المبحثُ السَّادِسُ: هل القَولُ بتفضيلِ بني هاشِمٍ يُعَدُّ تفضيلًا مُطلَقًا لجَميعِهم على كُلِّ النَّاسِ وفي جميعِ الأحوالِ؟
لا يعني القَولُ بتفضيلِ آلِ البَيتِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ تفضيلَهم مُطلقًا في كُلِّ الأحوالِ وعلى جَميعِ النَّاسِ، بل قد يُوجَدُ في آحادِ النَّاسِ من هو أفضَلُ مِن آحادِ بني هاشمٍ؛ لزيادةِ التَّقوى والإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ. فنَفسُ القرابةِ مِنَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا تنفَعُ؛ فإنَّ اللهَ تبارك وتعالى لم يُعَلِّقْ بها ثوابًا ولا عِقابًا، ولا مَدَحَ أحدًا بمجَرَّدِ كَونِه مِن ذوي القُربى وأهْلِ البَيتِ، ولا ذَكَر سُبحانَه استِحقاقَه الفضيلةَ عِندَ اللهِ بذلك
[2392] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/600، 602)، (8/220). .
قال اللهُ تعالى:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] .
قال
القُرطبيُّ: (في هذه الآيةِ ما يَدُلُّك على أنَّ التقوى هي المُراعى عندَ اللهِ تعالى وعندَ رَسولِه دونَ الحَسَبِ والنَّسَبِ)
[2393] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/ 345). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ومَن بطَّأ به عَمَلُه لَم يُسرِعْ به نَسَبُه )) [2394] رواه مسلم (2699) مطولًا. .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (معناه أنَّ العَمَلَ هو الذي يَبلُغُ بالعَبدِ دَرَجاتِ الآخِرةِ، كما قال تعالى:
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام: 132] ، فمَن أبطأ به عَمَلُه أن يبلُغَ به المنازِلَ العاليةَ عند اللهِ تعالى، لَم يُسرِعْ به نَسَبُه فيُبَلِّغْه تلك الدَّرجاتِ؛ فإنَّ اللهَ رتَّب الجزاءَ على الأعمالِ لا على الأنسابِ)
[2395] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 308). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((النَّاسُ مَعادِنُ كمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، خِيارُهم في الجاهِليَّةِ خِيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا )) [2396] أخرجه البخاري (3383) دون ذكر "الفضة والذهب"، ومسلم (2638) واللَّفظُ له. .
قال
القُرطبيُّ: (وَجهُ التمثيلِ: أنَّ المعادِنَ مُشتَمِلةٌ على جواهِرَ مُختَلِفةٍ، منها النَّفيسُ، والخَسيسُ، وكُلٌّ مِنَ المعادِنِ يُخرِجُ ما في أصلِه، وكذلك النَّاسُ كُلٌّ منهم يَظهَرُ عليه ما في أصلِه؛ فمن كان ذا شَرَفٍ وفَضلٍ في الجاهليَّةِ فأسلَمَ، لم يَزِدْه الإسلامُ إلَّا شَرَفًا، فإنْ تَفَقَّه في دينِ اللهِ فقد وَصَل إلى غايةِ الشَّرَفِ؛ إذ قد اجتَمَعَت له أسبابُ الشَّرَفِ كُلُّها، فيَصدُقُ عليه قَولُه: فخِيارُهم في الجاهليَّةِ خِيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا)
[2397] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/ 345). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (تعليقُ الشَّرَفِ في الدِّينِ بمُجَرَّدِ النَّسَبِ هو حُكمٌ مِن أحكامِ الجاهِليَّةِ، الذين اتبعَتْهم عليه الرَّافِضةُ وأشباهُهم من أهلِ الجَهلِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قال:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] . وقال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا فَضْلَ لعَرَبيٍّ على عَجَميٍّ ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ ولا لأسوَدَ على أبيَضَ ولا لأبيَضَ على أسوَدَ إلَّا بالتقوى، النَّاسُ مِن آدَمَ، وآدَمُ مِن تُرابٍ)) [2398] أخرجه من طرق أحمد (23489)، وعبد الله بن المبارك في ((المسند)) (239)، والحارث في ((المسند)) كما في ((بغية الباحث)) للهيثمي (51) من حديث رجلٍ من أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ولفظ أحمد: عن أبي نَضرةَ، حدَّثني من سَمِع خُطبةَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((..