المطلبُ الأوَّلُ: مَعنى العَدَالةِ في اللُّغةِ والاصطِلاحِ
أوَّلًا: مَعنى العَدالةِ في اللُّغةِ العدالةُ: صِفةٌ تُوجِبُ مُراعاتُها الاحترازَ عمَّا يُخِلُّ بالمروءةِ عادةً، والعَدْلُ مِنَ النَّاسِ: المَرْضِيُّ المُستوي الطَّريقةِ، وأصلُ (عدل): يدُلُّ على استواءٍ
[1809] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 246)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 397). .
ثانيًا: مَعنى العَدالةِ في الِاصطِلاحِتَنَوَّعَت عِباراتُ العُلَماءِ مِنَ المُحَدِّثِينَ والأصوليِّينَ والفُقَهاءِ في تَعريفِ العَدالةِ.
قال
الخَطيبُ البَغداديُّ: (العَدْلُ هو من عُرِفَ بأداءِ فرائِضِه ولُزومِ ما أُمِرَ به، وتَوَقِّي ما نُهيَ عنه، وتَجَنُّبِ الفَواحِشِ المُسقِطةِ، وتَحَرِّي الحَقِّ والواجِبِ في أفعالِه ومُعامَلَتِه، والتَّوَقِّي في لفظِه مِمَّا يَثلَمُ الدِّينَ والمَروءةَ، فمَن كانَت هَذِه حالَهُ فهوَ المَوصوفُ بأنَّه عَدْلٌ في دينِه، ومَعروفٌ بالصِّدقِ في حَديثِه، ولَيسَ يَكفيه في ذلك اجتِنابُ كبائِرِ الذُّنوبِ الَّتي يُسَمَّى فاعِلُها فاسِقًا حَتَّى يَكونَ مَعَ ذلك مُتَوَقِّيًا لِما يَقولُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ إنَّهُ لا يُعلَمُ أنَّه كبيرٌ، بَل يَجوزُ أن يَكونَ صَغيرًا، نَحوُ الكَذِبِ الَّذي لا يُقطَعُ عَلى أنَّه كَبيرٌ، ونَحوُ التَّطفيفِ بحَبَّةٍ وسَرِقةِ باذنِجانةٍ وغِشِّ المُسْلِمينَ بما لا يقطَعُ عِندَهم عَلى أنَّه كبيرٌ مِنَ الذُّنوبِ، لأجلِ أنَّ القاذوراتِ وإن لم يُقطَعْ عَلى أنَّها كبائِرُ يُستَحَقُّ بها العِقابُ، فقَدِ اتُّفِقَ عَلى أنَّ فاعِلَها غَيرُ مَقبولِ الخَبَرِ والشَّهادةِ، إمَّا لأنَّها مُتَّهِمةٌ لصاحِبِها ومُسقِطةٌ لهُ ومانِعةٌ من ثِقَتِه وأمانَتِه، أو لغَيرِ ذلك، فإنَّ العادةَ مَوضوعةٌ عَلى أنَّ مَنِ احتَمَلَت أمانَتُهُ سَرِقةَ بَصَلةٍ وتَطفيفَ حَبَّةٍ، احتَمَلَتِ الكَذِبَ وأخْذَ الرِّشا عَلى الشَّهادةِ ووَضْعَ الكَذِبِ في الحَديثِ والاكتِسابَ به؛ فيَجِبُ أن تَكونُ هَذِه الذُّنوبُ في إسقاطِها للخَبَرِ والشَّهادةِ بمَثابةِ ما اتُّفِقَ عَلى أنَّه فِسقٌ يُستَحَقُّ به العِقابُ)
[1810] يُنظر: ((الكفاية)) (ص: 80). .
