المَبحَثُ الأوَّلُ: بدايةُ وُقوعِ الشِّرْكِ في الرُّبوبيَّةِ في هذه الأمَّةِ
لعلَّ أوَّلَ شِركٍ منظَّمٍ في هذه الأمَّةِ هو شِرْكُ القَدَريَّةِ الذين أنكَروا القَدَرَ، فأشرَكوا في الرُّبوبيَّةِ بتعطيلِ صفاتِ اللهِ عَزَّ وجلَّ وأفعالِه؛ فإنَّ إنكارَ القَدَرِ يتضَمَّنُ إنكارَ كثيرٍ مِن الصِّفاتِ والأفعالِ، كما أنَّهم أثبَتوا خالِقَينِ
[63] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/322). .
قال
اللَّالكائيُّ: (فلم تَزَلِ الكَلِمةُ مجتَمِعةً والجماعةُ متوافِرةً على عَهدِ الصَّحابةِ الأُوَلِ، ومَن بَعْدَهم من السَّلَفِ الصَّالحين، حتى نبَغَت نابغةٌ بصَوتٍ غيرِ معروفٍ، وكلامٍ غيرِ مألوفٍ، في أوَّلِ إمارةِ المروانيَّةِ في القَدَرِ، وتتكَلَّمُ فيه)
[64] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/15) . .
وأوَّلُ مَن عُرِفَ بإنكارِ القَدَرِ رَجُلٌ مُجوسيٌّ يُقالُ له: سِيسَوَيه، وإن كان قد اشتَهَر أنَّ أوَّلَ مَن قال به مَعبدٌ الجُهَنيُّ
[65] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/384)، ((الخطط)) للمقريزي (4/189). .
ثمَّ ظَهَر بعد ذلك شِركُ
التعطيلِ في أسماءِ اللهِ وصِفاتِه، وكان أوَّلَ مَن عُرِفَ بذلك رجلٌ يُقالُ له: الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (أصلُ هذه المقالةِ -مقالةِ
التَّعطيلِ للصِّفاتِ- إنَّما هو مأخوذٌ عن تلامِذَةِ اليَهودِ والمُشرِكينَ وضُلَّالِ الصَّابئينَ؛ فإنَّ أوَّلَ مَن حُفِظَ عنه أنَّه قال هذه المقالةَ في الإسلامِ -أعني أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى ليس على العَرْشِ حقيقةً، وأنَّ معنى استوى بمعنى استولى، ونحو ذلك- هو الجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ، وأخَذَها عنه
الجَهْمُ بنُ صَفوانَ وأظهَرَها، فنُسِبَت مقالةُ
الجَهميَّةِ إليه. وقد قيل: إنَّ الجَعْدَ أخَذَ مقالتَه عن أبانِ بنِ سمعانَ، وأخَذَها أبانٌ عن طالوتَ ابنِ أختِ لَبِيدِ بنِ الأعصَمِ، وأخَذَها طالوتُ مِن لَبيدِ بنِ الأعصَمِ اليهوديِّ السَّاحِرِ، الذي سحر النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[66] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/20). .
روى
البُخاريُّ في «خَلْقِ أفعالِ العِبادِ» بسَنَدِه، قال: قال خالِدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْريُّ في يومِ أضحى: (ارجِعوا فضَحُّوا تقَبَّلَ اللهُ منكم، فإنِّي مُضَحِّ بالجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ، زعَمَ أنَّ اللهَ لم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، ولم يكَلِّمْ موسى تكليمًا، تعالى اللهُ علوًّا كبيرًا عما يقولُ ابنُ دِرهَمٍ)، ثمَّ نزل فذَبَحَه. قال
أبو عبدِ اللهِ: قال قُتَيبةَ: إنَّ
جَهْمًا كان يأخُذُ الكلامَ مِن الجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ)
[67] أخرجه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص: 29) واللفظ له، والدارمي في ((الرد على الجهمية)) (13)، والبيهقي (21413) .
فتبيَّن من هذا أنَّ الإلحادَ أو شِرْكَ
التعطيلِ في الرُّبوبيَّةِ بتعطيلِ الأسماءِ والصِّفاتِ والأفعالِ: ما هو إلَّا كيدٌ يهوديٌّ لإفسادِ عقيدةِ الإسلامِ الصَّحيحةِ، واليهودُ أنفُسُهم قد ضَلُّوا في بابِ صفاتِ اللهِ ضَلالًا بعيدًا؛ قال تعالى وتقدَّس:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة: 64] ، ونزَّه اللهُ نَفْسَه عن اعتِقادِ اليَهودِ بأنَّه تَعِبَ بعد خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ، وأنَّه استراح يومَ السَّبتِ، فقال سُبحانَه:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] ، وأوَّل من عُرِف بالدَّعوةِ إلى مذهَبِ الرَّافِضةِ هو اليَهوديُّ الماكِرُ:
عبدُ اللهِ بنُ سَبَأٍ.
