المَبحَثُ الثَّاني: سَبُّ الأنبياءِ
قال
ابنُ جريرٍ في تفسيرِ قَولِه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ... الآية
[النساء: 150] : (يعني بذلك جَلَّ ثناؤه:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مِنَ اليهودِ والنَّصارى
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن يُكَذِّبوا رُسُلَ اللهِ، الذين أرسَلهم إلى خَلْقِه بوَحْيِه، ويزعُمون أنَّهم افتَرَوا على رَبِّهم، وذلك هو معنى إرادتِهم التَّفريقَ بين اللهِ ورُسُلِه، بنِحْلَتِهم إيَّاهم الكَذِبَ والفِريةَ على اللهِ، وادِّعائِهم عليهم الأباطيلَ
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ يعني أنَّهم يقولون: نُصَدِّقُ بهذا ونُكَذِّبُ بهذا، كما فعَلَتِ اليَهودُ من تكذيبِهم عيسى ومُحَمَّدًا صلَّى الله عليهما وسلَّم، وتصديقِهم بموسى وسائِرِ الأنبياءِ قَبْلَه بزَعْمِهم، وكما فعَلَت النَّصارى من تكذيبِهم مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتصديقِهم بعيسى وسائِرِ الأنبياءِ قَبْلَه بزَعْمِهم
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا يقولُ: ويُريدُ المفَرِّقون بين اللهِ ورُسُلِه، الزَّاعِمون أنَّهم يؤمِنون ببعضٍ ويَكفُرونَ ببَعضٍ أن يتَّخِذوا بين أضعافِ قَولِهم: نؤمِنُ ببعضِ الأنبياءِ ونكفُرُ ببعضٍ،
سَبِيلًا: يعني طريقًا إلى الضَّلالةِ التي أحدَثوها والبِدْعةِ التي ابتَدَعوها، يَدْعون أهلَ الجَهْلِ من النَّاسِ إليه، فقال جَلَّ ثناؤه لعبادِه، مُنَبِّهًا لهم على ضلالتِهم وكُفْرِهم:
أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا يقولُ: أيُّها النَّاسُ، هؤلاء الذين وصَفْتُ لكم صِفَتَهم هم أهلُ الكُفْرِ بي المستَحِقُّون عذابي والخُلودَ في ناري حَقًّا؛ فاستَيقِنوا ذلك)
[2343] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 634 - 636). .
وقال
ابنُ حزمٍ: (عَلِمْنا بضَرورةِ المشاهَدةِ أنَّ كُلَّ سابٍّ وشاتمٍ فمُستخِفٌّ بالمشتومِ مُستهزئٌ به، فالاستِخفافُ والاستهزاءُ شَيءٌ واحدٌ، ووجَدْنا اللهَ تعالى قد جعل
إبليسَ باستخفافِه بآدَمَ عليه السَّلامُ كافِرًا؛ لأنَّه إذ قال:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [ص: 76] ، فحينئذٍ أمَرَه تعالى بالخروجِ مِنَ الجنَّةِ ودَحرَه، وسمَّاه كافِرًا بقَولِه:
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرينَ [ص: 74] ... فصَحَّ بما ذكَرْنا أنَّ كُلَّ من سَبَّ اللهَ تعالى ... أو سبَّ نبيًّا من الأنبياءِ، أو استهزأ به ... فهو بذلك كافِرٌ مرتَدٌّ، له حُكمُ المرتَدِّ، وبهذا نقولُ)
[2344] يُنظر: ((المحلى)) (11/ 412). .
وقال عِياضٌ: (قال
مالِكٌ في كِتابِ ابنِ حَبيبٍ ومُحَمَّدٍ، وقال ابنُ القاسِمِ، وابن الماجشونَ، وابنُ عبد الحَكَمِ، وأصبغُ، وسحنون، فيمن شتم الأنبياءَ أو أحدًا منهم، أو تنقَّصَه: قُتِلَ ولم يُستَتَبْ، ومن سَبَّهم من أهلِ الذِّمَّةِ: قُتِلَ إلَّا أن يُسلِمَ. وروى سحنون عن ابنِ القاسِمِ: من سَبَّ الأنبياءَ من اليهودِ والنَّصارى بغير الوجهِ الذي بـه كَفَر، فاضرِبْ عُنُقَه، إلَّا أن يُسلِمَ)
[2345] يُنظر: ((الشفا)) (2/302). .
وقال أيضًا: (من أضاف إلى نَبِيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تعَمُّدَ الكَذِبَ فيما بلغه وأخبَرَ به، أو شَكَّ في صِدْقِه، أو سَبَّه أو قال: إنَّه لم يُبَلِّغْ، أو استخَفَّ به أو بأحدٍ من الأنبياءِ، أو أزرى عليهم أو آذاهم أو قتل نبيًّا أو حاربه؛ فهو كافِرٌ بإجماعٍ)
[2346] يُنظر: ((الشفا)) (2/284). .
