المطلبُ الأوَّلُ: اعتِقادُ عَدَمِ عِصْمةِ العالِمِ، وأنَّ الخَطَأَ لا يَستلزِمُ دائِمًا الإثمَ
إنَّ الخطَأَ وارِدٌ على جميعِ البَشَرِ، فهو من مُقتضى طبيعَتِهم، والخَطَأُ لا يَستلزِمُ دائِمًا الإثمَ، بل المجتَهِدُ المُخطِئُ مأجورٌ بإذْنِ اللهِ تعالى. والعُلَماءُ كغَيْرِهم من عامَّةِ النَّاسِ، عُرضةٌ للخَطَأِ والنِّسيانِ.
عن
عَمْرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال:
((إذا حَكَم الحاكِمُ فاجتَهَد ثُمَّ أصاب، فله أجرانِ، وإذا حَكَم فاجتَهَد ثُمَّ أخطَأَ فله أجرٌ )) [2498] رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716). .
قال
العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (مَن فَعَل فِعلًا يظُنُّه قُربةً أو مُباحًا، وهو من المفاسِدِ المحَرَّمةِ في نَفْسِ الأمرِ؛ كالحاكِمِ إذا حَكَم بما يَظُنُّه حَقًّا بناءً على الحُجَجِ الشَّرعيَّةِ، وكالمُصَلِّي صَلَّى على ظَنِّ أنَّه مُتطَهِّرٌ، أو كَمَن يُصَلِّي على مُرتَدٍّ يَعتَقِدُه مُسلِمًا، وكالشَّاهِدِ يَشهَدُ بحَقٍّ عَرَفه بناءً على استِصحابِ بقائِه، فظَهَر كَذِبُ الظَّنِّ في ذلك كُلِّه- فهذا خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عنه، ويُثابُ فاعِلُه على قَصْدِه دونَ فِعْلِه)
[2499] يُنظر: ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) (1/ 27). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (فأمَّا الصِّدِّيقونَ والشُّهَداءُ والصَّالِحون فليسوا بمعصومينَ، وهذا في الذُّنوبِ المحقَّقةِ، وأمَّا ما اجتهدوا فيه فتارةً يُصيبون وتارةً يُخطِئون؛ فإذا اجتَهَدوا فأصابوا فلهم أجرانِ، وإذا اجتَهَدوا وأخطَؤوا فلهم أجرٌ على اجتهادِهم، وخَطؤهم مغفورٌ لهم، وأهلُ الضَّلالِ يجعَلونَ الخَطَأَ والإثمَ مُتلازِمَينِ؛ فتارةً يَغْلُون فيهم ويقولون: إنَّهم معصومون، وتارةً يَجْفُون عنهم ويقولونَ: إنَّهم باغون بالخَطَأِ، وأهلُ العِلمِ والإيمانِ لا يُعَصِّمون، ولا يُؤَثِّمونَ)
[2500] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/69). .
وقال أيضًا: (ليس لأحَدٍ أن يَتْبَعَ زلَّاتِ العُلَماءِ، كما ليس له أن يتكَلَّمَ في أهلِ العِلمِ والإيمانِ إلَّا بما هم له أهلٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى عفا للمُؤمِنين عمَّا أخطَؤوا، كما قال تعالى:
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] ، قال اللهُ:
((قد فعَلْتُ)) [2501] رواه مسلم (126) مطولًا من حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما. . وأمَرَنا أن نتَّبِعَ ما أُنزِلَ إلينا مِن رَبِّنا، ولا نتَّبِعَ مِن دونِه أولياءَ، وأمَرَنا ألَّا نُطيعَ مخلوقًا في مَعصيةِ الخالِقِ، ونَستغفِرَ لإخوانِنا الذين سَبَقونا بالإيمانِ، فنقولَ:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر: 10] . وهذا أمرٌ واجِبٌ على المُسلِمينَ في كُلِّ ما كان يُشبِهُ هذا من الأمورِ، ونُعَظِّمُ أَمْرَه تعالى بالطَّاعةِ للهِ ورَسولِه، ونرعى حقوقَ المُسلِمين، لا سِيَّما أهلِ العِلمِ منهم، كما أمَرَ اللهُ ورَسولُه، ومن عَدَل عن هذه الطَّريقِ فقد عَدَل عن اتِّباعِ الحُجَّةِ إلى اتِّباعِ الهَوى في التقليدِ، وآذى المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ بغيرِ ما اكتسبوا، فهو من الظَّالِمين، ومن عَظَّم حُرُماتِ اللهِ، وأحسَنَ إلى عِبادِ اللهِ، كان من أولياءِ اللهِ المتَّقِينَ. واللهُ سُبحانَه أعلَمُ)
[2502] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (32/239). .
ومَذهَبُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ أنَّهم لا يُكَفِّرون ولا يُفَسِّقون ولا يُؤَثِّمون أحدًا مِنَ المجتَهِدين المُخطِئين لا في مَسألةٍ عِلميَّةٍ ولا عَمَليَّةٍ، ولا في الأُصولِ ولا في الفُروعِ، ولا في القَطعيَّاتِ ولا في الظَّنِّياتِ
[2503] يُنظر: ((معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة)) للجيزاني (ص: 489). .
قال
الطَّحاويُّ: (أهلُ الخَيرِ والأَثَرِ، وأهلُ الفِقْهِ والنَّظَرِ، لا يُذكَرونَ إلَّا بالجَميلِ، ومن ذَكَرَهم بسُوءٍ فهو على غَيرِ السَّبيلِ)
[2504] يُنظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 82). وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّ المتأَوِّلَ الذي قَصَد مُتابَعةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُكفَّرُ ولا يُفسَّقُ إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهورٌ عند النَّاسِ في المسائِلِ العَمَليَّةِ، وأمَّا مَسائِلُ العقائِدِ فكثيرٌ مِنَ النَّاسِ كَفَّر المُخطِئينَ فيها، وهذا القَولُ لا يُعرَفُ عن أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، ولا عن أحَدٍ مِن أئِمَّةِ المُسلِمينَ، وإنما هو في الأصلِ مِن أقوالِ أهلِ البِدَعِ الذين يَبتَدِعونَ بِدعةً ويُكفِّرونَ من خالَفَهم)
[2505] يُنظر: ((منهاج السنة)) (5/239). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (من قواعِدِ الشَّرعِ، والحِكمةِ أيضًا: أنَّ مَن كَثُرت حَسَناتُه وعَظُمَت وكان له في الإسلامِ تأثيرٌ ظاهِرٌ، فإنَّه يُحتَمَلُ له ما لا يُحتَمَلُ لِغَيرِه، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيرِه؛ فإنَّ المعصيةَ خَبَثٌ، والماءَ إذا بَلَغ قُلَّتَينِ لم يَحمِلِ الخَبَثَ)
[2506] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 176). .
وقال
الشَّاطبيُّ: (الابتداعُ مِنَ المجتَهِدِ لا يَقَعُ إلَّا فَلتةً، وبالعَرَضِ لا بالذَّاتِ، وإنَّما تُسَمَّى غَلطةً أو زَلَّةً؛ لأنَّ صاحِبَها لم يَقصِدِ اتِّباعَ المُتشابِهِ ابتغاءَ الفِتنةِ وابتغاءَ تأويلِ الكِتابِ، أي: لم يتَّبِعْ هواه، ولا جعَلَه عُمدةً، والدَّليلُ عليه أنَّه إذا ظهر له الحَقُّ أذعَنَ له وأقرَّ به)
[2507] يُنظر: ((الاعتصام)) (ص: 114). .
وقال المقبليُّ: (مِن المعلومِ أنَّه ليس من الفِرقةِ النَّاجيةِ ألَّا يَقَعَ منها أدنى اختِلافٍ؛ فإنَّ ذلك قد كان في فُضَلاءِ الصَّحابةِ، إنما الكلامُ في مخالَفةٍ تُصَيِّرُ صاحِبَها فِرقةً مُستَقِلَّةً ابتَدَعَها)
[2508] يُنظر: ((العَلَم الشامخ)) (ص: 414). .