وقد نشَأَ مذهَبُ الاعتزالِ على يدِ
واصِلِ بنِ عَطاءٍ؛ فأنكَرَ صِفاتِ اللهِ عَزَّ وجلَّ، متأثرًا ب
الجَهميَّةِ، فنفى
المعتَزِلةُ صِفاتِ اللهِ مع إثباتِهم الأسماءَ الحُسنى، فيقولون: اللهُ سميعٌ بلا سمعٍ، وبصيرٌ بلا بَصَرٍ، وعليمٌ بلا عِلمٍ، ورحيمٌ بلا رحمةٍ، وهكذا! ونَفَوا أن يكونَ اللهُ عَزَّ وجلَّ خالقًا لأفعالِ العِبادِ، واعتَقَدوا أنَّ العِبادَ هم الخالِقونَ لأفعالِهم، وحَرَّفوا الآياتِ القُرآنيَّةَ الدَّالَّةَ على الصِّفاتِ وخَلْقِ اللهِ لأفعالِ العِبادِ، وجَعَلوا الأحاديثَ الصَّحيحةَ التي تدُلُّ على خَلْقِ اللهِ سُبحانَه لأفعالِ العِبادِ ظَنِّيَّةً غيرَ مُوجِبةٍ للعَمَلِ؛ اتِّباعًا لأهوائِهم المضِلَّةِ، وإعجابًا بآرائِهم الفاسِدةِ، وجَمَعوا بهذه الأعمالِ الشَّنيعةِ بين شِرْكِ تعطيلِ الصِّفاتِ مع شِرْكِ تعطيلِ الأفعالِ، فما عَبَدوا إلَّا المعدومَ، وما أشبَهوا إلَّا المجوسَ.
وتأثَّر بهم عبدُ اللهِ بنُ سعيدِ بنِ كُلَّابٍ البصريُّ، فهذَّب مذهَبَ الاعتزالِ، وحاول تقريبَه إلى مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ في الصِّفاتِ، ولكِنْ لم يتخَلَّصْ منهم، ثمَّ ظهَر
أبو الحَسَنِ الأشعريُّ، وكان قد أخَذَ عن
الجُبَّائي المُعتزليِّ في أوَّلِ الأمرِ، ولكِنَّه رجع عن الاعتِزالِ إلى مَذهَبِ ابنِ كُلَّابٍ، فألَّف ودافع عنه، فهؤلاء
الأشاعِرةُ المنسوبون إلى
أبي الحسَنِ الأشعريِّ كُلُّهم من أتباعِ ابنِ كُلَّابٍ في الحقيقةِ، وهم من المتأثِّرينَ ب
المعتَزِلةِ في الصِّفاتِ.
ومن الذين تأثَّروا بمذهَبِ
المعتَزِلةِ و
الجَهميَّةِ في زَمَنِ
الأشعريِّ:
أبو منصورٍ الماتُريديُّ؛ حيثُ إنَّه أخَذَ مذهَبَ الاعتزالِ، وأراد أن يتخَلَّصَ منه، ولكِنْ فاته الحَظُّ الأوفَرُ من مذهَبِ السَّلَفِ في الصِّفاتِ.
والمقصودُ: أنَّ
الأشاعِرةَ والماتُريديَّةُ قد تأثَّروا ببِدْعةِ
الجَهْميَّةِ في إنكارِ الصِّفاتِ وتأويلِها وتعطيلِها، ورائِدُهم في ذلك:
جَهمُ بنُ صَفوانَ الذي ابتدَعَ هذه
البِدعةَ في زمانِ أئمَّةِ التابعينَ وأتباعِهم.
