المَبحَثُ الرَّابعُ: بُغضُ أو كراهيةُ بَعْضِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
البُغضُ والكراهةُ ضِدَّ المَحبَّةِ، والمَحبَّةُ مِن شُروطِ لا إلهَ إلَّا اللهُ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (أصلُ كُلِّ فِعلٍ وحَرَكةٍ في العالَمِ من الحُبِّ والإرادةِ، فهو أصلُ كُلِّ فِعلٍ ومَبدَؤُه، كما أنَّ البُغضَ والكراهةَ مانِعٌ وصادٌّ لكُلِّ ما انعقد بسَبَبِه ومادَّتِه، فهو أصلُ كُلِّ تَرْكٍ)
[2204] يُنظر: ((قاعدة في المحبة)) (ص: 7). .
والمرادُ إخلاصُ المَحبَّةِ للهِ عَزَّ وجَلَّ، فلا يكونُ له شريكٌ في الحُبِّ، ومَحبَّةُ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تستلزِمُ مَحبَّةَ أوامِرِه وفِعْلَها، وبُغضَ وكراهيةَ ما نهى عنه وتَرْكَه، ومَحبَّةَ أوليائِه، وضِدُّ ذلك كراهيةُ وبُغضُ أوامِرِه أو بَعْضِها، ومَحبَّةُ معاصيه، وبُغضُ أوليائِه ومَحبَّةُ أعدائِه.
وكراهيةُ الحَقِّ مِن صفاتِ الكافِرينَ.
قال اللهُ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [مُحَمَّد: 9] .قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: هذا الذي فعَلْنا بهم من الإتعاسِ وإضلالِ الأعمالِ؛ مِن أجْلِ أنَّهم كَرِهوا كِتابَنا الذي أنزَلْناه إلى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسَخِطوه، فكَذَّبوا به)
[2205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/194). .
وقال
السَّمعانيُّ: (أي: كَرِهوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وما أنزَلَه اللهُ مِن القُرآنِ)
[2206] يُنظر: ((تفسير القرآن)) (5/171). .
وقال
السَّعديُّ: (ذلك الإضلالُ والتَّعسُ للَّذين كفروا، بسَبَبِ أنَّهم
كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ من القُرآنِ الذي أنزله اللهُ، صلاحًا للعبادِ، وفلاحًا لهم، فلم يَقبَلوه، بل أبغَضوه وكَرِهوه،
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)
[2207] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 785). .
وقال اللهُ سُبحانَه: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 70] . قال
ابنُ جريرٍ: (ولكِنَّ أكثَرَهم للإذعانِ للحَقِّ كارهون، ولاتِّباعِ مُحَمَّدٍ ساخِطون؛ حَسَدًا منهم له، وبغيًا عليه واستِكبارًا في الأرضِ)
[2208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/ 88). .
وقد وصف سُبحانَه المنافِقين بكراهيةِ الحَقِّ أو بَعْضِ الحَقِّ الذي جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التَّوبة: 54] . قال
السَّعديُّ: (
وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ من غيرِ انشراحِ صَدرٍ وثَباتِ نَفسٍ؛ ففي هذا غايةُ الذَّمِّ لِمَن فَعَل مِثْلَ فِعْلِهم)
[2209] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 340). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ [التَّوبة: 81] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وكَرِهَ هؤلاء المخَلَّفون أن يَغْزُوا الكُفَّارَ بأموالِهم وأنفُسِهم في سبيلِ اللهِ، يعني: في دينِ اللهِ الذي شرَعَه لعبادِه لِيَنصُروه؛ مَيلًا إلى الدَّعَةِ والخَفْضِ، وإيثارًا للرَّاحةِ على التَّعَبِ والمشَقَّةِ، وشُحًّا بالمالِ أن يُنفِقوه في طاعةِ اللهِ)
[2210] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 603). .
فقد كَرِهوا الجِهادَ بسَبَبِ ما في قُلوبِهم من النِّفاقِ
[2211] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 442). .
وقد ذَكَر الأئِمَّةُ بُغضَ أو كراهيةَ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو بَعْضِه، ضِمْنَ أقسامِ النِّفاقِ الأكبَرِ.قال
ابنُ تَيميَّةَ: (مِن النِّفاقِ ما هو أكبَرُ، ويكونُ صاحِبُه في الدَّركِ الأسفَلِ مِن النَّارِ؛ كنِفاقِ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وغيرِه؛ بأن يُظهِرَ تكذيبَ الرَّسولِ، أو جُحودَ بَعْضِ ما جاء به أو بُغْضَه، أو عَدَمَ اعتقادِ وُجوبِ اتِّباعِه، أو المسَرَّةَ بانخفاضِ دينِه، أو المساءةَ بظُهورِ دينِه، ونحوَ ذلك مِمَّا لا يكونُ صاحِبُه إلَّا عَدُوًّا لله ورَسولِه، وهذا القَدْرُ كان موجودًا في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما زال بَعْدَه، بل هو بَعْدَه أكثَرُ منه على عَهْدِه)
[2212] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/434). .
