المَطلَبُ الثَّالِثُ: المَشروعُ مِن التبَرُّكِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
إنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم قد تَبَرَّكوا في حياةِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذاتِه الشَّريفةِ، وبآثارِه الحِسَّيَّةِ المنفَصِلةِ منه، وقد أقَرَّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك ولم يُنكِرْ عليهم، ثمَّ تَبَرَّكوا هم ومَن بَعْدَهم مِنَ السَّلَفِ بآثارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعْدَ وفاتِه، من غيرِ أن يصاحِبَ هذا التبَرُّكَ شَيءٌ مِن الغلُوِّ أو المعارَضةِ لتوحيدِ الأُلُوهِيَّةِ أو الرُّبوبيَّةِ
[548] يُنظر: ((التبرك أنواعه وأحكامه)) لناصر الجديع (ص: 243). .
وهذه نماذِجُ لتَبَرُّكِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
أوَّلًا: تَبَرُّكُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بأعضاءِ جَسَدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:1- عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا اشتكى يقرَأُ على نَفْسِه بالمعَوِّذاتِ، ويَنفُثُ، فلمَّا اشتَدَّ وَجَعُه كنتُ أقرَأُ عليه وأمسَحُ عنه بيَدِه؛ رَجاءَ بَرَكتِها)) [549] أخرجه البخاري (5016)، ومسلم (2192) واللَّفظُ له. .
2- عن
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صَلَّى الغَداةَ جاء خَدَمُ المدينةِ بآنِيَتِهم فيها الماءُ، فما يُؤتى بإناءٍ إلَّا غَمَس يَدَه فيها، فرُبَّما جاؤُوه في الغَداةِ البارِدةِ، فيَغمِسُ يَدَه فيها )) [550] أخرجه مسلم (2324). .
3- عن أبي جُحَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال:
((خَرَج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالهاجِرةِ إلى البَطحاءِ، فتوَضَّأَ ثمَّ صَلَّى الظُّهرَ ركعتَينِ والعَصْرَ ركعتَينِ ))، وفيه:
((وقام النَّاسُ فجعَلَوا يأخُذونَ يَدَيه، فيَمْسَحون بها وُجوهَهم))، قال:
((فأخَذْتُ بيَدِه فوضَعْتُها على وَجْهِي، فإذا هي أبرَدُ مِنَ الثَّلجِ، وأطيَبُ رائِحةً مِنَ المسْكِ )) [551] أخرجه البخاري (3553) واللَّفظُ له، ومسلم (503). .
ثانيًا: تَبَرُّكُهم بما انفَصَل منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم1- التبَرُّكُ بشَعرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.عن
أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتى مِنًى، فأتى الجَمْرةَ فرَماها، ثمَّ أتى مَنزِلَه بمًنى ونَحَر، ثمَّ قال للحَلَّاقِ: ((خُذْ))، وأشار إلى جانِبِه الأيمَنِ، ثمَّ الأيسَرِ، ثمَّ جَعَل يُعْطيه النَّاسَ )) [552] أخرجه مسلم (1305). .
وفي روايةٍ:
((فبدأ بالشِّقِّ الأيمَنِ، فوَزَّعَه الشَّعرةَ والشَّعرتينِ بين النَّاسِ، ثمَّ قال بالأيسَرِ فصَنَع به مِثلَ ذلك، ثمَّ قال: هاهنا أبو طلحةَ؟ فدفَعَه إلى أبي طَلْحةَ )) [553] أخرجه البخاري (171) بنحوه مختصرًا، ومسلم (1305) واللَّفظُ له، من حديثِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وعن
أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((لقد رأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والحَلَّاقُ يَحلِقُه، وأطاف به أصحابُه، فما يُريدونَ أن تَقَعَ شَعْرةً إلَّا في يَدِ رَجُ لٍ)) [554] أخرجه مسلم (2325). .