وفي ذاتِ الوَقتِ وقَعَ شِرْكُ التشبيهِ باللهِ جَلَّ شأنُه، وسُمِّي أصحابُه مُشَبِّهةً، وهم صنفانِ: صِنفٌ شَبَّهوا ذاتَ الباري بذاتِ غَيرِه، وصِنفٌ آخَرُ شَبَّهوا صفاتِه بصِفاتِ غيرِه، وكُلُّ صِنفٍ مِن هذينِ الصِّنفَينِ مُفتَرِقونَ على أصنافٍ شَتَّى
[68] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/44)، ((الفرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 214)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/93). . فالمشَبِّهةُ كثيرون، ولعَلَّ مِن أوائلِهم: هشامَ بنَ الحَكَمِ الرَّافِضيَّ الذي شَبَّه معبودَه بالإنسانِ، وزعم لأجْلِ ذلك أنَّه سبعةُ أشبارٍ بشِبرِ نَفْسِه، وأنَّه جِسمٌ ذو حَدٍّ ونهايةٍ، وتَبِعَه هشامُ بنُ سالمٍ الجواليقيُّ الذي زَعَم أنَّ معبودَه على صورةِ الإنسانِ، وأنَّ نِصْفَه الأعلى مُجَوَّفٌ، ونِصْفَه الأسفَلَ مُصمَتٌ، وأنَّ له شَعرةً سوداءً وقلبًا ينبعُ منه الحِكمةُ
[69] يُنظر: ((الفرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 216). .
وتَبِعَهما الغُلاةُ مِن الرَّافِضةِ في التشبيهِ
[70] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/44)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 48)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/93). . كما تأثَّر بهما جماعةٌ من
المعتَزِلةِ وغَيرِهم
[71] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 228). .
وبعدَ ظُهورِ شِركِ تعطيلِ الصِّفاتِ بزمَنٍ يسيرٍ ظَهَر شِرْكُ وَحدةِ الوُجودِ، وهو شِرْكُ تعطيلِ مُعاملةِ اللهِ سُبحانَه عمَّا يجِبُ على العَبدِ مِن حقيقةِ التَّوحيدِ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (ومِن هذا شِرْكُ أهلِ وَحدةِ الوُجودِ، الذين يقولون: ما ثَمَّ خالِقٌ ومخلوقٌ، ولا هاهنا شيئانِ، بل الحَقُّ المنَزَّهُ هو عَينُ الخَلْقِ المشَبَّهِ!)
[72] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 130). .
ولعَلَّ أوَّلَ مَن قال بهذه المقالةِ الشَّنيعةِ في هذه الأمَّةِ هو الحُسَينُ بنُ منصورٍ الحَلَّاجُ.
قال
الملَّا علي القاري: (أجمَعَ فُقَهاءُ بغدادَ أيَّامَ المقتَدِرِ باللهِ على قَتْلِ الحَلَّاجِ؛ لدعواه الأُلوهيَّةَ، والقَولِ بالحلولِ، وقَولِه: أنا الحَقُّ، وما في الجُبَّةِ إلَّا اللهُ، مع تمسُّكِه في الظَّاهِرِ من حالِه بالشَّريعةِ، ولم يقبَلوا توبتَه؛ حيثُ عَدُّوه زِنْديقًا، وإن كان في الصُّورةِ صِدِّيقًا)
[73] يُنظر: ((الرد على القائلين بوحدة الوجود)) (ص: 131). .
والقولُ بالحُلولِ والاتِّحادِ قد حاز السَّبْقَ فيه
ابنُ سَبَأٍ اليَهوديُّ وأتباعُه، وقد وُجِدَ مِثلُ هذا في غُلاةِ الرَّافِضةِ قَديمًا
[74] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/32)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 11)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/173). .
والمقصودُ: بيانُ أنَّ الأصنافَ السَّابقةَ قد وقَعَت في الشِّرْكِ باللهِ سُبحانَه وتعالى بتعطيلِ حقيقةِ التَّوحيدِ؛ فمنهم من أنكَرَ القَدَرَ، ومنهم من عَطَّل صِفاتِ الرَّبِّ سُبحانَه، ومنهم من شَبَّه اللهَ تعالى بخَلْقِه، ومنهم من ادَّعى الحُلولَ، ومنهم من ادَّعى الاتِّحاَد، كما أنَّ فريقًا آخَرَ منهم ادَّعى الوَحْدةَ، وهم أكفَرُ وأشَدُّ شِركًا باللهِ من اليَهودِ والنَّصارى؛ فاليهودُ قالوا بحُلولِ الرَّبِّ في ذاتِ عُزَيرٍ، وقالت النَّصارى بحُلولِه في ذاتِ المسيحِ، ولكِنْ هؤلاء قالوا بحُلولِ اللهِ سُبحانَه في كُلِّ شَيءٍ، حتى في أنجَسِ الحيواناتِ، وأنتَنِ الأماكِنِ، وأخبَثِ البِقاعِ! تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظَّالِمونَ عُلُوًّا كبيرًا.
فهذا استعراضٌ مُجمَلٌ لخَطِّ الانحرافِ العَقَديِّ الشِّركيِّ في هذه الأمَّةِ في الرُّبوبيَّةِ التي تتضَمَّنُ الشِّرْكَ في الألوهيَّةِ أيضًا ب
التعطيلِ.