موسوعة التفسير

سُورةُ المُنافِقونَ
الآيات (9-11)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ

غريب الكلمات:

تُلْهِكُمْ: أي: تَشْغَلْكم، واللَّهْوُ: ما يَشغَلُ الإنسانَ عمَّا يَعْنيه ويُهِمُّه، وأصلُ (لهو): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ بشَيءٍ [161] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/213)، ((المفردات)) للراغب (ص: 748)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 778). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ
لَوْلَا هي في الأصلِ حَرفُ تَحضيضٍ بمعنى «هَلَّا»، وهي هنا بمعنى التَّمنِّي. فَأَصَّدَّقَ: الفاءُ: سببيَّةٌ. (أَصَّدَّقَ): فِعلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ بـ «أن» مُضمَرةً بعدَ فاءِ السَّبَبيَّةِ في جوابِ التَّمَنِّي. وَأَكُنْ مجزومٌ بالعَطفِ على مَوضِعِ فَأَصَّدَّقَ حملًا على المعنى، كأنَّه قال: إنْ أخَّرْتَني أصَدَّقْ وأكنْ مِن الصَّالحينَ؛ لأنَّه لو لم تَدخُلِ الفاءُ لَكان مجزومًا في جوابِ التَّمَنِّي، فعَطَف حملًا على هذا المعنى، واعتقادِ سُقوطِ الفاءِ، ويُقالُ له في غيرِ القُرآنِ: العَطفُ على التَّوَهُّمِ [162] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (3/101)، ((البسيط)) للواحدي (21/478)، ((شرح المفصل)) لابن يعيش (2/109)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/344)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 553)، ((تفسير الألوسي)) (14/312). .

المعنى الإجمالي:

يأمرُ الله تعالى المؤمنينَ بالمواظَبةِ على طاعتِه، ويَنهاهم عن أنْ يَشغلَهم عن ذلك شيءٌ، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَشْغَلْكم أموالُكم ولا أولادُكم عن ذِكرِ اللهِ تعالى، ومَن يُشْغَلْ بأموالِه وأولادِه عن ذِكرِ اللهِ تعالى فأولئك هم الخاسِرونَ حَقًّا.
 ثمَّ يَحُضُّهم الله سبحانَه على الإنفاقِ قبْلَ فَواتِ الأوانِ، فيقولُ: وتَصَدَّقوا -أيُّها المؤمِنونَ- مِمَّا رَزَقْناكم مِن الأموالِ مِن قَبلِ أن يأتيَ أحَدَكم الموتُ، فيَقولَ عِندَ احتِضارِه: يا رَبِّ هلَّا أمهَلْتَني إلى وَقتٍ قَصيرٍ؛ فأتصدَّقَ وأكونَ مِنَ الصَّالِحينَ! ولن يُؤَخِّرَ اللهُ أحدًا إذا جاء أجَلُه، واللهُ ذو خِبرةٍ تامَّةٍ بجَميعِ أعمالِكم.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان ما حكاه اللهُ سُبحانَه وتعالى عن المُنافِقينَ بحيثُ يُعجَبُ غايةَ العَجَبِ مِن تصَوُّرِ قائِلِه له، فضلًا عن أن يَتفَوَّه به، فكيفَ بأنْ يَعتَقِدَه- نبَّهَ على أنَّ العِلَّةَ المُوجِبةَ له طَمْسُ البصيرةِ، وأنَّ العِلَّةَ في طَمْسِ البصيرةِ الإقبالُ بجَميعِ القَلْبِ على الدُّنيا [163] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/91). .
وأيضًا فهذا انتِقالٌ مِن كشْفِ أحوالِ المُنافِقينَ المَسوقِ للحذَرِ منهم، والتَّحذيرِ مِن صِفاتِهم، إلى الإقبالِ على خِطابِ المُؤمِنينَ بنَهيِهم عمَّا شأنُه أنْ يَشْغَلَ عن التَّذكُّرِ لِمَا أمَرَ اللهُ ونَهَى، ثُمَّ الأمْرِ بالإنفاقِ في سُبُلِ الخَيرِ في سبيلِ اللهِ، ومَصالِحِ المُسلِمينَ وجماعتِهم، وإسعافِ آحادِهم؛ لِئَلَّا يَستهويَهُم قولُ المُنافِقينَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المُنافِقينَ: 7]، والمُبادَرةِ إلى ذلك قبْلَ إتيانِ الموتِ [164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَشْغَلْكم أموالُكم ولا أولادُكم عن ذِكرِ اللهِ تعالى، كما يَفعَلُ المُنافِقونَ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/670)، ((تفسير الزمخشري)) (4/544)، ((تفسير الرازي)) (30/549، 550)، ((تفسير ابن كثير)) (8/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). قال القرطبي: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي: عن الحَجِّ والزَّكاةِ. وقيل: عن قِراءةِ القُرآنِ. وقيل: عن إدامةِ الذِّكرِ. وقيل: عن الصَّلَواتِ الخَمسِ. قاله الضَّحَّاكُ. وقال الحَسَنُ: جميعُ الفرائِضِ). ((تفسير القرطبي)) (18/129). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالذِّكرِ: الصَّلَواتُ المكتوباتُ: مَكِّيُّ بنُ أبي طالب، والواحديُّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7491)، ((الوسيط)) للواحدي (4/304). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ، وعَطاءٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/670)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/180). وممَّن ذهب إلى أنَّ الذِّكرَ عامٌّ في جميعِ الطَّاعاتِ: ابنُ عطيَّة، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/315)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/92). وقال أبو حيَّان: (هو عامٌّ في الصَّلاةِ، والثَّناءِ على اللهِ تعالى بالتَّسبيحِ والتَّحميدِ وغيرِ ذلك، والدُّعاءِ). ((تفسير أبي حيان)) (10/184). وقال ابنُ عاشور: (ذِكرُ اللهِ ... يَشملُ الذِّكرَ باللِّسانِ؛ كالصَّلاةِ وتِلاوةِ القُرآنِ، والتَّذَكُّرَ بالعَقلِ؛ كالتَّدَبُّرِ في صِفاتِه، واستِحضارِ امتِثالِه). ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الَّذي يَتلَهَّى بذلك عن ذِكرِ اللهِ يَظُنُّ أنَّه يَربَحُ؛ قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، يعني: ولو رَبِحوا في دُنياهم [166] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة)) (2/37). .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
أي: ومَن يُشْغَلْ بأموالِه وأولادِه عن ذِكرِ اللهِ تعالى فأولئك هم الخاسِرونَ حَقًّا [167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/671)، ((تفسير القرطبي)) (18/129)، ((الصلاة)) لابن القيم (ص: 48)، ((تفسير ابن كثير)) (8/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865). .
