المبحثُ الثَّاني: تعريفُ آلِ البَيتِ اصطِلاحًا
اختلف أهلُ العِلمِ في المرادِ بآلِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أقوالٍ أرجَحُها أنهم الذين تحرُمُ عليهم الصَّدَقةُ، وهو منصوصُ
الشَّافعيِّ [2172] يُنظر: ((الأم)) (3/202). و
أحمَدَ [2173] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/ 533). ، وهو اختيارُ جُمهوِر أصحابِهما
[2174] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (7/ 1292)، ((الفروع)) لابن مفلح (4/ 367). . لكِنِ اختَلَف العُلَماءُ في تحديدِ من تحرُمُ عليهم الصَّدَقةُ على أقوالٍ، أقواها قولانِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّهم بنو هاشمٍ، وبنو المطَّلِبِ، وهذا مَذهَبُ
الشَّافعيِّ [2175] يُنظر: ((الأم)) (3/202)، ((الحاوي)) للماوردي (7/ 1293). و
أحمَدَ في روايةٍ عنه
[2176] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (4/370). .
القَولُ الثَّاني: أنهم بنو هاشمٍ خاصَّةً، وهذا مَذهَبُ
أبي حنيفةَ [2177] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/49). ، والمشهورُ عن
أحمدَ [2178] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (4/ 368). واختيارُ ابنِ القاسِمِ صاحِبِ
مالِكٍ [2179] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/142). .
ويدُلُّ على ذلك عِدَّةُ أدِلَّةً، منها:1- عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ
فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها أرسلت إلى
أبي بكرٍ تسألُه ميراثَها من النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما أفاء اللهُ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.. فقال
أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا نُورَثُ، ما ترَكْنا فهو صَدَقةٌ، إنما يأكُلُ آلُ محمَّدٍ مِن هذا المالِ يعني مالَ اللهِ، ليس لهم أن يَزيدوا على المأكَلِ )) [2180] رواه البخاري (3711، 3712) واللَّفظُ له، ومسلم (1759). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (توجيهُه أنَّ
((مِن)) للتبعيضِ، والتقديرُ: إنَّما يأكُلُ آلُ محمَّدٍ بَعْضَ هذا المالِ، يعني بقَدْرِ حاجتِهم، وبقيَّتُه للمَصالحِ)
[2181] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/ 7). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُؤتى بالتَّمرِ عِندَ صِرامِ [2182] (الصِّرامُ: قَطْعُ الثَّمَرةِ واجتِناؤُها من النَّخلةِ. يقال: هذا وَقتُ الصِّرامِ والجِدادِ). يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 26). النَّخلِ، فيجيءُ هذا بتَمْرِه، وهذا من تَمْرِه، حتى يصيرَ عِندَه كَومًا من تمرٍ، فجَعَل الحَسَنُ والحُسَينُ رَضِيَ اللهُ عنهما يلعبانِ بذلك التَّمرِ، فأخذ أحدُهما تمرةً فجَعَلها في فيه، فنظر إليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخرجها مِن فيه، فقال: أمَا عَلِمْتَ أنَّ آلَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يأكُلونَ الصَّدَقةَ ؟)) [2183] رواه البخاري (1485) واللَّفظُ له، ومسلم (1069). .
قال
ابنُ العربيِّ: (الآلُ إذا وَقَع على الأقارِبِ فإنَّما يتناوَلُ الأدنَينَ)
[2184] يُنظر: ((المسالك في شرح موطأ مالك)) (4/ 90). .
وقال
ابنُ الملقَّنِ: (فيه دلالةٌ واضِحةٌ على تحريمِ الصَّدَقةِ على آلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[2185] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (10/ 540). .
3- عن زيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا خطيبًا فينا بماءٍ يُدعَى خمًّا بين مكَّةَ والمدينةِ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه وذَكَّر ووَعَظ، ثُمَّ قال:
((أمَّا بَعْدُ، ألا أيُّها النَّاسُ إنَّما أنا بَشَرٌ يُوشِكُ أن يأتيَني رسولُ رَبِّي عزَّ وجَلَّ، وإني تارِكٌ فيكم ثَقَلَينِ: أوَّلُهما كتابُ اللهِ عزَّ وجَلَّ فيه الهُدى والنُّورُ، فخُذوا بكتابِ اللهِ واستَمسِكوا به))، فحَثَّ على كتابِ اللهِ ورغَّب فيه، وقال:
((وأهلُ بيتي: أذكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي، أذكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي)). فقال له حُصَينُ بنُ سَبرةَ: ومَن أهلُ بَيتِه يا زيدُ؟ أليس نساؤُه من أهلِ بَيتِه؟ قال: إنَّ نِساءَه من أهلِ بَيتِه، ولكِنَّ أهلَ بَيتِه مَن حُرِمَ الصَّدَقةَ بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آلُ عليٍّ، وآلُ عَقيلٍ، وآلُ جَعفرٍ، وآلُ عبَّاسٍ. قال: أكُلُّ هؤلاء حُرِمَ الصَّدَقةَ؟ قال: نعم
[2186] رواه مسلم (2408). .
قال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (قولُ من قال: هم بنو هاشِمٍ أَولى)
[2187] يُنظر: ((الاستذكار)) (8/ 614). .
