المبحثُ السَّادِسُ: من شُروطِ انعِقادِ الإمامةِ: العَدَالةُ
العَدَالةُ صِفةٌ كامنةٌ في النَّفسِ توجِبُ على الإنسانِ اجتِنابَ الكَبائِرِ والصَّغائِرِ، والتعَفُّفَ عن بَعضِ المُباحاتِ الخارِمةِ للمُروءةِ، وهيَ مَجموعةُ صِفاتٍ أخلاقيَّةٍ من التقوَى والوَرَعِ والصِّدقِ والأمانةِ والعَدْلِ ورِعايةِ الآدابِ الاجتِماعيَّةِ، ومُراعاةَ كُلِّ ما أوجَبتِ الشَّريعةُ الالتِزامَ به، وبِناءً على هذا الشَّرطِ فلا يَجوزُ تَوليةُ الفاسِقِ، ولا مَن فيه نَقصٌ يَمنَعُ الشَّهادةَ
[1319] يُنظر: ((الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة)) للدميجي (ص: 251). .
قال عياضٌ: (لا تَنعَقِدُ ابتِداءً للفاسِقِ بغَيرِ تَأويلٍ)
[1320] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (6/247). .
وقال
القُرطُبيُّ: (لا خِلافَ بَينَ الأمَّةِ في أنَّه لا يَجوزُ أن تُعقَدَ الإمامةُ لفاسِقٍ)
[1321] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (1/270). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (نَقلَ ابنُ التِّين عنِ الدَّاوُديِّ قال: الَّذي عليه العُلماءُ في أمراءِ الجَورِ أنَّه إنْ قُدِرَ على خَلعِه بغَيرِ فِتنةٍ ولا ظُلمٍ وجَبَ، وإلَّا فالواجِبُ الصَّبرُ، وعن بَعضِهم: لا يَجوزُ عَقدُ الوِلايةِ لفاسِقٍ ابتِداءً، فإن أحدَثَ جَورًا بَعدَ أن كان عَدْلًا فاختَلَفوا في جَوازِ الخُروجِ عليه، والصَّحيحُ المَنعُ، إلَّا أن يَكفُرَ، فيَجِبُ الخُروجُ عليه)
[1322] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/8). .
ومن الأدِلَّةِ على اشتِراطِ هذا الشَّرطِ ما ورَدَ في قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ حينَما قال لَهُ رَبُّه:
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] .
عن مُجاهِدٍ: قال: (لا يَكونُ إمامٌ ظالِمًا)
[1323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/512). .
وقال
أبو بَكرٍ الجَصَّاصُ: (ثَبَت بدَلالةِ هذه الآيةِ بُطلانُ إمامةِ الفاسِقِ، وأنَّه لا يَكونُ خَليفةً)
[1324] يُنظر: ((أحكام القرآن)) (1/84). .
وقال
الزَّمَخشَريُّ: (قالوا: في هذا دَليلٌ على أنَّ الفاسِقَ لا يَصلُحُ للإمامةِ، وكَيفَ يَصلُحُ لَها من لا يَجوزُ حُكمُه وشَهادَتُه، ولا تَجِبُ طاعَتُه، ولا يُقبَلُ خَبرُهُ، ولا يُقدَّمُ للصَّلاةِ؟!... وعنِ
ابنِ عُيَينةَ: لا يَكونُ الظَّالِمُ إمامًا قَطُّ، وكَيفَ يَجوزُ نَصْبُ الظَّالِمِ للإمامةِ، والإمامُ إنَّما هو لكَفِّ الظَّلَمةِ؟! فإذا نُصِّبَ من كان ظالِمًا في نَفسِه فقد جاءَ المَثلَ السَّائِرَ: من استَرعَى الذِّئبَ ظَلَمَ)
[1325] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/184). .
وقال
الرَّازي: (احتَجَّ الجُمهورُ على أنَّ الفاسِقَ لا يَصلُحُ أن تُعقَدَ لَهُ الإمامةُ بهذه الآيةِ، ووَجهُ الاستِدلالِ بها من وَجهَينِ:
الأوَّلُ: ما بَيَّنَّا أنَّ قَولَه:
لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ جَوابٌ لقَولِه:
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وقَولُه:
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي طَلَبٌ للإمامةِ الَّتي ذَكَرها اللَّهُ تعالى، فوَجَبَ أن يَكونَ المُرادُ بهذا العَهدِ هو الإمامةَ؛ ليَكونَ الجَوابُ مُطابِقًا للسُّؤالِ، فتَصيرَ الآيةُ كأنَّه تعالى قال: لا يَنالُ الإمامةَ الظَّالِمونَ، وكُلُّ عاصٍ فإنَّه ظالِمٌ لنَفسِه، فكانتِ الآيةُ دالَّةً على ما قُلْناهُ...
