المبحثُ السَّابِعُ: انقِسامُ البِدعةِ إلى عِباديَّةٍ وعاديَّةٍ
العِبادةُ هيَ اسمٌ جامِعٌ لِما يُحِبُّه اللَّهُ ويَرضاهُ من الأقوالِ والأفعالِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ
[1158] يُنظر: ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 44). .
فالبِدعةُ العِباديَّةُ مَقصودٌ بها التقَرُّبُ إلى اللهِ تعالى.
والعِبادةُ مَبنيَّةٌ على أصلَين:الأصلُ الأوَّلُ: إخلاصُ العِبادةِ للهِ وحدَهُ.
الأصلُ الثَّاني: تَجريدُ المُتابَعةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وأمَّا البِدْعةُ العاديَّةُ: فهيَ ما لا يُقصَدُ منه التقَرُّبُ إلى اللهِ تعالى، أي: إنَّها بحَسَبِ أصلِها المَوضوعةِ لَهُ لم يُقصَدْ بها ذلك، وإذا صَحَّ فيها التقَرُّبُ فإنَّه يَكونُ باعتِبارِ أمرٍ غَيرِ لازِمٍ لَها، وتِلكَ العاداتُ هيَ الأمورُ الجاريةُ بَينَ الخَلقِ في الاكتِسابِ وسائِرِ المُعامِلاتِ الدُّنيويَّةِ، مِثلُ العُقودِ على اختِلافِها، والتصاريفِ الماليَّةِ على تَنَوُّعِها، ولا خِلافَ بَينَ العُلماءِ في حُدوثِ الابتِداعِ في العِباداتِ ووُقوعِه، سَواءٌ أكانتِ العِباداتُ أعمالًا قَلبيَّةً أو أمورًا اعتِقاديَّةً، أو كانت من أعمالِ الجَوارِحِ قَولًا أو فعلًا، كمَذهَبِ القَدَريَّةِ والمُرجِئةِ والخَوارِجِ والمُعتَزِلةِ وغَيرِهم
[1159] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/416)، ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 55). .
وإنَّما اختَلَفَ النَّاسُ في وُقوعِ الابتِداعِ في العاديَّاتِ، والَّذي عليه التحقيقُ أنَّ
البِدعةَ تَرجِعُ إلى اختِراعِ عِبادةٍ لم تَكُن مَعروفةً عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يَرِد بها نَقلٌ صَحيحٌ، ولا تَدُلُّ عليها أدِلةٌ شَرعيَّةٌ مُعتَبَرةٌ، فهيَ أوَّلًا خاصَّةٌ بما يُتَعَبَّدُ به، وإذَنْ فلا ابتِداعَ في العاداتِ، ولا في وسائِلِ الحَياةِ العامَّةِ.
والقائِلونَ بإمكانِ وُقوعِ البِدَعِ في العاديَّاتِ بنوا قَولَهم على أنَّ الشَّريعةَ جاءَت وافيةً ببَيانِ القَوانينِ الَّتي بها صَلاحُ النَّاسِ في أمورِ المَعاشِ والمَعادِ، فالعاداتُ كالعِباداتِ كِلاهما مَشروعٌ، فكَما أنَّا مَأمورون في العِباداتِ بألَّا نُحدِثَ فيها فكَذلك العاداتُ، فإذا جازَ إمكانُ الابتِداعِ فيما هو عِبادةٌ جاز فيما هو عاديٌّ من الأمورِ الَّتي يُقصَدُ بها صَلاحُ الدُّنيا، وهذا القَولُ مَردودٌ؛ فإنَّه لَو جازَ ذلك لجازَ أن تُعَدَّ كُلُّ العاداتِ الَّتي حَدَثَت بَعدَ الصَّدرِ الأوَّلِ من المَآكِلِ والمَشارِبِ، والمَلابِسِ والمَسائِلِ النَّازِلةِ بِدَعًا، ولَكان كُلُّ من تَلبَّسَ بشَيءٍ منها مُخالِفًا لما كان عليه الصَّدرُ الأوَّلُ، وهو موجِبٌ للذَّمِّ، وهذا من الشَّناعةِ بمَكانٍ؛ فإنَّ العاداتِ من الأمورِ الَّتي تَدورُ مَعَ الأزمنةِ والأمكِنةِ، فلِلنَّاسِ في كُلِّ زَمانٍ وفي كُلِّ مَكانٍ عاداتٌ مُختَلِفةٌ، وهم مَعَ كُلِّ هذه العاداتِ -إذا حوفِظَ فيها على القَوانين الشَّرعيَّةِ الجاريةِ على مُقتَضَى الكِتابِ والسُّنَّة- على تَمامِ الموافَقةِ للصَّدرِ الفاضِلِ.