كما قال الله تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 15] .
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا حَذَّرَ مِنَ الإقبالِ على الدُّنيا؛ رغَّبَ في بَذْلِها؛ مُخالَفةً للمُنافِقينَ [168] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/93). .
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ.
أي: وتَصَدَّقوا -أيُّها المؤمِنونَ- مِمَّا رَزَقْناكم مِن الأموالِ، سواءٌ بالزَّكاةِ المفروضةِ، والنَّفَقاتِ الواجِبةِ، أو بالصَّدَقاتِ المُستَحَبَّةِ [169] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/671)، ((تفسير السمرقندي)) (3/453)، ((تفسير ابن عطية)) (5/315)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/93)، ((تفسير الشوكاني)) (5/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/252، 253). .
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: أَنفِقُوا مِن قَبلِ أن يَنزِلَ بأحَدِكم أسبابُ الموتِ، ويُشاهِدَ حُضورَ عَلاماتِه، فيَقولَ عِندَ احتِضارِه: يا رَبِّ هلَّا أمهَلْتَني فتُؤخِّرَ مَوتي إلى وَقتٍ قَصيرٍ، فأتصدَّقَ وأكونَ مِنَ العامِلينَ بطاعتِك [170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/671)، ((تفسير الزمخشري)) (4/544)، ((تفسير ابن عطية)) (5/315)، ((تفسير ابن كثير)) (8/133)، ((تفسير الشوكاني)) (5/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/252، 253). !
كما قال تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ [إبراهيم: 44، 45].
وقال الله سُبحانَه وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99، 100].
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى زاد في الحَثِّ على المُبادَرةِ بالطَّاعاتِ قبْلَ الفَواتِ، فقال [171] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/97). :
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا.
أي: ولن يُؤَخِّرَ اللهُ أجَلَ أيِّ أحَدٍ، فيَزيدَ في عُمُرِه إذا حَضَرَ وَقتُ مَوتِه [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/673)، ((تفسير ابن كثير)) (8/133)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). .
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي: واللهُ ذو خِبرةٍ تامَّةٍ بالِغةٍ بجَميعِ أعمالِكم؛ خَيرِها وشَرِّها، ظاهِرِها وباطِنِها، ونيَّاتِكم بها، ومَقاصِدِكم منها، لا يَخْفى عليه شَيءٌ مِن ذلك، وسيُجازيكم عليه [173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/673)، ((تفسير القرطبي)) (18/131)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/97)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). قال الرازي: (المفسِّرون على أنَّ هذا خِطابٌ جامِعٌ لكُلِّ عَمَلٍ خَيرًا أو شَرًّا). ((تفسير الرازي)) (30/550). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مُقتضى الإيمانِ ألَّا يُباليَ المؤمِنُ بعِزَّةِ المالِ والوَلَدِ مع عِزَّةِ اللهِ [174] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/240). .
2- ذَمَّ اللهُ تعالى مَن ألهاه مالُه وولدُه عن ذِكْرِه، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [175] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (3/35). .
3- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فيه تَنبيهٌ على المحافظةِ على الذِّكرِ قبْلَ الموتِ [176] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/550). .
4- قال أبو حازمٍ: (كلُّ ما شغلَكَ عن اللهِ من مالٍ أو وَلَدٍ، فهو عليك شُؤمٌ) [177] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/748). .
5- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يأمُرُ اللهُ تعالى عِبادَه المُؤمِنينَ بالإكثارِ مِن ذِكْرِه؛ فإنَّ في ذلك الرِّبحَ والفَلاحَ، والخَيراتِ الكَثيرةَ، ويَنهاهم أن تَشغَلَهم أموالُهم وأولادُهم عن ذِكْرِه؛ فإنَّ محبَّةَ المالِ والأولادِ مَجبولٌ عليها أكثَرُ النُّفوسِ، فتُقَدِّمُها على محبَّةِ اللهِ، وفي ذلك الخَسارةُ العظيمةُ [178] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:865). .
6- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فيه أنَّ الاشتِغالَ بالأموالِ والأولادِ الَّذي لا يُلْهي عن ذِكرِ اللهِ: ليس بمذمومٍ، وله مَراتِبُ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). .
7- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي: العَريقونَ في الخَسارةِ، حتَّى كأنَّهم كانوا مختَصِّينَ بها دونَ النَّاسِ، وذلك ضِدُّ ما أرادوا بتوفيرِ النَّظَرِ إليهم، والإقبالِ عليهم مِن السَّعيِ للتَّكثيرِ والزِّيادةِ والتَّوفيرِ، وفي إفهامِه أنَّ مَن شغَلَه ما يُهِمُّه مِن أمرِ دِينِه الَّذي أمَرَه سبحانه به، ونهاه عن إضاعتِه، وتوَعَّدَه عليها: كفاه سبحانَه أمْرَ دُنياه الَّذي ضَمِنَه له، ونهاه أن يجعَلَه أكبَرَ هَمِّه، وتوعَّدَه على ذلك [180] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/93). .
8- قَولُ الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ هذا إرشادٌ مِنَ اللهِ تعالى للمُؤمِنينَ لِيَكونوا على استِعدادٍ للمَوتِ في كُلِّ وَقتٍ، فلا يُؤَخِّروا ما يُهِمُّهم عمَلُه ونَيلُ ثَوابِه؛ فما مِن أحَدٍ يُؤَخِّرُ العَمَلَ الَّذي يَسُرُّه أن يَعمَلَه ويَنالَ ثَوابَه إلَّا وهو مُعَرَّضٌ لأن يأتيَه الموتُ عن قَريبٍ أو يفاجِئَه؛ فعليه بالتَّحَرُّزِ الشَّديدِ مِن هذا التَّفريطِ في كُلِّ وَقتٍ وحالٍ، فرُبَّما تعَذَّرَ عليه التَّدارُكُ بفجأةِ الفَواتِ، أو وَهْنِ المقدِرةِ؛ فإنَّه إن كان لم تُطاوِعْه نفْسُه على العَمَلِ الصَّالحِ قبْلَ الفَواتِ، فكيف يتمَنَّى تأخيرَ الأجَلِ المحتومِ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). ؟!
9- قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ذكَّرَ اللهُ تعالى المُؤمِنينَ بما في الإنفاقِ مِنَ الخَيرِ بأنَّ عليهِم أنْ يُكثِروا مِنه ما داموا مُقتدِرينَ قبْلَ الفَوْتِ، أي: قبْلَ تعذُّرِ الإنفاقِ والإتيانِ بالأعمالِ الصَّالحةِ، وذلك حِينَ يُحِسُّ المرءُ بحالةٍ تُؤذِنُ بقُرْبِ الموتِ، ويُغلَبُ على قُواهُ، فيَسألُ اللهَ أنْ يؤخِّرَ موتَه ويَشفيَه؛ ليأتيَ بكثيرٍ ممَّا فرَّطَ فيه مِنَ الحسناتِ؛ طمَعًا أنْ يُستجابَ له، فإنْ كان في أجَلِه تأخيرٌ فلعلَّ اللهَ أنْ يستجيبَ له، فإنْ لم يكُنْ في الأجَلِ تأخيرٌ أو لم يُقدِّرِ اللهُ له الاستجابةَ، فاته خَيرٌ كثيرٌ [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
10- قال عزَّ وجَلَّ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ في قَولِه تعالى: مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ إشارةٌ إلى أنَّ الإنفاقَ المأمورَ به شُكرٌ للهِ على ما رَزَق المُنفِقَ؛ فإنَّ الشُّكرَ صَرفُ العَبدِ ما أنعَمَ اللهُ به عليه فيما خُلِقَ مِن أجْلِه، ويُعرَفُ ذلك مِن تِلقاءِ الشَّريعةِ [183] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/252). .
11- في قَولِه تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا حَضٌّ على المبادَرةِ ومسابَقةِ الأجَلِ بالعَمَلِ الصَّالحِ [184] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/316). ؛ حِذارًا أن يجيءَ الأجلُ وقد فرَّط ولم يَستعِدَّ للقاءِ الله [185] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/185). .
12- قال الله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ كُلُّ مُفَرِّطٍ يَندَمُ عندَ الاحتِضارِ، ويَسألُ طُولَ المُدَّةِ ولو شيئًا يسيرًا؛ يَستَعتِبُ ويَستَدرِكُ ما فاته، وهيهاتَ! كان ما كان، وأتَى ما هو آتٍ، وكُلٌّ بحَسَبِ تفريطِه [186] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/133). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إنْ قِيلَ: لِماذا لم يَقُلْ: (لا تَشغَلْكم)؟
فالجوابُ: أنَّ مِن الشُّغلِ ما هو محمودٌ؛ فقد يكونُ شُغلًا في حَقٍّ، كما جاء في الحديثِ: ((إنَّ في الصَّلاةِ لَشُغْلًا)) [187] أخرجه البخاريُّ (1216)، ومسلمٌ (538) من حديث عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه. ، وكما قال تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس: 55] ، أمَّا الإلهاءُ فمِمَّا لا خيرَ فيه، وهو مَذمومٌ على وَجهِ العُمومِ، فاختار ما هو أحَقُّ بالنَّهيِ [188] يُنظر: ((لمسات بيانية)) فاضل السامرائي (ص: 179). .