وقال أبو العبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه: وأهلُ بيتي: أذكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي -ثلاثًا-، هذه الوصِيَّةُ، وهذا التأكيدُ العَظيمُ يقتضي وجوبَ احترامِ آلِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأهلِ بَيتِه، وإبرارَهم وتوقيرَهم ومحبَّتَهم؛ وُجُوبَ الفُروضِ المؤكَّدةِ التي لا عُذْرَ لأحَدٍ في التخَلُّفِ عنها. هذا مع ما عُلِمَ من خصوصيَّتِهم بالنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبأنَّهم جزءٌ منه، فإنَّهم أصوُله التي نشأ منها، وفروعُه التي تنشَأُ عنه، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فاطِمةُ بَضْعةٌ مني يَريبُني ما يَرِيبُها)) [2188] أخرجه البخاري (5230)، ومسلم (2449) من حديث المسور بن مخرمة رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظ البخاري: ((فإنما هي بَضعةٌ مني، يُريبُني ما أرابَها، ويؤذيِني ما آذاها)). ... «قولُه: مَن أهلُ بَيتِه؟ أليس نساؤُه من أهلِ بَيتِه؟» هذا سؤالُ من تمسَّك بظاهِرِ لَفظِ البَيتِ؛ فإنَّ الزوجةَ هي أصلُ بَيتِ الرَّجُلِ؛ إذ هي التي تَعمُرُه وتلازِمُه وتقومُ بمصالِحِه، وكذلك إجابةُ زَيدٍ بأنْ قال: نساؤُه من أهلِ بَيتِه، أي: بيتِه المحسوسِ، وليس هو المرادَ هنا؛ ولذلك قال في الرِّوايةِ الأُخرى في جوابِ السَّائِلِ: لا!
[2189] أخرجه مسلم (2408) عن زيد بن أرقم، قال: (دخَلْنا عليه فقُلْنا له: لقد رأيتَ خيرًا، لقد صاحَبْتَ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصلَّيتَ خَلْفَه.. ألَا وإني تارِكٌ فيكم ثَقَلَينِ: أحَدُهما: كِتابُ اللهِ عزَّ وجَلَّ، هو حَبلُ اللهِ. من اتَّبَعَه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضَلالةٍ.. فقُلْنا: من أهلُ بَيتِه؟ نساؤُه؟ قال: لا، وأيمُ اللهِ إنَّ المرأةَ تكونُ مع الرَّجُلِ العَصْرَ من الدَّهْرِ، ثم يطَلِّقُها فترجِعُ إلى أبيها وقَومِها. أهْلُ بَيْتِه: أَصْلُه وعَصَبَتُه الذين حُرِموا الصَّدَقةَ بَعْدَه). أي: ليس نساؤه من أهلِ بَيتِه، المعنى هنا: مَن أهلُ بَيتِه المعنيُّ هنا، لكِنْ هم أصلُه وعَصَبَتُه، ثُمَّ عيَّنَهم بأنَّهم: هم الذين حُرِموا الصَّدَقةَ، أي الذين تَحرُمُ عليهم الصَّدَقاتِ الشَّرعيَّةَ على الخِلافِ الذي ذكَرْناه في كتابِ الزَّكاةِ، وقد عيَّنَهم زيدٌ تعيينًا يرتَفِعُ معه الإشكالُ، فقال: هم آلُ عَلِيٍّ، وآلُ عَقيلٍ، وآلُ جَعفَرٍ، وآلُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم)
[2190] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 304). .
4- عن عبدِ المطَّلِبِ بنِ رَبيعةَ قال: اجتَمَع ربيعةُ بنُ الحارِثِ والعبَّاسُ بنُ عَبدِ المطَّلِبِ فقالا: واللهِ لو بَعَثْنا هذين الغُلامَينِ -قالا لي وللفَضلِ بنِ عبَّاسٍ- إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكَلَّماه فأمَّرَهما على هذه الصَّدَقاتِ، فأدَّيا ما يؤدِّي النَّاسُ وأصابا ممَّا يُصيبُ النَّاسُ.. فتواكَلْنا الكلامَ، ثُمَّ تكلَّم أحَدُنا، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أنت أبَرُّ النَّاسِ وأوصَلُ النَّاسِ، وقد بلَغْنا النِّكاحَ فجِئْنا لتُؤَمَّرَنا على بَعضِ هذه الصَّدَقاتِ فنؤدِّيَ إليك كما يؤدِّي النَّاسُ ونُصيبَ كما يُصيبون قال: فسَكَت طويلًا حتى أرَدْنا أن نكَلِّمَه، قال: وجعَلَت
زينبُ تُلمِعُ علينا من وراءِ الحِجابِ أنْ لا تُكَلِّماه، قال: ثُمَّ قال:
((إنَّ الصَّدَقةَ لا تنبغي لآلِ محمَّدٍ؛ إنما هي أوساخُ النَّاسِ)) [2191] رواه مسلم (1072). .
قال النوويُّ: (قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنما هي أوساخُ النَّاسِ)) تنبيهٌ على العِلَّةِ في تحريمِها على بني هاشِمٍ وبني المطَّلِبِ، وأنها لكرامَتِهم وتنزيهِهم عن الأوساخِ، ومعنى أوساخِ النَّاسِ أنَّها تطهيرٌ لأموالِهم ونفوسِهم، كما قال تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا فهي كغُسالةِ الأوساخِ)
[2192] يُنظر: ((شرح مسلم)) (7/ 179). .