وقال
الغَزاليُّ: (العَدالةُ: عِبارةٌ عنِ استِقامةِ السِّيرةِ والدِّينِ، ويَرجِعُ حاصِلُها إلى هَيئةٍ راسِخةٍ في النَّفسِ تَحمِلُ عَلى مُلازَمةِ التَّقوى والمَروءةِ جَميعًا حَتَّى تَحصُلَ ثِقةُ النُّفوسِ بصِدْقِه، فلا ثِقةَ بقَولِ من لا يَخافُ اللهَ تعالى خَوفًا وازِعًا عنِ الكَذِبِ، ثُمَّ لا خِلافَ في أنَّه لا يُشتَرَطُ العِصمةُ من جَميعِ المُعاصي، ولا يَكفي أيضًا اجتِنابُ الكَبائِرِ، بَل مِنَ الصَّغائِرِ ما يُرَدُّ به كسَرِقةِ بَصَلةٍ، وتَطفيفٍ في حَبَّةٍ قَصدًا، وبِالجُملةِ كُلُّ ما يَدُلُّ عَلى رَكاكةِ دينِه إلى حَدٍّ يَستَجرِئُ عَلى الكَذِبِ بالأغراضِ الدُّنيَويَّةِ، كيفَ وقَد شُرِطَ في العَدالةِ التَّوَقِّي عن بَعضِ المُباحاتِ القادِحةِ في المَروءةِ نَحوُ الأكلِ في الطَّريقِ، والبَولِ في الشَّارِعِ، وصُحبةِ الأراذِلِ، وإفراطِ المَزحِ؟ والضَّابِطُ في ذلك فيما جاوَز مَحَلَّ الإجماعِ أن يُرَدَّ إلى اجتِهادِ الحاكِمِ، فما دَلَّ عِندَهُ عَلى جَراءَتِه عَلى الكَذِبِ رَدَّ الشَّهادةَ به، وما لا فلا)
[1811] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 125). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (المُرادُ بالعَدْلِ من لهُ مَلَكةٌ تَحمِلُهُ عَلى مُلازَمةِ التَّقوى والمَروءةِ، والمُرادُ بالتَّقوى: اجتِنابُ الأعمالِ السَّيِّئةِ من شِركٍ أو فِسقٍ أو بِدعةٍ)
[1812] يُنظر: ((نزهة النظر)) (ص: 68). .
وقال
السُّيوطيُّ في تَعريفِ العَدالةِ: (حَدَّها الأصحابُ: بأنَّها مَلَكةٌ، أي: هَيئةٌ راسِخةٌ في النَّفسِ تَمنَعُ مِنِ اقتِرافِ كَبيرةٍ أو صَغيرةٍ دالَّةٍ عَلى الخِسَّةِ أو مُباحٍ يُخِلُّ بالمُروءةِ، وهَذِه أحسَنُ عِبارةٍ في حَدِّها)
[1813] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) (ص: 384). .
وقَد ذَهَبَ بَعضُ العُلَماءِ إلى أنَّ العَدْلَ من غَلَب خَيرُهُ شَرَّه، فقَد رَوى
مالِكُ بنُ أَنَسٍ عنِ
الزُّهريِّ قال: سَمِعتُ
سَعيدَ بنَ المُسيِّبِ يَقولُ: (ليسَ من شَريفٍ ولا عالِمٍ ولا ذي سُلْطانٍ إلَّا وفيه عَيبٌ، لا بُدَّ، ولَكِن مِنَ النَّاسِ من لا تُذكَرُ عُيوبُه، من كانَ فضلُهُ أكثَرَ من نَقصِه وُهِبَ نَقْصُهُ لفَضْلِه)
[1814] رواه الخطيب البغدادي في ((الكفاية)) (ص: 79). .
وعنِ البُوَيطيِّ قال: قال
الشَّافِعيُّ: (لا أعلَمُ أحَدًا أعطِيَ طاعةَ اللهِ حَتَّى لم يَخلِطْها بمَعصيةٍ إلَّا يَحيى بن زَكَريَّا عليه السَّلامُ، ولا عَصى اللهَ فلَم يَخلِطْ بطاعةٍ، فإذا كانَ الأغلَبُ الطَّاعةَ فهوَ المُعَدَّلُ، وإذا كانَ الأغلَبُ المَعصيةَ فهوَ المُجَرَّحُ)
[1815] رواه الخطيب البغدادي في ((الكفاية)) (ص: 79). .