2- المحبَّةُ الطَّبيعيَّةُ وهي: مَيلُ الإنسانِ إلى ما يُلائِمُ طَبْعَه؛ كمَحَبَّةِ العَطشانِ للماءِ، والجائعِ للطَّعامِ، ومحبَّةِ النَّومِ والزَّوجةِ والوَلَدِ؛ فتلك لا تُذَمُّ إلَّا إذا أَلْهَتْ عن ذِكْرِ اللهِ تعالى، وشَغلَتْ عن مَحَبَّتِه، كما قال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [189] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 190). .
3- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، قولُه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فيه دليلٌ على قَولِ عُلَماءِ أُصولِ الفِقهِ: (النَّهيُ: اقتِضاءُ كَفٍّ عن فِعلٍ) [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/252). .
4- إنَّ كثرةَ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ أمانٌ مِن النِّفاقِ؛ فإنَّ المُنافِقينَ قليلو الذِّكْرِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ في المُنافِقينَ: وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] ، وقال كعبٌ: (مَن أكثَرَ ذِكرَ اللهِ عزَّ وجَلَّ بَرِئَ مِنَ النِّفاقِ)؛ ولهذا -واللهُ أعلمُ- خَتَمَ اللهُ تعالى سورةَ (المُنافِقونَ) بقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ؛ فإنَّ في ذلك تحذيرًا مِن فِتنةِ المُنافِقينَ الَّذين غَفَلوا عن ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فوَقَعوا في النِّفاقِ. وسُئِلَ بعضُ الصَّحابةِ رضيَ اللهُ عنهم عن الخَوارجِ: (مُنافِقونَ هم؟ قال: لا، المُنافِقونَ لا يَذكُرونَ اللهَ إلَّا قليلًا!)، فهذا مِن علامةِ النِّفاقِ؛ قِلَّةُ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ. وكثرةُ ذِكْرِه أمانٌ مِن النِّفاقِ، واللهُ عزَّ وجلَّ أكرَمُ مِن أنْ يَبتليَ قلبًا ذاكرًا بالنِّفاقِ، وإنَّما ذلك لقُلوبٍ غَفَلَتْ عن ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ [191] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 80). .
5- أنَّ دَوامَ الذِّكْرِ لَمَّا كان سببًا لدَوامِ المحبَّةِ، وكان اللهُ سُبحانَه أحقَّ بكمالِ الحُبِّ والعُبوديَّةِ والتَّعظيمِ والإجلالِ؛ كان كثرةُ ذِكْرِه مِن أنْفَعِ ما للعَبدِ، وكان عَدُوُّه حقًّا هو الصَّادَّ له عن ذِكْرِ ربِّه وعبوديَّتِه؛ ولهذا أمَرَ اللهُ سُبحانَه بكَثرةِ ذِكْرِه في القُرآنِ، وجَعَله سببًا للفَلاحِ، فقال تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41] ، وقال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب: 35] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وقال تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [192] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 450). [البقرة: 152] .
6- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ -على القولِ بأنَّ المرادَ بـ ذِكْرِ اللَّهِ: الصَّلاةُ- فيه دَلالةٌ على كُفرِ تاركِ الصَّلاةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى حَكَمَ بالخُسرانِ المُطْلَقِ لِمَن ألهاه مالُه وولدُه عن الصَّلاةِ، والخُسرانُ المُطْلَقُ لا يَحصُلُ إلَّا للكُفَّارِ؛ فإنَّ المُسلِمَ ولو خَسِرَ بذُنوبِه ومَعاصيه فآخِرُ أمْرِه إلى الرِّبحِ، يُوضِّحُه أنَّه سُبحانَه وتعالى أَكَّدَ خُسرانَ تاركِ الصَّلاةِ في هذه الآيةِ بأنواعٍ مِن التأكيدِ:
أحدُها: إتيانُه بلَفظِ الاسمِ الدَّالِّ على ثُبوتِ الخُسرانِ ولُزومِه، دونَ الفِعلِ الدَّالِّ على التَّجَدُّدِ والحُدوثِ.
الثَّاني: تصديرُ الاسمِ بالألفِ واللَّامِ المؤدِّيةِ لحصولِ كَمالِ المُسمَّى لهم؛ فإنَّك إذا قُلْتَ: «زيدٌ العالِمُ الصَّالحُ» أفاد ذلك إثباتَ كمالِ ذلك له، بخلافِ قولِك: «عالِمٌ صالحٌ».
الثالثُ: إتيانُه سُبحانَه بالمُبتدَأِ والخبرِ مَعْرِفتَينِ، وذلك مِن علاماتِ انحصارِ الخبَرِ في المُبتدَأِ، كما في قَولِه تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] ، وقَولِه تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4] ونظائِرِه.
الرَّابعُ: إدخالُ ضَميرِ الفَصلِ بيْنَ المُبتدَأِ والخبَرِ، وهو يفيدُ مع الفَصلِ فائدتَينِ أُخْرَيَينِ: قُوَّةَ الإسنادِ، واختِصاصَ المسنَدِ إليه بالمُسنَدِ، كقَولِه: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحج: 64] ، وقَولِه: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 76] ، وقَولِه: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف: 98] ، ونظائرِ ذلك الدَّليلِ [193] يُنظر: ((الصلاة وأحكام تاركها)) لابن القيم (ص: 48). .