2- التبَرُّكُ برِيقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.عن
أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّها حَمَلت ب
عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ بمكَّةَ ... قالت:
((فأتيتُ المدينةَ فنزَلَت بقُباءَ، فولَدْتُه بقُباءَ، ثمَّ أتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوَضَعَه في حِجْرِه، ثمَّ دعا بتَمرةٍ فمَضَغَها، ثمَّ تَفَل في فيه، فكان أوَّلَ شَيءٍ دَخَل جوفَه ريقُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ... ثمَّ حَنَّكَه بالتَّمرةِ )) [555] أخرجه البخاري (3909)، ومسلم (2146) واللَّفظُ له. .
3- التبَرُّكُ بعَرَقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.عن
أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدخُلُ بيتَ أمِّ سُلَيمٍ، فينام على فِراشِها وليست فيه، فجاء ذاتَ يومٍ فنام على فِراشِها، فأُتِيَت فقيل لها: هذا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نام في بَيْتِك على فراشِك! فجاءت وقد عَرِقَ، واستَنقَعَ عَرَقُه على قِطعةِ أديمٍ على الفِراشِ، ففَتَحَت عَتيدتَها، فجَعَلت تُنَشِّفُ ذلك العَرَقَ فتَعصِرُه في قواريرِها، ففَزِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال:
((ما تصنعينَ يا أُمَّ سُلَيمٍ؟)) فقالت: يا رَسولَ اللهِ نرجو بركَتَه لصِبْيانِنا، قال:
((أصَبْتِ)) [556] أخرجه البخاري (6281) مختصرًا، ومسلم (2331) واللَّفظُ له. .
ثالثًا: تَبَرُّكُهم بما لَبِسَه أو لَمَسَه أو فضَلَ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:1- التبَرُّكُ بثيابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمعن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((جاءت امرأةٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببُردةٍ -فقال سَهلٌ للقَومِ: أتدْرُونَ ما البُرْدةُ؟ فقال القَومُ: هي شَمْلةٌ، فقال سَهلٌ: هي شَملةٌ منسوجةٌ، فيها حاشيتهُا- فقالت: يا رَسولَ اللهِ، أكسوك هذه؟ فأخذها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم محتاجًا إليها فلَبِسَها، فرآها عليه رجلٌ من الصَّحابةِ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما أحسَنَ هذه! فاكسِنيها، فقال: نعم، فلمَّا قام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لامه أصحابُه، فقالوا: ما أحسَنْتَ حين رأيتَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخذَها محتاجًا إليها، ثمَّ سأَلْتَه إيَّاها، وقد عَرَفْتَ أنَّه لا يُسأَلُ شيئًا فيَمنَعُه! فقال: رجوتُ بركَتَها حين لَبِسَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لعلِّي أُكَفَّنُ فيها )) [557] أخرجه البخاري (6036). .
وعن أمِّ عَطِيَّةَ الأنصاريَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطى اللَّاتي يُغَسِّلْنَ ابنَتَه إزارَه، وقال:
((أشْعِرْنَها إيَّاه)) [558] أخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939). .
قال النَّوويُّ: (معنى
((أَشْعِرْنَها إيَّاه)): اجعَلْنَه شِعارًا لها، وهو الثَّوبُ الذي يلي الجَسَدَ، سُمِّيَ شِعارًا؛ لأنَّه يلي شَعرَ الجَسَدِ، والحِكمةُ في إشعارِها به تبريكُها به)
[559] يُنظر: ((شرح مسلم)) (7/3). .
2- التبَرُّكُ بمواضِعِ أصابعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمعن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يصنَعُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طعامًا، فإذا جيءَ به إليه سأل عن مَوضِعِ أصابعِه، فيَتتَبَّعُ مَوضِعَ أصابِعِه
[560] أخرجه مسلم (2053). .
3- التبَرُّكُ بماءِ وُضوئِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمعن أبي جُحَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (خرج علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالهاجِرةِ، فأُتي بوَضوءٍ فتوَضَّأَ، فجَعَل النَّاسُ يأخُذونَ مِن فَضلِ وَضوئِه، فيتمَسَّحون به)
[561] أخرجه البخاري (187) واللَّفظُ له، ومسلم (503). .