إذا ثَبَتَ أنَّ عَهدَ اللهِ هو أمرُه، فنَقولُ: لا يَخلو قَولُه:
لَا يَناَلُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من أن يُريدَ أنَّ الظَّالِمين غَيرُ مَأمورينَ، وأنَّ الظَّالِمين لا يَجوزُ أن يَكونوا بمَحَلِّ مَن يُقبَلُ منهم أوامِرُ اللَّهِ تعالى، ولَمَّا بَطَلَ الوَجهُ الأوَّلُ لاتِّفاقِ المُسلِمينَ على أنَّ أوامِرَ اللهِ تعالى لازِمةٌ للظَّالِمين كُلُزومِها لغَيرِهم، ثَبَتَ الوَجهُ الآخَرُ، وهو أنَّهم غَيرُ مُؤتَمنين على أوامِرِ اللَّهِ تعالى وغَيرُ مُقتَدًى بهم فيها، فلا يُكونونَ أئِمةً في الدِّينِ، فثَبَتَ بدَلالةِ الآيةِ بُطلانُ إمامةِ الفاسِقِ)
[1326] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (4/38). .
وقال
ابنُ خَلدون: (أمَّا العَدالةُ فلِأنَّه مَنصِبٌ دينيٌّ يَنظُرُ في سائِرِ المَناصِبِ الَّتي هيَ شَرطٌ فيها، فكان أَولَى باشتِراطِها فيه)
[1327] يُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/241). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (قدِ استَدَلَّ بهذه الآيةِ جَماعةٌ من أهلِ العِلمِ على أنَّ الإمامَ لا بُدَّ أن يَكونَ من أهلِ العَدْلِ والعَمَلِ بالشَّرعِ كما ورَدَ؛ لأنَّه إذا زاغَ عن ذلك كان ظالِمًا، ويُمكِنُ أن يُنظَرَ إلى ما يَصدُقُ عليه اسمُ العَهدِ، وما تُفيدُه الإضافةُ من العُمومِ، فيَشمَلُ جَميعَ ذلك اعتِبارًا بعُمومِ اللَّفظِ من غَيرِ نَظَرٍ إلى السَّبَبِ ولا السِّياقِ... فالأَولَى أن يُقالَ: إنَّ هذا الخَبَرَ في مَعنى الأمرِ لعِبادِه أن لا يُولُّوا أمورَ الشَّرعِ ظالِمًا، وإنَّما قُلنا إنَّه في مَعنى الأمرِ؛ لأنَّ أخبارَهُ تعالى لا يَجوزُ أن تَتَخَلَّفَ، وقد عَلِمنا أنَّه قد نالَ عَهدَه من الإمامةِ وغَيرِها كَثيرٌ مِن الظَّالِمين)
[1328] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (1/160). .
وقال
أبو يَعلَى: (قد رُويَ عنِ
الإمامِ أحمَدَ ألفاظٌ تَقتَضي إسقاطَ اعتِبارِ العَدالةِ والعِلمِ والفَضلِ، فقال في رِوايةِ عَبدوسِ بن مالِكٍ القَطَّانِ: ومن غَلبَهم بالسَّيفِ حَتَّى صارَ خَليفةً، وسُمِّيَ أميرَ المُؤمنين، لا يَحِلُّ لأحَدٍ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ أن يَبيتَ ولا يَراهُ إمامًا عليه بَرًّا كان أو فاجِرًا، فهو أميرُ المُؤمنين. وقال أيضًا في رِوايةِ المَروزيِّ: فإن كان أميرًا يُعرَفُ بشُربِ المُسكِرِ والغُلولِ، يَغزو مَعَهُ، إنَّما ذلك لَهُ في نَفسِه)
[1329] يُنظر: ((الأحكام السلطانية)) (ص: 20). .