7- في قَولِه تعالى: فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ بيانُ أنَّ مَن ألهَتْه هذه الأشياءُ عن ذِكْرِ اللهِ فهو خاسِرٌ مهما رَبِحَ [194] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/446). .
8- قَولُ الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى لم يُكَلِّفِ العبادَ مِنَ النَّفَقةِ ما يُعنِتُهم ويَشُقُّ عليهم، بل أمَرَهم بإخراجِ جُزءٍ مِمَّا رزَقَهم اللهُ الَّذي يَسَّرَه لهم، ويَسَّرَ لهم أسبابَه [195] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 865). .
9- في قَولِه تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا سُؤالٌ: أنَّه يُشْكِلُ على هذا قولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أحبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِه، ويُنْسَأَ له في أَثَرِه؛ فلْيَصِلْ رَحِمَه)) [196] أخرجه البخاريُّ (5986)، ومسلمٌ (2557) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه. ؛ فإنَّ هذا يُفيدُ بأنَّ الإنسانَ إذا وَصَلَ رَحِمَه زِيدَ في عُمُرِه!
والجواب: أنَّ الَّذي سبَقَ في عِلمِ الله لا يَتغيَّرُ ولا يتبدَّلُ، ومِن ذلك العُمُرُ، فالَّذي في علمِ الله لا يتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ، ويُقالُ له: القضاءُ المبرَمُ، والَّذي في علمِ المَلَكِ هو الَّذي يُمكنُ فيه الزِّيادةُ والنَّقصُ، ويُقالُ له القضاءُ المُعلَّقُ، كأن يُقالَ للمَلَكِ مثلًا: إنَّ عُمرَ فُلانٍ مِئةٌ مثلًا إن وصَل رحِمَه، وسِتُّون إن قطَعها، وقد سبَق في عِلمِ الله أنَّه يصِلُ أو يَقْطعُ. فالزِّيادةُ في العُمُرِ والنَّقصِ تتعلَّقُ بما في عِلمِ الحَفَظةِ والمُوكَّلينَ بالآدَميِّ، كأعمالِ اليَومِ واللَّيلةِ الَّتي تَكتُبُها الملائِكةُ، ويجعَلُ اللهُ لثُبوتِها أسبابًا ولِمَحوِها أسبابًا، لا تتعَدَّى تلك الأسبابُ ما رُسِمَ في اللَّوحِ المحفوظِ، كما جعَلَ اللهُ البِرَّ والصِّلةَ والإحسانَ مِن أسبابِ طُولِ العُمُرِ وسَعةِ الرِّزقِ، وكما جعَلَ المعاصيَ سَببًا لِمَحقِ بَرَكةِ الرِّزقِ والعُمُرِ، وكما جعَلَ أسبابَ النَّجاةِ مِن المهالِكِ والمعاطِبِ سَببًا للسَّلامةِ، وجعَل التَّعَرُّضَ لذلك سببًا للعَطَبِ؛ فهو الَّذي يدَبِّرُ الأمورَ بحَسَبِ قُدرتِه وإرادتِه، وما يُدَبِّرُه منها لا يخالِفُ ما قد عَلِمَه وكتَبَه في اللَّوحِ المحفوظِ [197] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/540)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/416) و(11/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 420). .
وقيل: الحديثُ لا يَعدُو أنْ يكونَ بيانًا لسَبَبِ طولِ العُمُرِ، وليس معناه أنَّ الإنسانَ له عُمرانِ: عُمُرٌ عندَ قطيعةِ الرَّحِمِ، وعُمُرٌ عندَ صِلَةِ الرَّحِمِ؛ لأنَّ المعلومَ عندَ اللهِ والمكتوبَ عندَه عُمُرٌ واحدٌ مَقْرونٌ بسَبَبٍ، وهو صِلَةُ الرَّحِمِ، فإذا وَصَلَ الإنسانُ رَحِمَه عَلِمْنا أنَّ له عُمُرًا واحدًا زائدًا مقرونًا بالسَّبَبِ [198] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/250). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
- لَمَّا نَهَى المُنافِقونَ عن الإنفاقِ على مَن عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأُرِيدَ الحثُّ على الإنفاقِ بقولِه: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون: 10] رغمًا لأنوفِهم، وتحرِّيًا لِمَا هو الأصوَبُ والأصلَحُ؛ جُعِلَ قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ ... تَمهيدًا وتوطِئةً للأمْرِ بالإنفاقِ، وعَمَّ العِلَّةَ والحُكمَ [199] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/441). .
- ونُودِيَ المُخاطَبونَ بطريقِ الموصولِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا؛ لِمَا تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِنَ التَّهَمُّمِ لامتثالِ النَّهيِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). .
- وصِيغَ الكلامُ في قالَبِ توجيهِ النَّهيِ عن الإلهاءِ عن الذِّكْرِ، إلى الأموالِ والأولادِ، والمرادُ نهْيُ أصحابِها، وهو استِعمالٌ معروفٌ، وقرينتُه هُنا قولُه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وهو مُبالَغةٌ في نهْيِ أصحابِها عن الاشتِغالِ بسببِها عن ذِكْرِ اللهِ؛ فنُزِّلَ سَببُ الإلهاءِ مَنزِلةَ اللَّاهي للمُلابَسةِ بيْنَهما [201] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/215)، ((تفسير أبي السعود)) (8/254)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). .
