُبابةٍ واحِدةٍ، ولو تَعاونوا جميعًا على ذلك، وإنْ يَختَطِفِ الذُّبابُ ويَختَلِسْ مِنَ الأصنامِ شَيئًا ممَّا عليها مِن طِيبٍ أو ممَّا يُجعَلُ لها مِن طَعامٍ ونحوِه؛ لا تَستطِعِ الأصنامُ أن تَرُدَّ ما استَلَبَه الذُّبابُ، مع ضَعفِه وحَقارتِه. ضعُفَت الآلِهةُ المعبودةُ مِن دُونِ اللهِ -كالأصنامِ- وعَجَزت عن استِنقاذِ ما يَسلُبُه الذُّبابُ منها، وضعُفَ الذُّبابُ، وضَعُفَ العابِدُ لغير الله، فكيف يَعبُدُ المُشرِكونَ ما لا قُدرةَ له على خَلقِ ذُبابٍ، ولا على رَدِّ ما استَلَبَه منه
[510] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الحج)) (ص: 373). ؟!
- وقال اللهُ تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَاتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 75-76] .
أي: بيَّن اللهُ مَثَلًا لنَفسِه تعالى وللأصنامِ؛ كعَبدٍ مَملوكٍ عاجزٍ لا يَملِكُ شَيئًا، فلا يَقدِرُ على شيءٍ مِنَ المالِ، ولا مِن أمْرِ نَفْسِه، ورجُلٍ حُرٍّ غَنيٍّ آتاه اللهُ رِزقًا واسِعًا طيِّبًا، يَملِكُ التصرُّفَ فيه، فيُنفِقُ منه دائمًا في السِّرِّ والعَلانِيَةِ؛ إحسانًا منه إلى الآخَرينَ، فهل يستوي هذا العَبدُ والحُرُّ؟ فكذلك اللهُ الذي له المُلْكُ، وبِيَدِه الرِّزقُ، المتصَرِّفُ في مُلكِه كما يشاءُ؛ لا يستوي مع المَعبوداتِ العاجزةِ التي لا تَملِكُ شيئًا، ولا قُدرةَ لها على شَيءٍ، وأنتم تتَّخِذونَها شُرَكاءَ لله تعالى في عبادتِه، فكيف تُسَوُّونَ بينهم؟!
والحَمدُ الكامِلُ الخالِصُ لله المُنعِمِ المُستَحِقِّ لعِبادةِ خَلقِه وشُكرِهم، دونَ ما يُعبَدُ مِن دُونِه؛ إذ لا نِعمةَ لتلك المَعبوداتِ على أحدٍ حتَّى تُحمَدَ عليها، ولكنَّ أكثَرَ المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ وَحْدَه هو المُستحِقُّ للعِبادةِ والشُّكرِ؛ فهم يَعبُدونَ ويَحمَدونَ غَيرَه؛ لجَهلِهم.
وضرَبَ اللهُ لكم مثلًا آخَرَ لنَفسِه تعالى، وللأصنامِ التي تُعبَدُ مِن دونِه؛ كرَجُلَينِ أحَدُهما لا يَنطِقُ، ولا يَسمَعُ، ولا يَعقِلُ، عاجِزٌ لا يَقدِرُ على فِعلِ شَيءٍ؛ مِن جَلبِ نَفعٍ، أو دَفْعِ ضُرٍّ، -فكذلك الأصنامُ لا تَسمَعُ، ولا تَنطِقُ، ولا تَعقِلُ شَيئًا- وهو مع عدَمِ نُطقِه وعَجزِه ثَقيلٌ على مَن يلي أمْرَه ويَعولُه، -فكذلك الصَّنَمُ ذو كُلفةٍ ومَشَقَّةٍ على من يَعبُدُه؛ حيثُ يَقومُ بحَملِه، ووَضْعِه، وخِدْمتِه- أينما يُرسِلْه مَولاه في عمَلٍ لِيَعمَلَه، لا ينجَحْ فيه، فهو لا يأتي بخَيرٍ، ولا يَقضي حاجةً؛ لعَجزِه، وعدَمِ فَهمِه لِما يُقالُ له، وعَدَمِ قُدرتِه على التَّعبيرِ عمَّا يُريدُ؛ -فكذلك الصَّنَمُ لا يَعقِلُ ما يُقالُ له، ولا يَنطِقُ بشَيءٍ، فلا يَستطيعُ أن يأتيَ بخَيرٍ ويَقضِيَ حاجةً- فهل يَستوي