الفرعُ السابعُ: مِن فَضائِلِ شَهادةِ لا إلهَ إلَّا اللهُ: أنَّها سَبَبٌ لدُخولِ الجنَّةِ.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسولُ اللهِ: لا يَلْقَى اللهَ بهما عَبدٌ غَيرَ شاكٍّ فيهما، إلَّا دخَلَ الجنَّةَ )) [630] أخرجه مسلم (27). .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، وأنَّ مُحمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ اللهِ وابنُ أَمَتِه، وكَلِمَتُه ألقاها إلى مريمَ، ورُوحٌ منه، وأنَّ الجنَّةَ حَقٌّ، وأنَّ النَّارَ حَقٌّ؛ أدخَلَه اللهُ الجنَّةَ على ما كان مِن عَمَلٍ )) [631] أخرجه البخاري (3435)، ومسلم (28). .
وعن عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن مات وهو يَعلَمُ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ دَخَل الجنَّةَ )) [632] أخرجه مسلم (26). .
قال عِياض: (كُلُّ من مات على الإيمانِ، وشَهِدَ مُخلِصًا من قَلْبِه بالشَّهادتينِ، فإنَّه يدخُلُ الجنَّةَ)
[633])) يُنظر: ((إكمال المعلم)) (1/255). .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (قال طائِفةٌ مِنَ العُلَماءِ: إنَّ كَلِمةَ التَّوحيدِ سَبَبٌ مُقتَضٍ لدُخولِ الجنَّةِ، وللنَّجاةِ مِنَ النَّارِ، لكِنْ له شُروطٌ، وهي الإتيانُ بالفرائِضِ، وموانِعُ، وهي إتيانُ الكبائِرِ. قال الحَسَنُ
للفَرزدَقِ: إنَّ لِلَا إلهَ إلَّا اللهُ شُروطًا، فإيَّاكَ وقَذْفَ المُحصَنةِ. ورُوِيَ عنه أنَّه قال: هذا العمودُ، فأين الطُّنُبُ؟ يعني: أنَّ كَلِمةَ التَّوحيدِ عُمودُ الفُسطاطِ، ولكِنْ لا يَثبُتُ الفُسطاطُ بدُونِ أطنابِه، وهي فِعلُ الواجِباتِ، وتَرْكُ المحَرَّماتِ.
وقيل
للحَسَنِ: إنَّ ناسًا يقولون: من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، دَخَل الجنة، فقال: من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فأدَّى حَقَّها وفَرْضَها، دَخَل الجنَّةَ.
وقيل لوهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ: أليس لا إلهَ إلَّا اللهُ مِفتاحُ الجنَّةِ؟ قال: بلى، ولكِنْ ما مِن مِفتاحٍ إلَّا وله أسنانٌ، فإنْ جِئتَ بمِفتاحٍ له أسنانٌ، فُتِحَ لك، وإلَّا لم يُفتَحْ لك... فتبيَّنَ بهذا أنَّه لا يَصِحُّ تحقيقُ معنى قَولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ إلَّا لِمَن لم يكُنْ في قَلْبِه إصرارٌ على مَحَبَّةِ ما يَكرَهُه اللهُ، ولا على إرادةِ ما لا يُريدُه الله، ومتى كان في القَلبِ شَيءٌ مِن ذلك، كان ذلك نَقصًا في التَّوحيدِ، وهو نوعٌ مِن الشِّرْكِ الخَفِيِّ؛ ولهذا قال مجاهِدٌ في قَولِه تعالى:
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام: 151] قال: لا تُحِبُّوا غَيري)
[634] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 522 - 525). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ أيضًا: (أحاديثُ هذا البابِ نوعانِ:
-
أحَدُهما: ما فيه أنَّ من أتى بالشَّهادتينِ دَخَل الجنَّةَ ولم يُحجَبْ عنها، وهذا ظاهِرٌ؛ فإنَّ النَّارَ لا يُخلَّدُ فيها أحدٌ مِن أهلِ التَّوحيدِ الخالِصِ، بل يدخُلُ الجنَّةَ ولا يُحجَبُ عنها إذا طَهُرَ مِن ذُنوبِه بالنَّارِ، وقد يعفو اللهُ عنه فيُدخِلُه الجنَّةَ بلا عِقابٍ...