- وخُصَّ الأموالُ والأولادُ بتوجُّهِ النَّهيِ عن الاشتِغالِ بها اشتغالًا يُلْهي عن ذِكْرِ اللهِ؛ لأنَّ الأموالَ ممَّا يكثُرُ إقبالُ النَّاسِ على إنمائِها، والتَّفكيرِ في اكتِسابِها؛ بحيثُ تكونُ أوقاتُ الشُّغلِ بها أكثَرَ مِن أوقاتِ الشُّغلِ بالأولادِ، ولأنَّها كما تَشْغَلُ عن ذِكْرِ اللهِ بصَرْفِ الوقتِ في كَسْبِها ونمائِها، تَشْغَلُ عن ذِكْرِه أيضًا بكَنْزِها؛ بحيثُ يُنسَى ذِكْرُ ما دعا اللهُ إليه مِن إنفاقِها. وأمَّا ذِكْرُ الأولادِ فهو إدماجٌ [202] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ؛ لأنَّ الاشتِغالَ بالأولادِ، والشَّفقةَ عليهم، وتدبيرَ شُؤونِهم، وقَضاءَ الأوقاتِ في التَّأنُّسِ بهِم؛ مِن شأنِه أنْ يُنسِيَ عن تذكُّرِ أمْرِ اللهِ ونهيِه في أوقاتٍ كثيرةٍ؛ فالشُّغلُ بهذَيْنِ أكثَرُ مِنَ الشُّغلِ بغَيرِهما. ومتى كان اللَّهوُ عن ذِكْرِ اللَّهِ بالاشتِغالِ بغَيرِ الأموالِ وغَيرِ الأولادِ، كان أَوْلَى بحُكمِ النَّهيِ، والوعيدِ عليهِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/251، 252). .
- و(لا) في قولِه: وَلَا أَوْلَادُكُمْ نافيةٌ عاطفةٌ أَوْلَادُكُمْ على أَمْوَالُكُمْ، والمعطوفُ عليه مدخولُ (لا) النَّاهيةِ؛ لأنَّ النَّهيَ يتضمَّنُ النَّفيَ؛ إذْ هو طلَبُ عدمِ الفِعلِ، فـ(لا) النَّاهيةُ أصلُها (لا) النَّافيةُ أُشْرِبَتْ معنى النَّهيِ عِندَ قصدِ النَّهيِ، فجزَمَتِ الفِعلَ حملًا على مُضادَّةِ معنى لامِ الأمْرِ، فأُكِّدَ النَّهيُ عن الاشتغالِ بالأولادِ بحرفِ النَّفيِ؛ ليكونَ للاشتغالِ بالأولادِ حظٌّ مِثلُ حظِّ الأموالِ [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/251). .
- قَولُه تعالى: لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وكذلك في قَولِه: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ [سبأ: 37] وقولِه: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28] تقديمُ المالِ على الولدِ؛ وجاء ذِكْرُ البَنينَ مقدَّمًا في غيرِها كما في قَولِه: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا [التوبة: 24] ، وقولِه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14] ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ تقديمَ الأموالِ في تلك المواضعِ الثَّلاثةِ لِأنَّه يَنْتَظِمُها معنًى واحدٌ وهو التَّحذيرُ مِن الاشتغالِ بها، والحرصِ على تحصيلِها حتَّى يَفُوتَه حَظُّه مِن اللهِ والدَّارِ الآخرةِ! فنَهَى في موضعٍ عنِ الالتهاءِ بها، وأخبرَ في موضعٍ أنَّها فِتنةٌ، وأخبرَ في موضعٍ آخَرَ أنَّ الَّذي يُقَرِّبُ عبادَه إليه إيمانُهم وعمَلُهم الصَّالحُ، لا أموالُهم ولا أولادُهم، ففي ضِمْنِ هذا النَّهيُ عن الاشتغالِ بها عمَّا يُقَرِّبُ إليه، ومعلومٌ أنَّ اشتغالَ النَّاسِ بأموالِهم والتَّلاهيَ بها أعظمُ مِنِ اشتغالِهم بأولادِهم، وهذا هو الواقعُ، حتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيستغرقُه اشتغالُه بمالِه عن مصلحةِ وَلَدِه وعن معاشرتِه وقُرْبِه، وأمَّا تقديمُهم على الأموالِ في تَيْنك الآيتَينِ فلِحكمةٍ باهرةٍ؛ وهي أنَّ آيةَ «براءة» متضمِّنةٌ لوعيدِ مَن كانت تلك الأشياءُ المذكورةُ فيها أحَبَّ إليه مِن الجهادِ في سبيلِ اللهِ، ومعلومٌ أنَّ تَصَوُّرَ المجاهدِ فِرَاقَ أهلِه وأولادِه وآبائه وإخوانِه وعشيرتِه تمنعُه مِن الخروجِ عنهم أكثرَ ممَّا يمنعُه مفارقتُه مالَه؛ فإنْ تَصَوَّرَ معَ هذا أنْ يُقتَلَ فيُفَارِقَهم فِراقَ الدَّهرِ؛ نَفَرَتْ نفْسُه عن هذه أكثرَ وأكثرَ، ولا يكادُ عندَ هذا التَّصوُّرِ يَخْطُرُ له مُفارَقةُ مالِه! بل يغيبُ بمُفارَقةِ الأحبابِ عن مفارقةِ المالِ؛ فكان تقديمُ هذا الجنسِ أَولى مِن تقديمِ المالِ.
