المبحثُ الأوَّلُ: تَقسيمُ البِدعةِ إلى حَقيقيَّةٍ وإضافيَّةٍ
تَنقَسِمُ البِدعةُ إلى قِسمَين: حَقيقيَّةٍ، وإضافيَّةٍ، والحَقيقيَّةُ: هيَ ما لم يَدُلَّ عليها دَليلٌ شَرعيٌّ لا من كِتابٍ ولا من سُنَّةٍ ولا من إجماعٍ، ولا استِدلالٍ مُعتَبَرٍ عِندَ أهلِ العِلمِ لا في الجُملةِ ولا في التفصيلِ، وإنِ ادَّعَى مُبتَدِعُها ومن تابَعَه أنَّها داخِلةٌ فيما استَنبَطَ من الأدِلَّةِ؛ لأنَّ ما استَندَ إليه شُبَهٌ واهيةٌ لا قيمةَ لَها
[1138] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/141). .
ومن أمثِلَتِها:أوَّلًا: تَحريمُ الحَلالِ، أو تَحليلُ الحَرامِ:عن
عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قال:
((كُنَّا نَغزو مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولَيسَ مَعنا نِساءٌ، فقُلْنا: ألا نَختَصي؟ فنهانا عن ذلك، فرَخَّصَ لَنا بَعدَ ذلك أن نَتَزَوَّجَ المَرأةَ بالثَّوبِ، ثُمَّ قَرَأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ)) [1139] رواه البخاري (4615) واللَّفظُ له، ومسلم (1404). .
وعن
عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما قال: بَينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ إذا هو برَجُلٍ قائِمٍ فسَألَ عنه: فقالوا: أبو إسرائيلَ نَذرَ أن يَقومَ ولا يَقعُدَ، ولا يَستَظِلَّ، ولا يَتَكَلَّمَ، ويَصومَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مُرْهُ فليَتَكَلَّمْ، وليَستَظِلَّ، وليَقعُدْ، وليُتِمَّ صومَه)) [1140] رواه البخاري (6704). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (إنَّ كُلَّ شَيءٍ يَتَأذَّى به الإنسانُ ولَو مآلًا مِمَّا لم يَرِدْ بمَشروعيَّتِه كِتابٌ أو سُنَّةٌ، كالمَشيِ حافيًا، والجُلوسِ في الشَّمسِ: لَيسَ هو من طاعةِ اللَّهِ، فلا يَنعَقِدُ به النَّذرُ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَ أبا إسرائيلَ بإتمامِ الصَّومِ دونَ غَيرِه، وهو مَحمولٌ على أنَّه لا يَشُقُّ عليه، وأمرَه أن يَقعُدَ ويَتَكَلَّمَ ويَستَظِلَّ)
[1141] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/590). .
وعن قيسِ بنِ أبي حازِمٍ قال: (دَخل
أبو بَكرٍ على امرَأةٍ من أحمسَ يُقالُ لَها: زَينَبُ، فرآها لا تَكلَّمُ، فقال: ما لَها لا تَكلَّمُ؟ قالوا: حُجَّت مُصمِتةً، قال لَها: تَكلَّمي، فإنَّ هذا لا يَحِلُّ، هذا من عَمَلِ الجاهِليَّةِ، فتَكَلَّمَت، فقالت: مَن أنتَ؟ قال: امرَؤٌ مِنَ المَهاجِرينَ)
[1142] رواه البخاري (3834). .
ومِمَّا تَقدَّمَ من الأحاديثِ يُمكِنُ استِنتاجُ الأمورِ الآتيةِ:
1- أنَّ البِدَعَ قد بَدَأت بوادِرُها في عَهدِ النُّبوَّةِ، كما تَبَيَّنَ من تَحريمِ أناسٍ بَعضَ ما أحَلَّ اللَّهُ، فحَذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من ذلك.
2- أنَّ هذه البِدَعَ قد فعَلَها أصحابُها بدافِعِ التقَرُّبِ إلى اللَّهِ، فلم يُقِرَّهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّها
بِدعةٌ مُحْدَثةٌ.
3- أنَّ ذلك كان في مَجالِ العِبادةِ فعَلوها للتَّزَوُّدِ من الخَيرِ، ولَكِنْ لَيسَ كُلُّ مُريدٍ للخَيرِ يَسلُكُ الطَّريقَ الصَّحيحَ الموصِلَ إليه.
4- أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاوَمَ هذا الاتِّجاه، وقاوَمَ هذه المُغالاةَ.
5- أنَّ ذلك الإحداثَ والغُلُوَّ كان مُنحَصِرًا في أفرادٍ لا جَماعاتٍ، بخِلافِ ما وصَلَ إليه حالُ المُسلِمينَ بَعدَ ذلك، فإنَّ البِدَعَ أصبَحَت تُشَكِّلُ جَماعاتٍ وأحزابًا مُختَلِفةً
كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53] .
أمَّا تَحليلُ الحَرامِ فيَتَمَثَّلُ في تِلكَ الآراءِ الفاسِدةِ الَّتي تُحَلِّلُ
الرِّبا بشُبَهٍ واهيةٍ، أو تُفتي بعَدَمِ جَوازِ قَتْلِ المُرتَدِّ، مَعَ وُرودِ الأحاديثِ الصَّحيحةِ في ذلك، استِنادًا إلى ما لا يَجوزُ الاستِنادُ إليه.
ثانيًا: من أمثِلةِ البِدَعِ الحَقيقيَّةِ: اختِراعُ عِبادةٍ ما أنزَلَ اللَّهُ بها من سُلْطانٍ، كصَلاةٍ سادِسةٍ مَثَلًا برُكوعَينِ في كُلِّ رَكعةٍ أو بغَيرِ طَهارةٍ.