هذا الأبكَمُ الكَلُّ على مَولاه الذي لا يأتي بخيرٍ حيثما توجَّهَ، ومَن هو ناطقٌ متكلِّمٌ قادِرٌ يأمُرُ بالحقِّ والقِسطِ، ويدعو إليه، وهو في نَفْسِه -مع ما ذُكِرَ مِن نَفعِه العامِّ- على طريقِ الحقِّ لا يَنحَرِفُ عنه، عامِلٌ بما يأمُرُ به، ويدعو إليه، ولا يتوجَّهُ إلى مطلَبٍ إلَّا ويبلُغُه بأقرَبِ سَعيٍ وأسهَلِه، فهو عادِلٌ في أقوالِه، مُستقيمٌ في أفعالِه؟! فإذا امتنَعَ التَّساوي بين هذينِ الصِّنفَينِ المَذكورَينِ، فكذلك يمتنِعُ التَّساوي بينَ اللهِ سُبحانَه العادِلِ الذي يأمُرُ بالعَدلِ، وهو قائِمٌ بالقِسطِ على صراطٍ مُستقيمٍ، وبينَ ما يَجعَلونَه شُرَكاءَ له
[511] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة النحل)) (ص: 518). .
وقال الله سبحانه:
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 191-192] .
قال
ابنُ عثيمين: (بَيَّن اللهُ عَجْزَ هذه الأصنامِ، وأنَّها لا تَصلُحُ أن تكونَ معبودةً، مِن أربعةِ وُجوهٍ، هي:
1- أنَّها لا تَخلُقُ، ومن لا يَخلُقُ لا يستَحِقُّ أن يُعبَدَ.
2- أنَّهم مخلوقونَ مِنَ العدَمِ، فهم مُفتَقِرونَ إلى غَيرِهم ابتداءً ودَوامًا.
3- أنَّهم لا يستطيعونَ نَصْرَ الدَّاعينَ لهم، وقَولُه:
ولا يَسْتَطِيعُونَ أبلَغُ من قولِه: "لا يَنصُرونَهم"؛ لأنَّه لو قال: "لا يَنصُرونَه"، فقد يقولُ قائِلٌ: لكِنَّهم يستطيعونَ، لكِنْ لِمَّا قال:
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا كان أبلَغَ لظُهورِ عَجْزِهم.
4- أنَّهم لا يستطيعونَ نَصْرَ أنفُسِهم)
[512] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/ 284). .
المَسْألةُ الثَّانيةُ: تعجيزُ المَسؤولينَ مِن دونِ اللهِوهذه المَسْألةُ وإن كانت داخِلةً في عُمومِ المَسْألةِ التي قَبْلَها إلَّا أنَّه قد ورد إفرادُها بالذِّكرِ في القُرْآنِ الكريمِ، وتَرِدُ كذلك مُرتَبِطةً مع تلك المَسْألةِ.
- قال اللهُ تعالى:
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 56] .
أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- للمُشرِكينَ: ادعُوا الذينَ زَعَمتُم أنَّهم آلهةٌ مِن دُونِ اللهِ عندَ حُلولِ الشَّدائِدِ بكم، فانظُروا هل يَقدِرونَ على إزالةِ الضُّرِّ عنكم بالكُلِّيَّةِ، أو تحويلِه مِن حالٍ إلى حالٍ، فيُغيِّروا صِفتَه أو قَدْرَه، أو يُحَوِّلوه إلى غَيرِكم؟ فإنَّهم لا يَقدِرونَ على ذلك، وإنَّما يَقدِرُ عليه اللهُ وَحدَه، فإذا كانوا بهذه الصِّفةِ فلأيِّ شَيءٍ تَدعونَهم مِن دُونِ اللهِ
[513] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الإسراء)) (ص: 269). ؟!
وقد يقَعُ التَّعجيزُ في الآخِرةِ، كما قال اللهُ تعالى:
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا [الكهف: 52] .