كما أنَّ عَدَّ ذلك بِدَعًا يُؤَدِّي إلى نِسبةِ الحَرجِ والتضييقِ إلى الشَّريعةِ؛ فإنَّ في التِزامِ الزِّيِّ الواحِدِ والحالةِ الواحِدةِ والعادةِ الواحِدةِ تَعَبًا ومَشَقَّةً قَضَت به الشَّريعةُ، وإنَّما كان الالتِزامُ كذلك لاختِلافِ الأخلاقِ والأزمنةِ والبِقاعِ والأحوالِ
[1160] يُنظر: ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 59). .
والابتِداعُ إن دَخلَ في الأمورِ العاديَّةِ فهو لِما فيها من مَعنى التعَبُّدِ، فرَجَعَ الأمرُ إلى أنَّ الابتِداعَ المَذمومَ لا يَكونُ في العاديِّ المَحضِ.
ولَمَّا كانت كذلك فإنَّه لا يُمكِنُ للنَّاسِ حَصرُ جُزئيَّاتِها، ويَعسُرُ عليهم أن يَتَقَيَّدوا بجُزئيَّاتٍ مَخصوصةٍ، منها تَركُ الشَّارِعِ التصَرُّفَ لكُلِّ أمَّةٍ تُديرُ شُؤونَها بما يوافِقُ زَمانَها، وجاءَهم بقَواعِدَ كُلِّيةٍ تَنطَبِقُ على كُلِّ أمَّةٍ، وتَصلُحُ لكُلِّ زَمانٍ، فجَعَلَ العَدْلَ أساسَ الأعمالِ، واتِّقاءَ الشَّرِّ مُقدَّمًا في أيِّ حالٍ من الأحوالِ، فمَتَى كان ذلك قَصدَ النَّاسِ في أمورِهمِ الدُّنيَويَّةِ فليَختَرِعوا ما شاؤوا من الطُّرُقِ النَّافِعةِ، وليَبتَدِعوا ما أرادوا من الحِيَلِ والأساليبِ الصَّحيحةِ؛ فإنَّه لا حَجْرَ في ذلك، أمَّا إذا جاوَزَ المُختَرِعونَ العَدْلَ باختِراعِهم، وانصَرَفوا إلى الشَّرِّ والإفسادِ في ابتِداعِهم، فتِلكَ سُنَّةٌ سَيِّئةٌ،
((ومن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئةً فعُمِلُ بها بَعدَهُ، كُتِبَ عليه مِثلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بها)) [1161] رواه مسلم (1017) مطولًا من حديث جرير بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنه. .