وأمَّا آيةُ (آل عمران)؛ فإنَّها لما كانت في سياقِ الإخبارِ بما زُيِّن للنَّاسِ مِن الشَّهواتِ التي آثَروها على ما عندَ الله واستَغْنَوا بها، قدَّم ما تَعَلُّقُ الشَّهوةِ به أقوَى، وهو النِّساءُ، التي فتنتُهنَّ أعظمُ فِتنِ الدُّنيا، ثمَّ ذكَر البنينَ المتولِّدينَ منهنَّ، فالإنسانُ يشتهي المرأةَ للَّذةِ والولدِ، وكلاهما مقصودٌ له لذاتِه، ثمَّ ذكَر شهوةَ الأموالِ؛ لأنَّها تُقْصَدُ لغيرِها، فشهوتُها شهوةُ الوسائلِ [205] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/74). .
وقيل: قدَّمَ ذِكْرَ الأموالِ على ذِكْرِ الأولادِ هنا؛ لأنَّها أهمُّ بحسَبِ السِّياقِ [206] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
- قولُه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ في تَخصيصِ ذِكرِ الْخَاسِرُونَ إيماءٌ إلى أنَّ ذلك الإيثارَ في معْنى الاستِبدالِ، الَّذي هو بمَنزلةِ البيعِ والشِّراءِ. وفي التَّعريفِ الجنسيِّ في الْخَاسِرُونَ، وتَوسيطِ ضَميرِ الفصلِ بيْنَه وبيْنَ المبتدأِ؛ إشعارٌ بأنَّ الكاملينَ في الخسارةِ هؤلاء، وأنَّ خَسارَهم فوقَ كلِّ خُسرانٍ؛ حيثُ باعوا العظيمَ الباقيَ بالحقيرِ الفاني، وإنْ رَبِحوا في تجارتِهمُ الظَّاهرةِ، ودخَلَ في هذا العمومِ وعيدُ كلِّ مَن ذَهَلَ عن الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وشُغِلَ عن الأمْرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وعن طلَبِ العِلمِ، وعن النَّصيحةِ للمُسلِمينَ؛ بسببِ مُراعاةِ شأنِ الأموالِ والأولادِ [207] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/441). .
- وأفاد ضميرُ الفَصلِ (هم) في قولِه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قَصْرَ صفةِ الخاسرِ على الَّذينَ يَفعلونَ الَّذي نُهُوا عنه، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [208] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). للمُبالَغةِ في اتِّصافِهِم بالخُسرانِ، كأنَّ خُسرانَ غَيرِهم لا يُعَدُّ خُسرانًا بالنِّسبةِ إلى خُسرانِهم [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/252). .
- والإشارةُ إليهم بقولِه: فَأُولَئِكَ للتَّنبيهِ على أنَّهُمُ اسْتحَقُّوا ما بعْدَ اسمِ الإشارةِ؛ بسببِ ما ذُكِرَ قبْلَ اسمِ الإشارةِ، أَعْني: اللَّهوَ عن ذِكْرِ اللهِ [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/252). .
2- قولُه تعالَى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ هذا إبطالٌ ونقضٌ لكَيدِ المُنافِقينَ حِينَ قالوا: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المنافقون: 7] ، وهو يَعُمُّ الإنفاقَ على المُلتفِّينَ حولَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإنفاقَ على غَيرِهِم؛ فكانت الجملةُ كالتَّذييلِ [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/252). .
- و(مِن) للتَّبعيضِ، أي: وأنفِقوا بعضَ ما رزَقْناكم، وهذه تَوسعةٌ مِنَ اللهِ على عبادِه [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
- قولُه: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فيه تقديمُ المفعولِ أَحَدَكُمُ على الفاعلِ الْمَوْتُ؛ لِلاهتمامِ بما قُدِّمَ، والتَّشويقِ إلى ما أُخِّرَ [213] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/254). .
- قولُه: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (لولا) حرفُ تَحضيضٍ، والتَّحضيضُ الطَّلَبُ الحَثِيثُ المُضْطَرُّ إليه [214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
- وحقُّ الفِعلِ بعدَ (لولا) أنْ يكونَ مُضارِعًا، وإنَّما جاء ماضيًا هنا أَخَّرْتَنِي؛ لتأكيدِ إيقاعِه في دُعاءِ الدَّاعي حتَّى كأنَّه قد تحقَّقَ، وقرينةُ ذلك ترتيبُ فِعْلَيْ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ عليهِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
- ووصْفُ الأجَلِ بـ قَرِيبٍ تَمهيدٌ لتحصيلِ الاستجابةِ، بِناءً على مُتعارَفِ النَّاسِ أنَّ الأمرَ اليسيرَ أرْجَى لِأنْ يَستجيبَه المسؤولُ، فيغلِبَ ذلك على شعورِهم حِينَ يَسألونَ اللهَ فتَنساقُ بذلك نفوسُهم إلى ما عرَفوا [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/253). .