وقال أيضًا: (حُكمُ من سبَّ سائِرَ أنبياءِ اللهِ تعالى وملائكتِه، واستخَفَّ بهم أو كذَّبهم فيما أتوا به، أو أنكَرَهم وجَحَدهم: حُكْمُ نَبِيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[2347] يُنظر: ((الشفا)) (2/302). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (الحُكْمُ في سَبِّ سائِرِ الأنبياءِ كالحُكْمِ في سَبِّ نَبِيِّنا؛ فمن سَبَّ نبيًّا مُسَمًّى باسمِه من الأنبياءِ المعروفينَ المذكورينَ في القُرآنِ، أو موصوفًا بالنُّبُوَّةِ -مثلُ: أن يَذكُرَ حديثًا أنَّ نبيًّا فعل كذا أو قال كذا، فيَسُبُّ ذلك القائِلَ أو الفاعِـَل، مع العِلْمِ بأنَّه نبيٌّ، وإن لم يَعلَمْ من هو، أو يسُبُّ نوعَ الأنبياءِ على الإطلاقِ- فالحُكْمُ في هذا كما تقَدَّمَ في مسألةِ حُكمِ من سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ الإيمانَ بهم واجِبٌ عُمومًا، وواجِبٌ الإيمانُ خُصوصًا بمن قصَّه اللهُ علينا في كِتابه، وسبُّهم كُفرٌ ورِدَّةٌ إن كان من مُسلِمٍ، ومحاربةٌ إن كان من ذِمِّيٍّ. وقد تقدَّم في الأدِلَّةِ الماضيةِ وهي الأدِلَّةُ على أنَّ سابَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كافِرٌ ما يدُلُّ على ذلك بعمومِه لفظًا أو معنًى، وما أعلَمُ أحدًا فرَّق بينهما، وإن كان أكثَرُ كلامِ الفُقَهاءِ إنَّما فيه ذِكرُ من سبَّ نَبِيَّنا، فإنَّما ذلك لمسيسِ الحاجةِ إليه، وأنَّه وجب التصديقُ له، والطَّاعةُ له جملةً وتفصيلًا، ولا رَيْبَ أنَّ جُرمَ سابِّه أعظَمُ مِن جُرمِ سابِّ غيرِه، كما أنَّ حُرمتَه أعظَمُ مِن حُرمةِ غَيرِه، وإن شاركه سائِرُ إخوانِه من النَّبيِّينَ والمُرسَلين في أنَّ سابَّهم كافِرٌ محاربٌ حلالُ الدَّمِ.
فأمَّا إن سَبَّ نبيًّا غيرَ مُعتَقِدٍ لنُبُوَّتِه فإنَّه يُستَتابُ من ذلك، إذا كان ممَّن عُلِمَت نُبُوَّتُه بالكِتابِ والسُّنَّةِ؛ لأنَّ هذا جَحدٌ لنُبُوَّتِه إن كان ممن يُجهَلُ أنَّه نبيٌّ، وأمَّا إن كان ممَّن لا يُجهَلُ أنَّه نبيٌّ فإنَّه سَبٌّ مَحْضٌ، فلا يُقبَلُ قَولُه: إنِّي لم أعلَمْ أنَّه نبيٌّ)
[2348] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/1048). .
وقال أيضًا: (من خصائِصِ الأنبياءِ أنَّ من سَبَّ نبيًّا مِن الأنبياءِ قُتِلَ باتِّفاقِ الأئِمَّةِ، وكان مرتدًّا، كما أنَّ من كَفَر به وبما جاء به كان مرتدًّا، فإنَّ الإيمانَ لا يتِمُّ إلَّا بالإيمانِ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه)
[2349] يُنظر: ((الصفدية)) (1/261). .
وقال أيضًا: (المُسلِمـون آمَنـوا بهم أي: بالأنبياء كُلِّهم، ولم يُفَرِّقوا بين أحدٍ منهم؛ فإنَّ الإيمانَ بجميعِ النَّبيِّين فرضٌ واجِـٌب، ومن كفر بواحدٍ منهم فقد كَفَر بهم كُلِّهم، ومن سَبَّ نبيًّا من الأنبياءِ فهو كافِرٌ يجِبُ قَتْلُه باتِّفاقِ العُلَماءِ)
[2350] يُنظر: ((الصفدية)) (2/311). .