وقال
مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (أمَّا النِّفاقُ فهو نوعانِ؛ نفاقٌ اعتقاديٌّ، ونِفاقٌ عَمَليٌّ.
فأمَّا الاعتقاديُّ فهو سِتَّةُ أنواعٍ: تكذيبُ الرَّسولِ، أو تكذيبُ بَعْضِ ما جاء به الرَّسولُ، أو بُغضُ الرَّسولِ، أو بُغضُ ما جاء به الرَّسولُ، أو المسَرَّةُ بانخفاضِ دينِ الرَّسولِ، أو الكراهيةُ لانتِصارِ دينِ الرَّسولِ؛ فهذه الأنواعُ السَّتَّةُ صاحِبُها من أهلِ الدَّركِ الأسفَلِ مِن النَّارِ. نعوذُ باللهِ مِن الشِّقاقِ والنِّفاقِ)
[2213] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/72). .
والبُغضُ والكراهةُ ينافيانِ عَمَلَ القَلْبِ؛ مِن وَجهَينِ:الأوَّل: أنَّ فيه إخلالًا بشَرطِ المَحبَّةِ والتعظيمِ لله عَزَّ وجَلَّ، ومَحبَّةِ أوامِرِه، وأوامِرِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
الثَّاني: أنَّ فيه تركًا للقَبولِ والانقيادِ والتسليمِ، فذلك مقتضى المَحبَّةِ؛ ولذلك كفَّر العُلَماءُ من اتَّصف بهذه الصِّفةِ؛ لأنَّه يعترِفُ للهِ ورَسولِه بكُلِّ ما أخبَرَ به، ويُصَدِّقُ بكُلِّ ما يُصَدِّقُ به المؤمنون، لكِنَّه يَكرَهُ ذلك ويُبغِضُه ويَسخَطُه؛ لعَدَمِ موافقتِه لِمُرادِه ومُشتهاه، ويقولُ: أنا لا أقِرُّ بذلك ولا ألتزِمُه، وأُبغِضُ هذا الحَقَّ وأنفِرُ عنه، وتكفيرُ هذا معلومٌ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ، والقُرآنُ مملوءٌ من تكفيرِ مِثلِ هذا النَّوعِ
[2214] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 971)، ((مجموع الفتاوى)) (14/108)، ((قاعدة في الحبة)) (ص: 193) وجميعها لابن تيمية. .
قال
ابنُ باز: (من أبغضَ شيئًا مِن شَرعِ اللهِ؛ أبغَضَ الصَّلاةَ أو الزكاةَ أو التَّوحيدَ أو الصِّيامَ، وكَرِهَ ذلك، يكونُ كافِرًا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [مُحَمَّد: 9] ، فالواجِبُ على المؤمِنِ أن يحِبَّ ما شرعه اللهُ، وأن يواليَ على ذلك، وأن يحذَرَ ما حَرَّمه الله، وأن يواليَ على ذلك، وأن ينقادَ لشَرعِ اللهِ أينما كان)
[2215] يُنظر: ((سبل السلام شرح نواقض الإسلام)) (ص: 137). .
وقال
ابنُ عثيمين: (مَن أبغَضَ شريعةَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، أو أبغضَ شعيرةً من شعائرِ الإسلامِ، أو أبغض أيَّ طاعةٍ مِمَّا يتعبَّدُ به النَّاسُ في دينِ الإسلامِ؛ فإنَّه كافِرٌ، خارجٌ عن الدِّينِ؛ لقَولِ اللهِ تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [مُحَمَّد: 9] ، ولا حُبوطَ للعَمَلِ إلَّا بالكُفْرِ، فمن كَرِهَ فَرْضَ الصَّلَواتِ، فهو كافِرٌ ولو صَلَّى، ومن كَرِهَ فَرْضَ الزكاةِ، فهو كافِرٌ ولو زكَّى، لكِنْ من استثقلها مع عدمِ الكراهةِ، فهذا فيه خَصلةٌ من خِصالِ النِّفاقِ، لكِنَّه لا يَكفُرُ، وفَرْقٌ بين من استثقل الشَّيءَ، ومن كَرِهَ الشَّيءَ)
[2216] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - جزء عم)) (ص: 334). .
