الفَرعُ السَّابعُ: مِن شُروطِ لا إلهَ إلَّا اللهُ: المَحَبَّةُ
فيَجِبُ مَحَبَّةُ هذه الكَلِمةِ وما اقتضَتَه وما دَلَّت عليه، ومَحَبَّةُ أهلِها العامِلينَ بها، الملتَزِمينَ لشُروطِها، وبُغْضُ ما ناقَضَ ذلك.
قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة:165] .
أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ بَعْضَ النَّاسِ يجعَلون مِن بعضِ الخَلقِ نُظَراءَ لله سُبحانَه، بمساواتِهم له في المحبَّةِ، فيحبُّونهم كما يحبُّون الَله تعالى، وأمَّا المؤمنونَ الموحِّدونَ فهم أشدُّ حبًّا للهِ عزَّ وجَلَّ مِن محبَّةِ أولئك لله تعالى ولأندادِهم.
وفي هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ محبَّةَ اللهِ سُبحانَه مِن العِبادةِ؛ لأنَّ اللهَ جعَل مَن سوَّى غيرَه به فيها مشرِكًا متَّخذًا لله ندًّا؛ فالمحبَّةُ مِن العِبادةِ، بل هي أساسُ العِبادةِ؛ لأنَّ أساسَها مبنيٌّ على الحبِّ والتَّعظيمِ، وكلَّما ازداد إيمانُ العبدِ ازدادتْ محبَّتُه لله؛ وذلك لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى رتَّب شدَّةَ المحبَّةِ على الإيمانِ
[744] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 68). .
قال
ابنُ كثيرٍ: (ذَكَر تعالى حالَ المُشْرِكين به في الدُّنيا، وما لهم في الدَّارِ الآخِرةِ؛ حيثُ جَعَلوا له أندادًا، أي: أمثالًا ونُظَراءَ يَعبُدونَهم معه، ويحِبُّونَهم كحُبِّه، وهو اللهُ لا إلهَ إلَّا هو، ولا ضِدَّ له، ولا نِدَّ له، ولا شَريكَ معه. وفي الصَّحيحينِ عن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ؟ قال:
((أن تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خَلَقَك )) [745] أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86) .
وقَولُه:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ولحُبِّهم لله وتمامِ مَعرفتِهم به، وتوقيرِهم وتوحيدِهم له، لا يُشرِكونَ به شيئًا، بل يَعبُدونَه وَحْدَه ويتوكَّلون عليه، ويَلجَؤونَ في جميعِ أُمورِهم إليه)
[746] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 476). .
وعن
أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وَجَد حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما... )) الحديث
[747] أخرجه البخاري (16) واللَّفظُ له، ومسلم (43). .
يُوضِّحُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويُبيِّنُ أهميَّةَ هذه المحبَّةِ، ووُجوبَها لتَحقيقِ الإيمانِ الكامِلِ؛ فيَذكُرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاثَ خِصالٍ، ويُبيِّنُ أنَّ مَن حقَّقَها وقامَ بها، فإنَّه هو الذي يجِدُ حلاوةَ الإيمانِ؛ فأوَّلُها: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سِواهما، ومحبَّةُ اللهِ تَنشأُ مِن مَعرفةِ أسمائِه وصِفاتِه، والتَّفكيرِ في مَصنوعاتِه، وما فيها مِن الحِكَمِ والعَجائبِ، وتحصُلُ مِن مُطالَعةِ نِعَمِه على العِبادِ؛ فإنَّ ذلك كلَّه يدُلُّ على كَمالِه وقُدرتِه، وحِكمتِه وعِلمِه ورَحمتِه، ومِن ثَمَّ يَمتلئُ قلْبُ العبدِ حُبًّا وتَعظيمًا للهِ تعالى ولرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وممَّا يدُلُّ على صِدقِ المحبَّةِ مِن العَبدِ لخالقِه سُبحانَه وتعالَى: التزامُ شَريعتِه وطاعتِه، والانتهاءُ عمَّا نهَى عنه، والتزامُ أوامرِه ونَواهيهِ في كُلِّ شيءٍ، ومحبَّةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كذلك. ومِن آثارِ تِلك الحلاوةِ التي يَمنَحُها اللهُ تعالى قلْبَ مَن يُحبُّه: الأُنسُ به سُبحانَه، وانشراحُ الصَّدرِ، وقوَّةُ التحمُّلِ، والثِّقةُ بمَوعودِه، والرِّضا بقدَرِه، وعَظمةُ اللُّجوءِ إليه، والتضرُّعُ بيْن يَديهِ
[748] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 68). .