وقال أيضًا: (الطَّعنُ فيهم أي: في الأنبياءِ طَعنٌ في توحيدِ اللهِ وأسمائِه وصِفاتِه، وكَلامِه ودينِه وشَرائِعِه وأنبيائِه وثوابِه وعِقابِه، وعامَّةِ الأسبابِ التي بينه وبين خَلْقِه، بل يقالُ: إنَّه ليس في الأرضِ مملكةٌ قائمةٌ إلَّا بنُبُوَّةٍ أو أثَرِ نُبُوَّةٍ، وأنَّ كُلَّ خيرٍ في الأرضِ فمن آثار النُّبُوَّاتِ ولا يستريبَنَّ العاقِلُ في هذا، ... وليست أُمَّةٌ مُستمسِكةٌ بالتَّوحيدِ إلَّا أتباعُ الرُّسُلِ؛ قال سُبحانَه وتعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13] ، فأخبَرَ أنَّ دينَه الذي يدعو إليه المرسَلون كَبُرَ على المُشْرِكين، فما النَّاسُ إلَّا تابعٌ لهم أو مُشْرِكٌ، وهذا حَقٌّ لا ريبَ فيه، فعُلِمَ أنَّ سَبَّ الرُّسُلِ والطَّعنَ فيهم يَنبوعُ جميعِ أنواعِ الكُفْرِ، وجماعُ جميعِ الضَّلالاتِ، وكُلُّ كُفرٍ ففَرعٌ منه، كما أنَّ تصديقَ الرُّسُلِ أصلُ جميعِ شُعَبِ الإيمانِ، وجميعُ مجموعِ أسبابِ الهدى)
[2351] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/ 459 - 461). .
من تقريراتِ أئِمَّةِ المذاهبِ حَولَ ذلك:قال ابنُ نجيمٍ الحنفيُّ: (يَكفُرُ إن اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى بِالْكُفْرِ،... وَبِعَدَمِ الْإِقْرَارِ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ، أَو عَيبِه نبيًّا بِشَيْءٍ، أَوْ عَدَمِ الرِّضَا بِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ)
[2352] يُنظر: ((البحر الرائق)) (5/129). .
وقال الدردير المالكيُّ: (من سَبَّ نبيًّا مجمَعًا على نُبُوَّته، أو عرَّض بسَبِّ نبيٍّ، بأن قال عند ذِكْرِه: أمَّا أنا فلستُ بزانٍ أو سارقٍ؛ فقد كَفَر، وكذا إن ألحق بنبيٍّ نَقْصًا، وإنْ ببدَنِه كعَرَجٍ، وشَلَلٍ؛ أو وُفورِ عِلْمِه؛ إذ كُلُّ نبيٍّ أعلَمُ أهلِ زمانِه، وسَيِّدُهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلَمُ الخَلْقِ)
[2353] يُنظر: ((الشرح الصغير مع حاشية الصاوي)) (4/ 435). .
وقال الشربيني الشافعيُّ: (من كذَّب رسولًا أو نبيًّا، أو سبَّه أو استخفَّ به أو باسمِه؛ ... فقد كَفَر)
[2354] يُنظر: ((مغنى المحتاج)) (5/429). .
وقال
مرعي بن يوسف الكرمي الحنبليُّ: (من سَبَّ رسولًا ... كَفَر)
[2355] يُنظر: ((غاية المنتهى)) (2/498) باختصار. .
وقال
ابنُ باز: (لو سَبَّ القُرآنَ أو سَبَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو غيرَه من الأنبياءِ؛ فإنَّه يُستَتابُ، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ، فإنَّ سَبَّ الدِّين أو سَبَّ الرَّسولِ أو سَبَّ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ: من نواقِضِ الإسلامِ)
[2356] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/387). .
وقال أيضًا: (كلُّ من سَبَّ اللهَ سُبحانَه بأيِّ نوعٍ مِن أنواعِ السَّبِّ، أو سَبَّ الرَّسولَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو غَيْرَه من الرُّسُلِ بأيِّ نوعٍ من أنواعِ السَّبِّ، أو سَبَّ الإسلامَ، أو تنقَّص أو استهزأ بالله أو برسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهو كافِرٌ مرتدٌّ عن الإسلامِ إن كان يدَّعي الإسلامَ، بإجماع المُسلِمين؛ لقَولِ الله عَزَّ وجَلَّ:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66] الآية)
[2357] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (7/75). .
وقال
ابنُ عثيمين: (من هَزَل باللهِ، أو بآياتِه الكونيَّةِ أو الشَّرعيَّةِ، أو برُسُلِه، فهو كافِرٌ؛ لأنَّ مُنافاةَ الاستهزاءِ للإيمانِ مُنافاةٌ عَظيمةٌ، كيف يَسخَرُ ويَستهزئُ بأمرٍ يؤمِنُ به؟! فالمؤمِنُ بالشَّيءِ لا بدَّ أن يُعَظِّمَه، وأن يكونَ في قَلْبِه من تعظيمِه ما يليقُ به)
[2358] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/267). .