- قولُه: وَأَكُنْ مَجزومٌ بسكونِ آخِرِه، على اعتبارِه جوابًا للطَّلَبِ مُباشَرةً؛ لعدمِ وجودِ فاءِ السَّببيَّةِ فيه، واعتبارِ الواوِ عاطفةً جملةً على جملةٍ، وليستْ عاطفةً مفردًا على مفردٍ؛ وذلك لقَصْدِ تَضمينِ الكلامِ معنى الشَّرطِ زِيادةً على معنى التَّسبُّبِ، فيُغْنِي الجزمُ عن فِعلِ شرطٍ، فتقديرُهُ: إنْ تؤخِّرْني إلى أجَلٍ قريبٍ أكُنْ مِنَ الصَّالِحينَ؛ جمعًا بيْنَ التَّسبُّبِ المُفادِ بالفاءِ، والتَّعليقِ الشَّرطيِّ المُفادِ بجزمِ الفِعلِ. وإذْ قد كان الفِعلُ الأوَّلُ هو المُؤثِّرَ في الفِعلَيْنِ الواقِعِ أحَدُهُما بعْدَ فاءِ السَّببيَّةِ، والآخَرُ بعدَ الواوِ العاطفةِ عليهِ؛ فقَدْ أفاد الكلامُ التَّسبُّبَ والتَّعليقَ في كِلا الفِعلَينِ، وذلك يرجِعُ إلى مُحسِّنِ الاحتباكِ [217] الاحتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصِر إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، فكأنَّه قيل: لولا أخَّرْتني إلى أجَلٍ قريبٍ فأصَّدَّقَ وأكونَ مِن الصَّالحينَ، إنْ تؤخِّرْني إلى أجَلٍ قريبٍ أصَّدَّقْ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحينَ. ومِن لطائفِ هذا الاستعمالِ أنَّ هذا السَّائلَ بعْدَ أنْ بثَّ سؤالَه أعقَبَه بأنَّ الأمْرَ مُمكِنٌ، فقال: إنْ تؤخِّرْني إلى أجَلٍ قريبٍ أصَّدَّقْ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحينَ، وهو مِن بَدائعِ الاستِعمالِ القرآنيِّ لقَصْدِ الإيجازِ وتوفيرِ المعاني [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/254). .
3- قولُه تعالَى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
- قولُه: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا اعتِراضٌ في آخِرِ الكلامِ؛ فالواوُ اعتراضيَّةٌ تذكيرًا للمُؤمِنينَ بالأجَلِ لكلِّ رُوحٍ عندَ حُلولِها في جسدِها حينَ يُؤمَرُ المَلَكُ الَّذي يَنفُخُ الرُّوحَ بكَتْبِ أجَلِه وعمَلِه ورِزقِه، وشقِيٌّ أو سعيدٌ؛ فالأجَلُ هو المُدَّةُ المُعيَّنةُ لحياتِه، لا يُؤَخَّرُ عن أمَدِه، فإذا حضَرَ الموتُ كان دعاءُ المُؤمِنِ اللهَ بتأخيرِ أجَلِه مِنَ الدُّعاءِ الَّذي لا يُستجابُ؛ لأنَّ اللهَ قدَّرَ الآجالَ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). .
- وَلَنْ لتأكيدِ نفيِ التَّأخيرِ. وعمومُ نَفْسًا في سِياقِ النَّفيِ يَعُمُّ نفوسَ المُؤمِنينَ وغَيرِهم [220] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/544)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/255). .
- قولُه: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ عَطْفٌ على جُملةِ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ [المنافقون: 9] ، أو تذييلٌ، والواوُ اعتراضيَّةٌ، ويُفيدُ بِناءُ الخبرِ على الجملةِ الاسميَّةِ تحقيقَ عِلمِ اللهِ بما يعمَلُه المُؤمِنونَ. ولَمَّا كان المُؤمِنونَ لا يُخامِرُهم شكٌّ في ذلك، كان التَّحقيقُ والتَّقَوِّي راجعًا إلى لازمِ الخبرِ، وهو الوعدُ والوعيدُ، والمقامُ هُنا مقامُهما؛ لأنَّ الإنفاقَ المأمورَ به مِنه الواجبُ والمندوبُ، وفِعلُهما يَستحِقُّ الوعْدَ، وترْكُ أوَّلِهما يَستحِقُّ الوعيدَ [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). .
- وأيضًا في قولِه: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ إيثارُ وصْفِ خَبِيرٌ دونَ (عليمٍ)؛ لِمَا تُؤْذِنُ به مادَّةُ خَبيرٍ مِنَ العِلمِ بالأمورِ الخفيَّةِ؛ ليُفِيدَ أنَّه تعالَى عليمٌ بما ظهَرَ مِنَ الأعمالِ وما بَطَنَ؛ مِثلَ أعمالِ القلبِ الَّتي هي العزائمُ والنِّيَّاتُ، وإيقاعُ هذه الجملةِ بعْدَ ذِكْرِ ما يقطَعُه الموتُ مِنِ ازْديادِ الأعمالِ الصَّالحةِ إيماءٌ إلى أنَّ ما عسى أنْ يقطَعَه الموتُ مِنَ العزمِ على العملِ إذا كان وقتُه المُعيَّنُ له شرعًا مُمْتَدًّا، كالعُمرِ للحجِّ على المُستطيعِ لِمَن لم يتوقَّعْ طُرُوَّ مانِعٍ، وكالوقتِ المختارِ للصَّلواتِ؛ أنَّ حَيلولةَ الموتِ دونَ إتْمامِه لا يُرزِئُ المؤمنَ ثَوابَه؛ لأنَّ المؤمنَ إذا اعتادَ حِزبًا، أو عزَمَ على عملٍ صالحٍ، ثمَّ عرَضَ له ما مَنَعَه منه؛ أنَّ اللهَ يُعطِيه أجْرَه [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/256). .