أي: اذكُرْ يومَ يقولُ اللهُ للمُشرِكينَ يومَ القيامةِ تَوبيخًا وتقريعًا لهم: نادُوا آلهَتَكم التي ادَّعيتُم في الدُّنيا كَذِبًا أنَّهم شُرَكائي في العِبادةِ؛ نادُوهم لِيَنصُروكم ويَمنَعوكم مِن عَذابي، فاستغاثَ المُشرِكونَ بآلهَتِهم التي كانوا يَعبُدونَها في الدُّنيا، فلم يُجيبوهم ولم يَنصُروهم، وجعَل اللهُ بين المُشرِكينَ وآلهَتِهم التي عَبَدوها حائِلًا مُهلِكًا يَفصِلُ بينهم؛ فليس لأحدِ الفريقَينِ مِن سَبيلٍ للوُصولِ إلى الآخَرِ، وعاينَ المُشرِكونَ النَّارَ فظنُّوا أنَّهم داخِلُوها وواقِعونَ فيها، ولم يجِدِ المُشرِكونَ عنها مَكانًا يَنصَرِفونَ إليه فيَصرِفُهم عن الوقوعِ فيها، أو طَريقًا يعدِلون عنها إليه، فلا بدَّ لهم إذَنْ منها
[514] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الكهف)) (ص: 285). .
المَسْألةُ الثَّالثةُ: الإخبارُ عن العداوةِ الواقعةِ بَعْدَ البَعْثِ- قال اللهُ تعالى:
وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .
أي: اتَّخذَ المُشرِكونَ أوثانًا يَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ؛ مِن أجلِ أن ينالوا بها العِزَّ، وتمنَعَهم مِن عذابِ اللهِ، وتُقرِّبَهم إليه، وتنصُرَهم، وتشفَعَ لهم. ولكن ليس الأمرُ كما ظنُّوا مِن أنَّ آلهتَهم تكونُ لهم عزًّا؛ فهي لا تستطيعُ أن تمنَعَهم من العذابِ، أو تنصُرَهم، أو تشفَعَ لهم، أو تقرِّبَهم إلى اللهِ، ولكن ستَكفُرُ تلك المعبوداتُ يومَ القيامةِ بعِبادةِ المُشرِكينَ لها، وتتبرَّأُ منهم، وتكونُ بخلافِ ما ظنُّوا فيهم، فتكونُ أعوانًا عليهم في خصومتِهم وتكذيبِهم والتبَرُّؤِ منهم، ويَؤولُ بهم ذلك إلى الذُّلِّ والهوانِ
[515] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة مريم)) (ص: 272). .
- وقال اللهُ سُبحانَه:
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
أي: يقولُ لهم اللهُ تعالى عند وُرودِهم عليه يومَ مَعادِهِم: لقد جِئتُمونا وُحْدانًا، بلا أهلٍ ولا أولادٍ، ولا جُنودٍ ولا أعوانٍ، ولا مالٍ ولا أثاثٍ، ولا رفيقٍ ولا صديقٍ، ولا شيءٍ من الدُّنيا معكم، فجِئْتُمونا حُفاةً عُراةً غُلْفًا غُرْلًا، وخلَّفْتُم- أيُّها القومُ- ما آتَيْناكم مِنَ النِّعَم التي اقتَنَيْتُموها في الدُّنيا وراءَكم، فلم تَحْمِلوها معكم إلى الآخِرَةِ، ولا نرَى معكم شُفعاءَكم الذين كُنتم في الدُّنيا تَدَّعونَ أنَّهم شُرَكاءُ لنا، فتَعبُدونَهم معنا، وتَزعُمونَ أنَّهم يَشفَعونَ لكم عِندَنا يومَ القيامةِ. لقدِ انقطَعَ اليومَ ما كانَ بينكم وبين شُرَكائِكم في الدُّنيا مِن تواصُلٍ وتَوادٍّ وتناصُرٍ وشَفاعةٍ، فاضمحَلَّ ذلك كلُّه في الآخِرَة؛ فلا أحَدَ منكم ينصُرُ صاحِبَه، ولا يُواصِلُه، وغاب عنكم ما كنتُم تَزعُمونَ أنَّهم شُركاءُ للهِ، وشفعاءُ لكم عِنْدَه، وذهَبَ ما ترجُونَ منهم مِن شَفاعةٍ تَجْلِبُ لكم -بزَعْمِكم- الأمنَ والسَّعادةَ، والنَّجاةَ يومَ القيامةِ
[516] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الأنعام)) (ص: 447). .