رابعًا: التبَرُّكُ بآثارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وَفاتِه:عن
أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّها أخرجت جُبَّةَ طيالِسةٍ، وقالت: (هذه كانت عند
عائِشةَ حتى قُبِضَت، فلمَّا قُبِضَت قَبَضْتُها، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَلبَسُها، فنحن نَغسِلُها للمَرضى؛ يُستشفَى بها)
[562] أخرجه ومسلم (2069). .
وعن عُثمانَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مَوهبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (أرسلَنَي أهلي إلى
أمِّ سَلَمةَ -زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بقَدحٍ مِن ماءٍ... فيه شَعرٌ مِن شَعرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان إذا أصاب الإنسانَ عَينٌ أو شيءٌ بَعَث إليها مِخْضَبَه...)
[563] أخرجه البخاري (5896). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (المرادُ أنَّه كان من اشتكى أرسل إناءً إلى
أمِّ سَلَمةَ، فتَجعَلُ فيه تلك الشَّعراتِ، وتَغسِلُها فيه، وتُعيدُه فيَشرَبُه صاحِبُ الإناءِ، أو يغتَسِلُ به؛ استِشفاءً بها، فتحصُلُ له بركَتُها)
[564] يُنظر: ((فتح الباري)) (10/353). .
وحُكمُ التبَرُّكِ بآثارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باقٍ على مَشروعيَّتِه، فهو غيرُ مقتَصِرٍ على الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أو التَّابعين فقط، ولكِنْ قد ثبت عن عَمرِو بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (ما ترك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند مَوتِه دِرْهمًا ولا دينارًا، ولا عبدًا ولا أمَةً، ولا شيئًا، إلَّا بَغْلَتَه البَيضاءَ، وسِلاحَه، وأرضًا جعَلَها صَدَقةً)
[565] أخرجه البخاري (2739). .
وهذا يدُلُّ على قِلَّةِ ما خَلَّفَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد موتِه مِن أدواتِه الخاصَّةِ، وهذا القليلُ مفقودٌ أيضًا.
قال
الألبانيُّ: (لا بدَّ مِن الإشارةِ إلى أنَّنا نؤمِنُ بجوازِ التبَرُّكِ بآثارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا نُنكِرُه، خِلافًا لِما يوهمُه صنيعُ خُصومِنا، ولكِنَّ لهذا التبَرُّكِ شُروطًا؛ منها: الإيمانُ الشَّرعيُّ المقبولُ عند اللهِ، فمن لم يكُنْ مُسلِمًا صادِقَ الإسلامِ، فلن يحقِّقَ اللهُ له أيَّ خيرٍ بتَبَرُّكِه هذا، كما يُشتَرَطُ للرَّاغِبِ في التبَرُّكِ أن يكونَ حاصِلًا على أثَرٍ مِن آثارِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَستعمِلَه، ونحن نعلَمُ أنَّ آثارَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من ثيابٍ أو شَعرٍ أو فَضلاتٍ قد فُقِدَت، وليس بإمكانِ أحدٍ إثباتُ وجودِ شيءٍ منها على وَجْهِ القَطعِ واليَقينِ)
[566] يُنظر: ((التوسل أنواعه وأحكامه)) (ص: 144). ويُنظر: ((التبرك أنواعه وأحكامه)) لناصر الجديع (ص: 243 - 260). .
ويبقى التبَرُّكُ الأسمى والأعلى بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، باتِّباعِ سُنَّتِه والاقتداءِ به.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (... كما كان أهلُ المدينةِ لَمَّا قَدِمَ عليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بركتِه، لَمَّا آمنوا به وأطاعوه؛ فببركةِ ذلك حصل لهم سعادةُ الدُّنيا والآخرةِ، بل كُلُّ مؤمنٍ آمَنَ بالرَّسولِ وأطاعه حصل له من بركةِ الرَّسولِ بسَبَبِ إيمانِه وطاعتِه من خيرِ الدُّنيا والآخرةِ ما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ)
[567] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/113). ويُنظر: ((التبرك أنواعه وأحكامه)) لناصر الجديع (ص: 317). .