المطلبُ الثَّاني: من واجِباتِ الرَّعيةِ تِجاهَ الإمامِ: أداءُ الصَّلاةِ خَلفَهُ سَواءٌ كان برًّا أو فاجِرًا والجِهادُ مَعَهُ
قال
ابنُ بَطَّةَ العُكبَريُّ (قدِ اجتَمَعَتِ العُلماءُ من أهلِ الفِقهِ والعِلمِ، والنُّسَّاكُ والعُبَّادُ والزُّهَّادُ، من أوَّلِ هذه الأمَّةِ إلى وقْتِنا هذا أنَّ صَلاةَ الجُمُعةِ والعيدَينِ، ومِنًى وعَرَفاتٍ، والغَزوَ والجِهادَ والهَدْيَ؛ مَعَ كُلِّ أميرٍ، بَرٍّ وفاجِرٍ... والسَّمعُ والطَّاعةُ لِمَن ولَّوه وإن كان عَبدًا حَبشيًّا إلَّا في مَعصيةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ فلَيسَ لمَخلوقٍ فيها طاعةٌ)
[1421] يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) (ص: 305-307). .
وقال الصَّابونيُّ: (يَرَى أصحابُ الحَديثِ الجُمُعةَ والعيدَين وغَيرَهما من الصَّلَواتِ خَلفَ كُلِّ إمامٍ مُسلِمٍ، برًّا كان أو فاجِرًا، ويَرَونَ جِهادَ الكَفَرةِ مَعَهم وإن كانوا جَوَرةَ فَجَرةٍ، ويَرَونَ الدُّعاءُ لَهم بالإصلاحِ والتوفيقِ والصَّلاحِ، ولا يَرَونَ الخُروجَ عليهم بالسَّيفِ وإن رَأَوا منهمُ العُدولَ عنِ العَدْلِ إلى الجَورِ والحَيفِ)
[1422] يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 294). .
ومِمَّا ورَدَ عنِ السَّلَفِ في ذلك:ما جاءَ عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخيارِ أنَّه دَخَلَ على عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه وهو مَحصورٌ، فقال: إنَّكَ إمامُ عامَّةٍ، ونَزَلَ بكَ ما نَرَى، ويُصَلِّي لَنا إمامُ فِتنةٍ، ونَتَحَرَّجُ، فقال: (الصَّلاةُ أحسَنُ ما يَعمَلُ النَّاسُ، فإذا أحسَنَ النَّاسُ فأحسِنْ مَعَهم، وإذا أساؤُوا فاجتَنِبْ إساءَتَهم)
[1423] رواه البخاري (695). .
وقد بوَّبَ
البُخاريُّ على هذا الأثَرِ بقَولِه: (بابَ إمامةِ المَفتونِ والمُبتَدِعِ)
[1424] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/350) .
فأمرَ عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه بالصَّلاةِ مَعَ إمامِ الفِتنةِ، والمَقصودُ به هُنا كِنانةُ بنُ بِشرٍ أحَدُ رُؤوسِ
الخَوارِجِ الَّذينَ حاصَروا عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه
[1425] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/189). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (في هذا الأثَرِ الحَضُّ على شُهودِ الجَماعةِ، ولا سِيَّما في زَمَنِ الفِتنةِ؛ لئَلَّا يَزدادَ تَفَرُّقُ الكَلِمةِ، وفيه أنَّ الصَّلاةَ خَلفَ من تُكْرَهُ الصَّلاةُ خَلفَهُ أَولَى من تَعطيلِ الجَماعةِ)
[1426] يُنظر: ((فتح الباري)) (2/190). .
وعن سِوارِ بنِ شَبيبٍ قال: حَجَّ نَجدةُ الحَروريُّ في أصحابِه، فوادَعَ
ابنَ الزُّبَيرِ، فصَلَّى هذا بالنَّاسِ يَومًا ولَيلةً، وهذا بالنَّاسِ يَومًا ولَيلةً، فصَلَّى
ابنُ عُمَرَ خَلْفَهما، فاعتَرَضَهُ رَجُلٌ، فقال: يا أبا عَبدِ الرَّحمَنِ أتصَلِّي خَلفَ نَجدةَ الحَرُوريِّ؟! فقال
ابنُ عُمرَ: (إذا نادَوا حَيَّ على خَيرِ العَمَلِ أجَبْنا، وإذا نادَوا إلى قَتلِ نَفْسٍ قُلْنا: لا! ورَفَعَ بها صَوتَه)
[1427] رواه ابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (209). .