لكن ينبغي التفريقُ بين الكُرهِ والنُّفورِ الطَّبَعيِّ، وبين الكُرهِ الاعتقاديِّ؛ فبَعضُ الصَّحابةِ يومَ بَدٍر كَرِهوا لقاءَ كُفَّارِ قُرَيشٍ كراهةً طبيعيَّةً؛ لعَدَمِ استعدادِهم لقتالِهم، لا كراهةً للحُكمِ الشَّرعيِّ، وقد عاتبهم اللهُ على ذلك، ولم يَكفُروا
[2217] يُنظر: ((تأويلات أهل السنة)) للماتريدي (5/156)، ((البسيط)) للواحدي (10/31)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/189)، ((عناية القاضي وكفاية الراضي)) للخفاجي (4/252). .
قال اللهُ تعالى:
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [الأنفال: 5، 6].
قال
السمعاني: (وذلك أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ كَرِهوا خُروجَه إلى بَدرٍ، وجادلوا فيه، فقالوا: لا نخرُجُ؛ فإنَّا لم نستَعِدَّ للقِتالِ، وليس معنا أُهبةَ الحَربِ)
[2218] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (2/ 249). .
وقال الرَّاغِبُ: (الكَرهُ: المشَقَّةُ التي تَنالُ الإنسانَ من خارجٍ فيما يُحمَلُ عليه بإكراهٍ، والكُرهُ: ما ينالُه من ذاتِه وهو يعافُه، وذلك على ضربينِ؛ أحدهما: ما يعافُ من حيثُ الطَّبعُ، و
الثَّاني: ما يَعافُ من حيثُ العَقلُ أو الشَّرعُ؛ ولهذا يَصِحُّ أن يقولَ الإنسانُ في الشَّيءِ الواحِدِ: إني أريدُه وأكرَهُه، بمعنى أنِّي أريُده من حيثُ الطَّبعُ، وأكرَهُه من حيثُ العَقلُ أو الشَّرعُ، أو أريدُه من حيثُ العَقلُ أو الشَّرعُ، وأكرَهُه من حيثُ الطَّبعُ، وقَولُه:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة: 216] أي: تكرَهونَه من حيثُ الطَّبعُ)
[2219] يُنظر: ((المفردات)) (ص: 707). .
وقال
البَغَويُّ في تفسيرِ قَولِه:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة: 216] : (وهو كُرهٌ لكم، أي: شاقٌّ عليكم، قال بَعْضُ أهلِ المعاني: هذا الكُرهُ من حيثُ نفورُ الطَّبعِ عنه؛ لِما فيه من مُؤنةِ المالِ ومشَقَّةِ النَّفسِ وخَطَرِ الرُّوحِ، لا أنَّهم كَرِهوا أمرَ اللهِ تعالى)
[2220] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/274). .
وقال
القرطبيُّ: (وإنَّما كان الجِهادُ كُرهًا؛ لأنَّ فيه إخراجَ المالِ، ومُفارقةَ الوَطَنِ والأهلِ، والتعَرُّضَ بالجَسَدِ للشِّجاجِ والجِراحِ، وقَطْعِ الأطرافِ وذَهابِ النَّفس،ِ فكانت كراهيتُهم لذلك، لا أنَّهم كَرِهوا فَرْضَ الله تعالى)
[2221] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (3/39). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (وليس من شَرْطِ الرِّضا ألَّا يُحِسَّ بالألمِ والمكارهِ، بل ألَّا يَعتَرِضَ على الحُكْمِ ولا يتسَخَّطَه؛ ولهذا أشكَلَ على بَعْضِ النَّاسِ الرِّضا بالمكروهِ، وطعنوا فيه، وقالوا: هذا ممتنِعٌ على الطبيعةِ، وإنَّما هو الصَّبرُ، وإلَّا فكيف يجتَمِعُ الرِّضا والكراهةُ، وهما ضِدَّان؟! والصَّوابُ: أنَّه لا تناقُضَ بينهما، وأنَّ وجودَ التألُّمِ وكراهةَ النَّفسِ له لا يُنافي الرِّضا، كرِضا المريضِ بشُربِ الدَّواءِ الكَريهِ، ورِضا الصَّائِمِ في اليومِ الشَّديدِ الحَرِّ بما ينالُه من ألمِ الجُوعِ والظَّمَأِ، ورِضا المجاهِدِ بما يحصُلُ له في سبيلِ اللهِ من ألمِ الجراحِ وغَيرِها)
[2222] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (2/173). .