-
الثَّاني: ما فيه أنَّه يَحرُمُ على النَّارِ، وهذا قد حَمَله بَعضُهم على الخُلودِ فيها، أو على ما يُخلَّدُ فيها أهلُها، وهي ما عدا الدَّركَ الأعلى، فإنَّ الدَّركَ الأعلى يدخُلُه خلقٌ كَثيرٌ مِن عُصاةِ المُوَحِّدينَ بذُنوبِهم، ثمَّ يَخرُجونَ بشَفاعةِ الشَّافِعينَ، وبرَحمةِ أرحَمِ الرَّاحِمينَ... وقالت طائفةٌ مِنَ العُلَماءِ: المرادُ مِن هذه الأحاديثِ أنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ سبَبٌ لدُخولِ الجنَّةِ والنَّجاةِ مِنَ النَّارِ، ومُقتَضٍ لذلك، ولكِنَّ المقتَضي لا يَعمَلُ عَمَلَه إلَّا باستِجماعِ شُروطِه، وانتِفاءِ موانِعِه، فقد يتخَلَّفُ عنه مُقتضاه؛ لفواتِ شَرْطٍ مِن شُروطِه، أو لوُجودِ مانعٍ، وهذا قَولُ الحسَنِ ووَهبِ بنِ مُنَبِّهٍ، وهو الأظهَرُ)
[635] يُنظر: ((كلمة الإخلاص وتحقيق معناها)) (ص: 12). .
وقال
ابنُ رجَبٍ أيضًا: (هذه الكَلِمةُ إذا صدَقَت طَهَّرت القَلبَ مِن كُلِّ ما سوى اللهِ، ومتى بَقِيَ في القَلبِ أثَرٌ سوى اللهِ فمن قِلَّةِ الصِّدقِ في قَولِها؛ مَن صَدَق في قَولِ لا إلهَ إلَّا اللهُ لم يُحِبَّ سِواه، ولم يَرْجُ سِواه، ولم يَخْشَ أحدًا إلَّا اللهَ، ولم يتوكَّلْ إلَّا على اللهِ، ولم يَبْقَ له بقيَّةٌ مِن آثارِ نَفْسِه وهَواه، ومع هذا فلا تظُنُّوا أنَّ المحِبَّ مطالَبٌ بالعِصمةِ، وإنَّما هو مطالَبٌ كُلَّما زَلَّ أن يتلافى تلك الوَصْمةَ)
[636] يُنظر: ((كلمة الإخلاص وتحقيق معناها)) (ص: 44). .
قال
ابنُ حَجَر: (قال النَّوويُّ بعد أن ذَكَر المتونَ في ذلك: "والاختِلافُ في هذا الحُكمِ مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ بأجمَعِهم أنَّ أهلَ الذُّنوبِ في المشيئةِ، وأنَّ من مات مُوقِنًا بالشَّهادتينِ يَدخُلُ الجنَّةَ، فإن كان تائِبًا أو سليمًا مِن المعاصي دخَلَ الجنَّةَ برَحمةِ اللهِ، وحُرِّم على النَّارِ، وإن كان من المخَلِّطينَ بتَضييعِ الأوامِرِ أو بَعْضِها، وارتكابِ النَّواهي أو بَعضِها، ومات عن غيرِ تَوبةٍ؛ فهو في خَطَرِ المشيئةِ، وهو بصَدَدِ أن يَمضي عليه الوعيدُ إلَّا أن يشاءَ اللهُ أنْ يعفوَ عنه، فإن شاء أن يُعَذِّبَه فمصيرُه إلى الجنَّةِ بالشَّفاعةِ" انتهى. وعلى هذا فتَقييدُ اللَّفظِ الأوَّلُ تقديرُه: وإن زنى وإن سرَقَ دخَلَ الجنَّةَ، لكِنَّه قبل ذلك إن مات مُصِرًّا على المعصيةِ، في مشيئةِ اللهِ، وتقديرُ
الثَّاني: حَرَّمه اللهُ على النَّارِ إلَّا أن يشاءَ اللهُ، أو حَرَّمه على نارِ الخُلودِ. والله أعلمُ.