قال
محمَّدُ بنُ نصرٍ المروَزيُّ: (مُحالٌ أن يفارِقَ الإيمانُ الحُبَّ، وكان عزيزًا أن يفارِقَ أحَدُهما الآخَرَ، فإذا لم يجُزْ أن يفارِقَ البُغضُ الكُفرَ، فالحُبُّ الإيمانُ لا غيرُه، والبُغضُ من الكُفرِ جزءٌ لا غيرُه)
[749])) يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 741). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ عن مَحَبَّةِ اللهِ: (هي المنزِلةُ التي فيها تنافَسَ المتنافِسونَ، وإليها شَخَص العامِلونَ، وإلى عِلْمِها شَمَّر السَّابِقونَ، وعليها تَفانى المحبُّون، وبرُوحِ نَسيمِها ترَوَّح العابِدونَ، فهي قوتُ القُلوبِ، وغِذاءُ الأرواحِ، وقُرَّةُ العُيونِ، وهي الحياةُ التي من حُرِمَها فهو من جملةِ الأمواتِ، والنورُ الذي من فَقَده فهو في بحارِ الظُّلُماتِ، والشِّفاءُ الذي مَن عُدِمَه حَلَّت بقَلْبِه جميعُ الأسقامِ، واللَّذَّةُ التي من لم يَظفَرْ بها فعَيشُه كُلُّه هُمومٌ وآلامٌ، وهي رُوحُ الإيمانِ والأعمالِ والمقاماتِ والأحوالِ، التي متى خَلَت منها فهي كالجَسَدِ الذي لا رُوحَ فيه، تحمِلُ أثقالَ السَّائِرينَ إلى بلادٍ لم يكونوا إلَّا بشِقِّ الأنفُسِ بالِغِيها، وتوصِلُهم إلى مَنازِلَ لم يكونوا بدُونهِا أبدًا واصِلِيها، وتُبَوِّؤُهم مِن مقاعِدِ الصِّدقِ مَقاماتٍ لم يكونوا لولاها داخِلِيها، وهي مطايا القَومِ التي مَسْرَاهم على ظُهورِها دائِمًا إلى الحَبيبِ، وطريقُهم الأقومُ الذي يُبَلِّغُهم إلى منازِلِهم الأُولى من قَريبٍ، تاللهِ لقد ذَهَب أهلُها بشَرَفِ الدُّنيا والآخِرةِ؛ إذ لهم مِن مَعِيَّةِ مَحبوبِهم أوفَرُ نَصيبٍ)
[750] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (3/ 8). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (من أحَبَّ اللهَ ورَسولَه مَحَبَّةً صادِقةً مِن قَلْبِه، أوجَبَ له ذلك أن يحِبَّ بقَلْبِه ما يحِبُّه اللهُ ورَسولُه، ويَكرَهَ ما يَكرَهُه اللهُ ورَسولُه، ويَرضى ما يرضى اللهُ ورَسولُه، ويَسخَطُ ما يُسخِطُ اللهَ ورَسولَه، وأن يَعمَلَ بجوارِحِه بمُقتَضى هذا الحُبِّ والبُغضِ؛ فإنْ عَمِلَ بجوارِحِه شيئًا يخالِفُ ذلك، فإن ارتكَبَ بَعْضَ ما يَكرَهُه اللهُ ورَسولُه، أو تَرَك بعضَ ما يحِبُّه اللهُ ورَسولُه، مع وجوبِه والقُدرةِ عليه؛ دَلَّ ذلك على نَقصِ محَبَّتِه الواجِبةِ، فعليه أن يتوبَ من ذلك، ويرجِعَ إلى تكميلِ المَحَبَّةِ الواجِبةِ)
[751] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 396). .
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخ: (لا بُدَّ في شهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ من سَبعةِ شُروطٍ، لا تنفَعُ قائِلَها إلَّا باجتماِعها؛
أحدُها: العِلمُ المنافي للجَهلِ.
الثَّاني: اليقينُ المنافي للشَّكِّ.
الثَّالثُ: القَبولُ المنافي للرَّدِّ. الرَّابعُ: الانقيادُ المنافي للتَّركِ. الخامِسُ: الإخلاصُ المنافي للشِّركِ. السَّادسُ: الصِّدقُ المنافي للكَذِبِ. السَّابعُ: المحبَّةُ المنافيةُ لضِدِّها)
[752])) يُنظر: ((فتح المجيد)) (ص: 83). .
وقال
السَّعديُّ: (أصلُ التوحيدِ ورُوحُه: إخلاصُ المحبَّةِ للهِ وَحْدَه، وهي أصلُ التألُّهِ والتعَبُّدِ له، بل هي حقيقةُ العبادةِ، ولا يتمُّ التوحيدُ حتى تكمُلَ محبَّةُ العَبدِ لرَبِّه، وتسبِقَ محبَّتُه جميعَ المحابِّ وتَغلِبَها، ويكونَ لها الحُكمُ عليها، بحيث تكونُ سائرُ محابِّ العَبدِ تبعًا لهذه المحبَّةِ التي بها سعادةُ العَبدِ وفلاحُه)
[753])) يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 114). .
وقال المعصومي الخُجَندي: (اعلَمْ أنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ هي الكَلِمةُ الفارقةُ بين الكُفرِ والإسلامِ، وهي كَلِمةُ التقوى التي ألزَمَهم:
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى، وهي العُروةُ الوثقى، وهي التي جعَلَها إبراهيمُ عليه السَّلامُ كلمةً باقيةً في عَقِبِه لعلَّهم يرجِعونَ، وليس المرادُ قَولَها باللِّسانِ فقط، مع الجَهلِ بمعناها؛ فإنَّ المنافِقين يقولونَها، وهم تحت الكُفَّارِ في الدَّركِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ، وهم يصَلُّون ويحُجُّون ويطوفون ويقرؤون القُرآنَ ويتصَدَّقون، ولكِنَّ المرادَ قَولُها مع معرفِتها بالقَلبِ، والإذعانِ بها، ومحبَّتِها، ومحبَّةِ أهلِها، وبُغضِ ما خالفَها، ومُعاداتِه)
[754])) يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) (ص: 38). .