فالثِّيابُ والأكلُ والشُّربُ والمَشيُ والنَّومُ أمورٌ عاديَّةٌ، وقد دَخلَها التعَبُّدُ من حَيثُ إنَّ الشَّارِعَ قَيَّدَها بأمورٍ، كنَهْيِ اللَّابِسِ عن إطالةِ الثَّوبِ خُيَلاءَ، وطَلَبِ التسميةِ عِندَ الأكلِ والشُّربِ، والنَّهيِ عنِ الإسرافِ فيهما، إلى غَيرِ ذلك من القُيودِ الَّتي قَيَّدَ بها الشَّارِعُ، فالأمورُ المَذكورةُ عاديَّةٌ، ومن هذه الجِهةِ لا يَدخُلُها الابتِداعُ، وإنَّما من الجِهةِ الَّتي رَسَمَها الشَّارِعُ فيها، فإذا خُولِفَ بها الوَجهُ المَشروعُ، واعتُبِرَ ذلك دينًا يتَقَرَّبُ به إلى اللهِ تعالى كانت بِدَعًا، بَل هيَ مَعصيةٌ وابتِداعٌ باعتِبارَينِ؛ فهيَ باعتِبارِ مُخالَفَتِها الأمرَ والنَّهيَ عِصيانٌ، ومن حَيثُ التقَرُّبُ بها إلى اللهِ تعالى من الجِهةِ المُضادَّةِ للطَّريقِ الَّتي رَسَمَها تَكونُ مَذمومةً
[1162] يُنظر: ((تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار)) لصالح السحيمي (ص: 106). ويُنظر: ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 59). .
وقد سُئِلَ
ابنُ باز: ما هو الحَدُّ أوِ القَولُ الفَصلُ بَينَ
البِدْعةِ والأمورِ الحَديثةِ الجَديدةِ، ومُتَطَلَّباتِ العَصرِ، أو بمَعنًى آخَرَ: كيفَ نُمَيِّزُ بَينَ الأمورِ الحَديثةِ المَوجودةِ في عَصرِنا الحاضِرِ، وبَينَ
البِدعةِ الَّتي ورَدَت في الأحاديثِ الشَّريفةِ، بَيِّنوا لَنا هذا، جَزاكُمُ اللَّهُ خَيرًا؟
فأجابَ: (الأشياءُ الجَديدةُ الحادِثةُ قِسمانِ: قِسمٌ يَتَعَلَّقُ بأمورِ الدُّنيا، من مَلابِسَ ومَآكِلَ ومَشارِبَ، وأوانٍ وأسلِحةٍ... هذه ما تُسَمَّى بِدَعًا، هذه أمورٌ دُنيَويَّةٌ... البِدَعُ ما كان يَتَعَلَّقُ بالدِّينِ من المُحْدَثاتِ الَّتي يَراها أهلُها دينًا وقُربةً وعِبادةً؛ مِثلُ إحداثِ المَوالِدِ والاحتِفالِ في المَوالِدِ، ومِثلِ إحياءِ لَيلةِ
الإسراءِ والمِعراجِ، ومِثلِ إحياءِ لَيلةِ الرَّغائِبِ، أوَّلِ لَيلةٍ من رَجبٍ، ولَيلةِ أوَّلِ جُمُعةٍ من رَجبٍ، هذه يُقالُ لَها بِدَعٌ، إحداثُ أشياءَ ما شَرعَها اللَّهُ، تَعَبُّدٌ يُتَعَبَّد بها، مِثلُ إحياءِ لَيلةِ النِّصفِ من شَعبانَ، كُلُّ هذه بِدَعٌ ما أنزَلَ اللَّهُ بها من سُلْطانٍ، يَعني التعَبُّدَ بأشياءَ ما شَرعَها اللَّهُ، قَوليَّةً أو فعليَّةً، هذ البِدَعُ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من أحدَثَ في أمرِنا هذا -يَعني في دينِنا هذا- ما لَيسَ منه، فهو رَدٌّ)) [1163] رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) واللَّفظُ له. ، ويَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ )) [1164] رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7350)، وأخرجه موصولًا مسلم (1718) من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. فالمُرادُ به العِباداتُ. فالَّذي يُحدَثُ من العِباداتِ يُسَمَّى
بِدعةً، الَّذي لا أصلَ لَهُ في الشَّرعِ يُسَمَّى
بدعةً)
[1165] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (3/15). .