قال الطِّيبي: قال بعضُ المحَقِّقين: قد يَتِّخِذُ من أمثالِ هذه الأحاديثِ المُبطِلةُ ذريعةً إلى طَرحِ التكاليفِ، وإبطالِ العَمَلِ؛ ظَنًّا أنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ كافٍ، وهذا يستلزِمُ طَيَّ بِساطِ الشَّريعةِ، وإبطالَ الحُدودِ، وأنَّ الترغيَب في الطَّاعةِ والتَّحذيرَ عن المعصيةِ لا تأثيرَ له، بل يقتضي الانِخلاعَ عن الدِّينِ، والانحِلالَ عن قَيدِ الشَّريعةِ، والخُروجَ عن الضَّبطِ، والوُلوجَ في الخَبطِ، وتَرْكَ النَّاسِ سُدًى مُهمَلِينَ، وذلك يُفضي إلى خرابِ الدُّنيا بعد أن يُفضيَ إلى خرابِ الأُخرى، مع أنَّ قَولَه في بعضِ طُرُقِ الحديثِ:
((أن يَعبُدوه)) يتضَمَّنُ جميعَ أنواعِ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ، وقَولَه:
((وَلَا يُشْرِكُوا به شيئًا)) يشمَلُ مُسَمَّى الشِّرْكِ الجَلِيِّ والخَفيِّ، فلا راحةَ للتمَسُّكِ به في تَرْكِ العَمَلِ؛ لأنَّ الأحاديثَ إذا ثبَتَت وَجَب ضَمُّ بَعضِها إلى بَعضٍ؛ فإنَّها في حُكمِ الحديثِ الواحِدِ؛ فيُحمَلُ مُطلَقُها على مُقَيَّدِها؛ ليحصُلَ العمَلُ بجميعِ ما في مَضمونِه، وباللهِ التَّوفيقُ)
[637] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/ 270). ويُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 220)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (2/ 477). .
وقال أبو الحسَنِ السِّندي: (مَن أعطاه اللهُ تعالى هذه الكَلِماتِ لا إلهَ إلَّا اللهُ عند الموتِ ووفَّقَه لها، لم تمسَّه النَّارُ، بل يدخُلُ الجنَّةَ ابتداءً مع الأبرارِ)
[638])) يُنظر: ((حاشية السندي على سنن ابن ماجه)) (2/419). .
وقال
ابنُ باز: (قد دَلَّت الأدِلَّةُ الشَّرْعيَّةُ من الكِتابِ والسُّنَّةِ على أنَّ مَن أتى بالتَّوحيدِ ومات عليه، دخَلَ الجنَّةَ ...
والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ تَدُلُّ على أنَّ من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ صادِقًا مُوَحِّدًا، يتضَمَّنُ كَلامُه براءتَه مِنَ الشِّرْكِ، وإيمانَه بأنَّ اللهَ مُستَحِقٌّ العِبادةَ، فإنَّه يدخُلُ الجنَّةَ، ويكونُ من المُسلِمينَ، مع الإيمانِ بشَهادةِ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، والإيمانِ بكُلِّ ما أخبَرَ اللهُ به ورَسولُه مِمَّا بَلَغَه ذلك الوقت، ثمَّ يُطالَبُ بَعْدَ ذلك بشَرائعِ الإسلامِ)
[639] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 36). .