المَبحَثُ السَّابعُ: تكذيبُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو الشَّكُّ في رسالتِه
قال اللهُ تعالى:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكافِرِينَ [الزمر: 32] .
قال
ابنُ كثير: (يقولُ تعالى مخاطِبًا للمُشْرِكين الذين افتَرَوا على اللهِ، وجعلوا معه آلهةً أُخرى، وادَّعَوا أنَّ الملائِكةَ بناتُ اللهِ، وجَعَلوا لله ولَدًا -تعالى اللهُ عن قولهِم عُلُوًّا كبيرًا- ومع هذا كذَّبوا بالحَقِّ إذ جاءهم على ألسِنَةِ رُسُلِ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم أجمعينَ؛ ولهذا قال:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاء أي: لا أحَدَ أظلَمُ من هذا؛ لأنَّه جمع بين طَرَفيِ الباطِلِ؛ كَذَب على الله، وكَذَّب رسولَ اللهِ، قالوا الباطِلَ ورَدُّوا الحَقَّ؛ ولهذا قال متوعِّدًا لهم:
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرينَ وهم الجاحِدون المكَذِّبون)
[2255] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 98). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ؛ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّارِ )) [2256] أخرجه مسلم (153). .
قال ابنُ هُبَيرة: (في هذا الحديثِ مِن الفِقهِ وُجوبُ اتِّباعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونَسْخُ جميعِ الشَّرائعِ بشَرْعِه، فمن كَفَر به؛ لم ينفَعْه إيمانُه بغيرِه من الأنبياءِ صَلَواتُ الله عليهم أجمعينَ)
[2257] يُنظر: ((الإفصاح)) (8/ 191). .
وقال عياضٌ: (من أضاف إلى نَبِيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تعَمُّدَ الكَذِبِ فيما بلَّغه وأخبَرَ به، أو شَكَّ في صِدْقِه، أو سَبَّه، أو قال: إنَّه لم يبَلِّغْ، أو استخَفَّ به أو بأحدٍ مِن الأنبياءِ، أو أزرى عليهم أو آذاهم أو قَتَل نبيًّا أو حاربه؛ فهو كافِرٌ بإجماعٍ)
[2258] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 284). .
وقال
ابنُ قُدامةَ: (من أقَرَّ برسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنكر كَونَه مَبعوثًا إلى العالَمين؛ لا يَثبُتُ إسلامُه حتى يَشهَدَ أنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ إلى الخَلْقِ أجمعين، أو يتبَرَّأَ مع الشَّهادتين من كُلِّ دينٍ يخالِفُ الإسلامَ.
وإن زعم أنَّ محمَّدًا رسولٌ مبعوثٌ بعْدُ، غيْرَ هذا، لَزِمَه الإقرارُ بأنَّ هذا المبعوثَ هو رسولُ اللهِ؛ لأنَّه إذا اقتَصَر على الشَّهادتين، احتمل أنَّه أراد ما اعتَقَده)
[2259] يُنظر: ((المغني)) (12/288). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (مِن النِّفاقِ ما هو أكبَرُ، ويكونُ صاحِبُه في الدَّركِ الأسفَلِ مِن النَّارِ؛ كنِفاقِ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وغيرِه؛ بأن يُظهِرَ تكذيبَ الرَّسولِ، أو جُحودَ بَعْضِ ما جاء به أو بُغْضَه، أو عَدَمَ اعتقادِ وُجوبِ اتِّباعِه، أو المسَرَّةَ بانخفاضِ دينِه، أو المساءةَ بظُهورِ دينِه، ونحوَ ذلك مِمَّا لا يكونُ صاحِبُه إلَّا عَدُوًّا لله ورَسولِه، وهذا القَدْرُ كان موجودًا في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما زال بَعْدَه، بل هو بَعْدَه أكثَرُ منه على عَهْدِه)
[2260] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/434). .
وقال أيضًا: (فأمَّا النِّفاقُ المحْضُ الذي لا رَيْبَ في كُفرِ صاحِبِه فألَّا يرى وجوبَ تصديقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما أخبَرَ به، ولا وجوبَ طاعتِه فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أنَّ الرَّسولَ عظيمُ القَدْرِ عِلمًا وعملًا، وأنَّه يجوزُ تصديقُه وطاعتُه، لكِنَّه يقولُ: إنَّه لا يَضُرُّ اختلافُ المِلَلِ إذا كان المعبودُ واحدًا، ويرى أنَّه تحصُلُ النَّجاةُ والسَّعادةُ بمتابعةِ الرَّسولِ وبغيرِ مُتابعتِه، إمَّا بطريقِ الفَلْسفةِ والصُّبوءِ، أو بطريقِ التهَوُّدِ والتنَصُّرِ)
[2261] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/639). .
وقال
مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (فأمَّا النِّفاقُ الاعتقاديُّ فهو سِتَّةُ أنواعٍ: تكذيبُ الرَّسولِ، أو تكذيبُ بَعْضِ ما جاء به الرَّسولُ، أو بُغضُ الرَّسولِ، أو بُغْضُ ما جاء به الرَّسولُ، أو المسرَّةُ بانخفاضِ دينِ الرَّسولِ، أو الكراهِيَةُ لانتصارِ دين ِالرَّسولِ؛ فهذه الأنواعُ السِّتَّةُ صاحِبُها من أهلِ الدَّركِ الأسفَلِ مِن النَّارِ)
[2262] يُنظر: ((الدرر السنية)) (2/72). .
وقال
ابنُ باز: (وهكذا من شَكَّ في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: لا أعلَمُ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ أم لا، أي: عنده شَكٌّ، فيكونُ حُكْمُه حُكمَ من أنكر الرِّسالةَ أو كَذَّب بها، يكونُ كافِرًا حتى يؤمِنَ يقينًا أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ.
وهكذا المرسَلون الذين بيَّنَهم اللهُ؛ كهُودٍ ونوحٍ وصالحٍ وموسى وعيسى، من شَكَّ في رسالتِهم أو كَذَّبَهم يكونُ كافِرًا)
[2263] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/232). .