ثالِثًا: من أمثِلةِ البِدَعِ الحَقيقيَّةِ: إنكارُ الاحتِجاجِ بالسُّنَّةِ، أو تَقديمُ العَقلِ على النَّقلِ، وجَعلُه أصلًا والشَّرعُ تابِعًا لَهُ.
رابِعًا: من أمثِلةِ البِدعِ الحَقيقيَّةِ: القَولُ بارتِفاعِ التكاليفِ عِندَ الوُصولِ إلى مَرحَلةِ اليَقينِ، الَّتي يَدَّعيها بَعضُ الغُلاةِ مَعَ بَقاءِ العَقلِ وشُروطِ التكليفِ، فلا تَجِبُ عِندَ ذلك طاعاتٌ، ولا تَحرُمُ مُحَرَّماتٌ، بَل يَصيرُ الأمرُ على حَسَبِ الهوى والرَّغباتِ!
خامِسًا: من أمثِلةِ البِدَعِ الحَقيقيَّةِ: تَخصيصُ مَكانٍ ما كبِئرٍ أو شَجَرةٍ أو غَيرِهما بخُصوصيَّةٍ مُعَيَّنةٍ من اعتِقادِ جَلبِ خَيرٍ، أو دَفعِ ضُرٍّ، بلا استِنادٍ إلى خَبرٍ صَحيحٍ.
أمَّا البِدعةُ الإضافيَّةُ فهيَ ما لَها شائِبَتانِ:الأولَى: أنَّ لَها من الأدِلَّةِ مُتَعَلَّقًا، فلا تَكونُ من تِلكَ الجِهةِ
بدعةً.
والثَّانيةُ: أنَّه لَيسَ لَها مُتَعَلَّقٌ إلَّا مِثلُ ما للبِدعةِ الحَقيقيَّةِ، أي: هيَ بالنِّسبةِ لإحدَى الجِهتَين سُنةٌ لاستِنادِها إلى دَليلٍ، وبِالنِّسبةِ للجِهةِ الأخرَى
بدعةٌ؛ لأنَّها مُستَنِدةٌ إلى شُبهةٍ لا إلى دَليلٍ، أو لأنَّها غَيرُ مُستَنِدةٍ إلى شَيءٍ، وسُمِّيَت إضافيَّةً لأنَّها لم تَخلُصْ لأحَدِ الطَّرَفَين، لا بالمُخالَفةِ الصَّريحةِ ولا بالموافَقةِ الصَّريحةِ
[1143] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/141-142). .
والفَرقُ بَينَ البِدْعةِ الحَقيقيَّةِ والإضافيَّةِ من جِهةِ المَعنى أنَّ الدَّليلَ على الإضافيَّةِ من جِهةِ الأصلِ قائِمٌ، ومن جِهةِ الكَيفيَّاتِ أوِ الأحوالِ أوِ التفاصيلِ لم يَقُمْ عليها دَليلٌ مَعَ أنَّها مُحتاجةٌ إليه؛ لأنَّ الغالِبَ وُقوعُها في التعَبُّديَّاتِ لا في العاداتِ المَحْضةِ
[1144] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/142). .
ومن أمثِلَتِها: ذِكْرُ اللَّهِ تَبارك وتعالى على هيئةِ الاجتِماعِ بصَوتٍ واحِدٍ، فالذِّكرُ مَشروعٌ، لَكِن أداؤُهُ على هذه الكَيفيَّةِ غَيرُ مَشروعٍ، بَل هو
بدعةٌ مُخالِفةٌ للسُّنَّةِ، وعليه يُحمَلُ إنكارُ
ابنِ مَسعودٍ على الجَماعةِ الَّذينَ كانوا يَجتَمِعونَ في المَسجِدِ وفي أيديَهم حَصًى، فيُسَبِّحونَ ويُكبِّرونَ بأعدادٍ مُعَيَّنةٍ؛ حَيثُ قال لَهم: (والَّذي نَفسي بيدِهُ إنَّكُم لَعَلى مِلَّةٍ هيَ أهدى من مَلَّةٍ مُحَمَّدٍ أو مُفتَتِحو بابِ ضَلالةٍ!)
[1145] أخرجه الدارمي في ((السنن)) (210)، وبحشل في ((تاريخ واسط)) (ص: 199). صحَّح إسنادَه الألباني في ((السلسلة الصَّحيحة)) (5/11). .
ومن أمثِلَتِها أيضًا: تَخصيصُ يَومِ النِّصفِ من شَعبانَ بصيامٍ، ولَيلَتِهِ بقيامٍ، وإفرادُ شَهرِ رَجَبٍ بالصَّومِ أو عِبادةٍ أخرَى.
فالعِباداتُ مَشروعةٌ، ومنها الصَّومُ، لَكِن يَأتي الابتِداعُ من تَخصيصِ الزَّمانِ أوِ المَكانِ إذا لم يَأتِ تَخصيصُ ذلك في كِتابِ اللهِ تعالى أو سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
و
البِدعةُ الإضافيَّةُ أشَدُّ خُطورةً من الحَقيقيَّةِ من حَيثُ الشُّبَهُ الَّتي يَستَنِدُ إليها المُبتَدِعُ في فعلِها؛ فإنَّكَ إذا سَألتَهُ عن دَليلِ ذلك قال: إنَّه يَذكُرُ اللَّهَ، ويَصومُ للَّهِ، فهلِ الذِّكْرُ والصِّيامُ مُحَرَّمانِ؟! ومِن ثَمَّ يَستَمرِئُها، ويُداوِمُ عليها، وقد لا يَتوبُ منها
[1146] يُنظر: ((تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار)) لصالح السحيمي (ص: 93). ويُنظر: ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 52). .