ألَا لا فَضْلَ لعربيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ، إلَّا بالتقوى)). صَحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1536)، وصَحَّح إسنادَه ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/412)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/199)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23489). ؛ ولهذا ليس في كتابِ اللهِ آيةٌ واحِدةٌ يَمدَحُ فيها أحدًا بنَسَبِه، ولا يَذُمُّ أحدًا بنَسَبِه، وإنما يَمدَحُ الإيمانَ والتقوى ويَذُمُّ بالكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ. وقد ثَبَت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّحيحِ أنَّه قال:
((أربَعٌ مِن أمرِ الجاهليَّةِ في أمَّتي لن يَدَعوهنَّ: الفَخرُ بالأحسابِ، والطَّعنُ في الأنسابِ، والنِّياحةُ، والاستِسقاءُ بالنُّجومِ)) [2399] أخرجه مسلم (934) باختلافٍ يسيرٍ مِن حَديثِ أبي مالك الأشعري رَضِيَ اللهُ عنه. . والشَّريعةُ إنَّما عَلَّقَت بالنَّسَبِ أحكامًا؛ مِثلَ كَونِ الخِلافةِ مِن قُرَيشٍ، وكونِ ذوي القُربى لهم
الخُمُسُ، وتحريمِ الصَّدَقةِ على آلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونحوِ ذلك؛ لأنَّ النَّسَبَ الفاضِلَ مَظِنَّةُ أن يكونَ أهلُه أفضَلَ مِن غَيرِهم، كما قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((النَّاسُ معادِنُ كمعادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، خِيارُهم في الجاهِليَّةِ خِيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا )) [2400] أخرجه البخاري (3383) دون ذكر "الفضة والذهب"، ومسلم (2638) باختلافٍ يسيرٍ. من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. ، فأمَّا إذا ظَهَر دِينُ الرَّجُلِ الذي به تتعلَّقُ الأحكامُ وعُرِفَ نَوعُ دينِه وقَدْرُه، لم يتعلَّقْ بنَسَبِه الأحكامُ الدِّينيَّةُ؛ ولهذا لم يكُنْ لأبي لَهَبٍ مَزِيَّةٌ على غيرِه، لَمَّا عُرِفَ كُفرُه كان أحَقَّ بالذَّمِّ مِن غيرهِ؛ ولهذا جُعِل لِمَن يأتي بفاحِشةٍ مِن أزواجِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضِعفانِ مِنَ العَذابِ، كما جَعَلَ لِمَن يَقنُتُ مِنهُنَّ للهِ ورَسولِه أجرَينِ مِنَ الثَّوابِ، فذَوُو الأنسابِ الفاضِلةِ إذا أساؤوا كانت إساءتُهم أغلَظَ مِن إساءةِ غَيرِهم، وعُقوبتُهم أشَدَّ عُقوبةً مِن غَيرِهم)
[2401] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/ 230). .
وقال أيضًا: (للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من بني العَمِّ عَدَدٌ كثيرٌ؛ كجَعفَرٍ، وعَقيلٍ، وعَبدِ اللهِ، وعُبَيدِ اللهِ، والفَضلِ، وغَيرِهم من بني العبَّاسِ، وكرَبيعةَ، وأبي سُفيانَ بنِ الحارِثِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ.
وليس هؤلاء أفضَلَ مِن أهلِ بَدرٍ، ولا من أهلِ بَيعةِ الرِّضوانِ، ولا من السَّابِقينَ الأوَّلينَ، إلَّا من تقَدَّم بسابِقَتِه، كحَمزةَ وجَعفَرٍ؛ فإنَّ هذينِ رَضِيَ اللهُ عنهما من السَّابقينَ الأوَّلينَ. وكذلك عُبَيدةُ بنُ الحارِثِ الذي استُشهِدَ يَومَ بَدرٍ)
[2402] انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (8/244). .