فمَقصودُ
أحمَدَ الوالي المُتَغَلِّبُ، كما هو نَصُّ الرِّوايةِ الأولَى، لا في حالةِ الاختيارِ من قِبَلِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ، ويَدُلُّ على ذلك أيضًا قَولُه: (إنَّ الإمامةَ لا تَجوزُ إلَّا بشُروطِها:... وحِفظُ الشَّريعةِ، وعِلمُ الأحكامِ، وصِحَّةُ التنفيذِ، والتقوَى، وإتيانُ الطَّاعةِ، وضَبطُ أموالِ المُسلِمينَ. فإنْ شَهدَ لَهُ بذلك أهلُ الحَلِّ والعَقدِ من عُلماءِ المُسلِمينَ وثِقاتِهم، أو أخذَ هو ذلك لنَفسِه ثُمَّ رَضَيه المُسلِمونَ، جاز لَهُ ذلك)
[1330] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (2/305). .
فهذا يَدُلُّ على أنَّ
أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ يَشتَرِطُ كغَيرِه العَدالةَ والعِلمَ في حالةِ الاختيارِ، أمَّا في حالةِ التغلُّبِ فلا يَشتَرِطُ.
والأحنافُ لم يَعُدُّوا العَدالةَ من الشُّروطِ الواجِبةِ، وأجازوا أنَّ يَليَ الفاسِقُ أمرَ الأمَّةِ، لَكِنَّهم يَكرَهونَ ذلك
[1331] قال ابنُ أبي شريف شارحًا كلام ابن الهمام: ( (وعند الحنفية ليست العدالةُ شرطًا للصحة) أي: لصِحَّةِ الولاية (فيصح تقليد الفاسق) الإمامةَ عندهم (مع الكراهةِ) ). ((المسامرة في شرح المسايرة)) (2/166). ؛ لأنَّه قد ثَبَتَ أنَّ الصَّحابةَ صَلَّوا خَلفَ أئِمَّةِ الجَورِ من بني أميَّةَ، ورَضُوا بتَقَلُّدِهم رِئاسةَ الدَّولةِ.
والرَّدُّ عليهم أنَّ ذلك في حالِ التغَلُّبِ لا في حالِ الاختيارِ كما سَبَقَ.
ولَيسَ المَقصودُ بالعَدالةِ أن يَكونَ المُرَشَّحُ للإمامةِ مَعصومًا في أقوالِه وأفعالِه وتَصَرُّفاتِه، خاليًا من كُلِّ نَقصٍ، مُبَرَّأً من كُلِّ عَيبٍ -كما تَدَّعي الرَّافِضةُ-، فهذه الصِّفاتُ لا يُدرِكُها إلَّا الرُّسُلُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذينَ أكرَمَهمُ اللَّهُ بالعِصمةِ من الكَبائِرِ والذُّنوبِ، وعَدَمِ إقرارِهم على الصَّغائِرِ إن وقَعَت منهم.
أمَّا غَيرُهم فقد يَقَعُ في بَعضِ الذُّنوبِ والآثامِ، ولَكِنَّهُ سُرعانَ ما يَستَرجِعُ ويَستَغفِرُ اللَّهَ مِمَّا بَدرَ منه ويَعزِمُ ألَّا يَعودَ، فهذه لا تَخرِمُ مُروءَتَهُ ولا تُبطِلُ عَدالَتَهُ.
كما أنَّ العَدالةَ مُعتَبَرةٌ في كُلِّ زَمانٍ بأهلِه وإنِ اختَلَفوا في وجه الاتِّصافِ بها، فنَحنُ نَقطَعُ بأنَّ عَدالةَ الصَّحابةِ لا تُساويها عَدالةُ التابِعِينَ، وعَدالةَ التابِعِين لا تُساويها عَدالةُ مَن بَعْدَهم، وكَذلك كُلُّ زَمانٍ مَعَ ما بَعدَهُ إلى زَمانِنا هذا، فلَو قيسَ عُدولُ زَمانِنا بعُدولِ الصَّحابةِ والتابِعينَ لم يُعَدُّوا عُدولًا لتَبايُنِ ما بَينَهما من الاتِّصافِ بالتقوَى والمَروءةِ، ولَكِن لا بُدَّ من اعتِبارِ كُلِّ عُدولِ زَمانٍ بحَسَبِه
[1332] يُنظر: ((الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة)) للدميجي (ص: 251). .