وقال
الصَّنعانيُّ: (تَفسيرُ العَدالةِ بالمَلَكةِ المَذكورةِ ليسَ مَعناها لُغةً ولا أتى عنِ الشَّارِعِ حَرفٌ واحِدٌ بما يُفيدُها، واللهُ تعالى قال في الشُّهودِ:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وهوَ كالتَّفسيرِ للعَدْلِ. والمَرْضيُّ: من تَسْكُنُ النَّفسُ إلى خَبَرِه ويَرضى به القَلبُ، ولا يَضطَرِبُ مِن خَبَرِه ويَرتابُ، ومِنهُ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ... فالعَدْلُ مَنِ اطمَأنَّ القَلبُ إلى خَبَرِه وسَكَنتِ النَّفسُ إلى ما رواهُ، وأمَّا القَولُ بأنَّه من لهُ هَذِه المَلَكةُ الَّتي هيَ كيفيَّةٌ راسِخةٌ تَصدُرُ عنها الأفعالُ بسُهولةٍ يَمتَنِعُ بها عنِ اقتِرافِ كُلِّ فردٍ من أفرادِ الكَبائِرِ وصَغائِرِ الخِسَّةِ، كسَرِقةِ لُقْمةٍ والتَّطفيفِ بحَبَّةِ تَمرةٍ؛ والرَّذائِلِ الجائِزةِ، كالبَولِ في الطُّرُقاتِ وأكْلِ غَيرِ السُّوقيِّ فيه، فهَذا تَشديدٌ في العَدالةِ لا يَتِمُّ إلَّا في حَقِّ المَعصومينَ وأفرادٍ من خُلَّصِ المُؤمِنين،... وحُصولُ هَذِه المَلَكةِ في كُلِّ راوٍ من رُواةِ الحَديثِ عَزيزُ الحُصولِ لا يَكادُ يَقَعُ، ومَن طالَعَ تَراجِمَ الرُّواةِ عَلِمَ ذلك، وأنَّه ليسَ العَدْلُ إلَّا من قارَبَ وسَدَّد، وغَلَبَ خَيرُهُ شَرَّهُ... فالمُؤْمِنُ المَرْضيُّ العَدْلُ لا بُدَّ مُقارَفَته لشَيءٍ مِنَ الذُّنوبِ، لكِنَّ غالِبَ حالِه السَّلامةُ)
[1816] يُنظر: ((ثمرات النظر في علم الأثر)) (ص: 55 - 59). .
وقال أيضًا: (العَدْلُ هو من غَلَبَ خَيرُهُ شَرَّهُ، ولَم يُجَرَّبْ عليه اعتيادُ كذِبٍ)
[1817] يُنظر: ((سبل السلام)) (4/ 129). .
وجِماعُ القَولِ في ذلك أنَّ العَدْلَ هو: من عُرِفَ بأداءِ فرائِضِه، ولُزومِ ما أُمِرَ به، وتَوَقِّي ما نُهيَ عنه، وتَجَنُّبِ الفَواحِشِ المُسقْطةِ، وتَحَرِّي الحَقِّ والواجِبِ في أفعالِه ومُعامَلَتِه، والعَدْلُ مَعروفٌ بالصِّدقِ في حَديثِه، واستِقامةِ السِّيرةِ والدِّينِ، ومُلازَمةِ التَّقوى والمُروءةِ، والعَدْلُ يَخافُ اللهَ تعالى خَوفًا وازِعًا عنِ الكَذِبِ واجتِنابِ الأعمالِ السَّيِّئةِ من شِركٍ أو فِسقٍ أو بِدعةٍ، وغَلَب خَيرُهُ شَرَّهُ، وبِهَذا يَطمَئِنُّ القَلبُ إلى خَبرِه، وتَسْكُنُ النَّفسُ إلى ما يَرويه.