وعنِ الأعمَشِ قال: (كان كِبارُ أصحابِ عَبدِ اللهِ -يَعني
ابنَ مَسعودٍ- يُصَلُّونَ الجُمُعةَ مَعَ المُختارِ ويَحتَسِبونَ بها)
[1428] رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (1/475) برقم (5498)، وابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (ص: 284) برقم (210). .
وسُئِلَ الحَسنُ عنِ الصَّلاةِ خَلفَ صاحِبِ
البِدعةِ فقال: (صَلِّ خَلْفَهُ، وعليه بِدْعَتُه)
[1429] علَّقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم (1/141)، ووصله ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/292). .
وعنِ الحَكَمِ بن عَطِيَّةَ قال: سَألتُ الحَسَنَ وقُلتُ: رَجُلٌ من
الخَوارِجِ يَؤُمُّنا، أنصَلِّي خَلفَهُ؟ قال: (نَعَم، قد أمَّ النَّاسَ من هو شَرٌّ منه)
[1430] رواه ابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (211). .
وعنِ ابنِ وَضَّاحٍ قال: سَألتُ الحارِثَ بنَ مِسكين: هل نَدَعُ الصَّلاةَ خَلفَ أهلِ البِدَعِ؟ فقال: (أمَّا الجُمُعةُ خاصَّةً فلا، وأمَّا غَيرُها من الصَّلاةِ فنَعَم)
[1431] رواه ابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (212). .
وقال
سُفيانُ الثَّوريُّ في وصيَّتِه لشُعَيبِ بن حَربٍ: (يا شُعَيبُ، لا يَنفَعُكَ ما كتَبْتَ حَتَّى تَرَى الصَّلاةَ خَلفَ كُلِّ بَرٍّ وفاجِرٍ). قال شُعَيبٌ ل
سُفْيانَ: يا
أبا عَبدِ اللهِ، الصَّلاةَ كُلَّها؟ قال: (لا، ولَكِنْ صَلاةَ الجُمُعةِ والعيدَين، صَلِّ خَلْفَ من أدرَكْتَ، وأمَّا سائِرُ ذلك فأنتَ مُخَيَّرٌ، لا تُصَلِّ إلَّا خَلفَ من تَثِقُ به، وتَعلمُ أنَّه من أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ)
[1432] رواه اللالكائي في ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/173). .
قال
ابنُ قُدامةَ: (أمَّا الجُمَعُ والأعيادُ فإنَّها تُصلَّى خَلفَ كُلِّ بَرٍّ وفاجِرٍ، وقد كان
أحمَدُ يَشهدُها مَعَ
المُعتَزِلةِ، وكَذلك العُلماءُ الَّذينَ في عَصرِه... لأنَّ هذه الصَّلاةَ من شَعائِرِ الإسلامِ الظَّاهِرةِ، وتَليها الأئِمةُ دونَ غَيرِهم، فتَركُها خَلفَهم يُفضي إلى تَركِها بالكُليَّةِ)
[1433] يُنظر: ((المغني)) (3/22). .
وقال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (أمَّا الصَّلاةُ خَلفَ المُبتَدِعِ فهذه المَسألةُ فيها نِزاعٌ وتَفصيلٌ، فإذا لم تَجِد إمامًا غَيرَه كالجُمُعةِ الَّتي لا تُقامُ إلَّا بمَكانٍ واحِدٍ، وكالعيدَين وكَصَلواتِ الحَجِّ خَلفَ إمامِ المَوسِمِ، فهذه تُفعَلُ خَلفَ كُلِّ بَرٍّ وفاجِرٍ باتِّفاقِ أهلِ السُّنَّة والجَماعةِ)
[1434] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (23/355). .
قال
المُزنَيُّ: (لا يُترَكُ حُضورُ صَلاةِ الجُمُعةِ، وصَلاتُها مَعَ بَرِّ هذه الأمَّةِ وفاجِرها لازِمٌ ما كان من
البِدعةِ بَرِيًّا، فإنِ ابتَدَعَ ضَلالًا فلا صَلاةَ خَلفَه، والجِهادُ مَعَ كُلِّ إمامٍ عَدْلٍ أو جائِرٍ، والحَجُّ)
[1435] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 87). .
وقال أبو حاتِمٍ و
أبو زُرعةَ الرَّازيان: (أدرَكنا العُلماءَ في جَميعِ الأمصارِ حِجازًا وعِراقًا وشامًا ويَمَنًا، فكانَ من مَذهَبِهم... ونُقيمُ فَرْضَ الجِهادِ والحَجِّ مَعَ أئِمةِ المُسلِمينَ في كُلِّ دَهرٍ وزمانٍ. ولا نَرَى الخُروجَ على الأئِمةِ ولا القِتالَ في الفِتنةِ)
[1436])) يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/198). .