الإتيانُ والمجيءُ
صفتانِ فِعليَّتانِ ثابتتانِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ.
الدَّليلُ مِن الكِتابِ:1- قَولُه تعالَى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام: 158] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ جَلَّ ثناؤُه: هل ينتَظِرُ هؤلاء العادِلونَ برَبِّهم الأوثانَ والأصنامَ إلَّا أن تأتيَهم الملائِكةُ بالموتِ، فتَقبِضَ أرواحَهم، أو أن يأتيَهم رَبُّك -يا محمَّدُ- بين خَلْقِه في مَوقِفِ القيامةِ،
أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَقولُ: أو أن يأتيَهم بعضُ آياتِ رَبِّك؟ وذلك فيما قال أهلُ التَّأويلِ: طُلوعُ الشَّمسِ مِن مَغرِبِها)
[1446] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 11). .
وقال
البَغَويُّ: (
أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بلا كيفٍ؛ لفَصلِ القَضاءِ بيْن خَلْقِه في موقِفِ القيامةِ)
[1447] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 173). .
2- قولُه تعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [البقرة: 210] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (اختُلِفَ في صفةِ إتيانِ الرَّبِّ تبارَك وتعالى، الَّذي ذكَرَه في قَولُه:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 210] ؛ فقال بعضُهم: لا صفةَ لذلك غيرُ الَّذي وصَفَ به نفسَه عزَّ وجلَّ مِن المَجيءِ والإتيانِ والنُّزولِ، وغيرُ جائزٍ تكلُّفُ القولِ في ذلك لأحَدٍ إلَّا بخبرٍ مِن اللهِ جلَّ جلالُه، أو مِن رسولٍ مُرسَلٍ؛ فأمَّا القولُ في صِفات اللهِ وأسمائِه فغيرُ جائزٍ لأحَدٍ مِن جهةِ الاستخراجِ إلَّا بما ذكَرْنا، وقال آخَرون:...)، ثم رجَّحَ القولَ الأوَّلَ
[1448] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/610). .
وقال
البَغَويُّ: (قَولُه تعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ أي: هل ينتَظِرُ التَّاركونَ الدُّخولَ في السِّلمِ، والمتَّبِعونَ خُطُواتِ
الشَّيطانِ، يقالُ: نَظَرْتُه وانتظَرْتُه: بمعنًى واحٍد، فإذا كان النَّظَرُ مقرونًا بذِكرِ الوَجهِ أو إلى، لم يكُنْ إلَّا بمعنى الرُّؤيةِ،
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ جمعُ ظُلَّةٍ،
مِنَ الْغَمَامِ وهو السَّحابُ الأبيضُ الرَّقيقُ، سُمِّيَ غمامًا؛ لأنَّه يَغُمُّ، أي: يَسْتُرُ،...
وَالْمَلَائِكَةُ قرأ أبو جَعفَرٍ بالخَفْضِ عَطفًا على "الغمامِ"، تقديرُه: مع الملائكةِ، تقولُ العَرَبُ: أقبَلَ الأميرُ في العَسكَرِ، أي: مع العَسكَرِ، وقرأ الباقون بالرَّفعِ، على معنى: إلَّا أن يأتيَهم اللهُ والملائِكةُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ، والأَولى في هذه الآيةِ وما شاكَلَها أن يؤمِنَ الإنسانُ بظاهِرِها، ويَكِلَ عِلْمَها إلى اللهِ تعالى، ويعتَقِدَ أنَّ اللهَ عزَّ اسمُه مُنَزَّهٌ عن سماتِ الحُدوثِ. على ذلك مَضَت أئِمَّةُ السَّلَفِ وعُلَماءُ السُّنَّةِ، قال الكَلبيُّ: هذا من العِلمِ المكتومِ الذي لا يُفَسَّرُ، واللهُ أعلَمُ بمرادِه منه، وكان مكحولٌ، و
الزُّهريُّ، و
الأوزاعيُّ، و
مالِكٌ، و
ابنُ المبارَكِ، و
سُفيانُ الثَّوريُّ، و
اللَّيثُ بنُ سَعدٍ، و
أحمدُ، و
إسحاقُ؛ يَقولُون فيه وفي أمثالِه: «أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ»، قال
سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: كُلُّ ما وَصَف اللهُ به نَفْسَه في كِتابه فتَفسيرُه قراءتُه، والسُّكوتُ عنه، ليس لأحَدٍ أن يُفَسِّرَه إلَّا اللهِ تعالى ورَسولِه)
[1449] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 269). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158] الآية، ذكَرَ تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ إتيانَ اللهِ جَلَّ وعلا وملائكتِه يومَ القيامةِ، وذَكَرَ ذلك في موضِعٍ آخَرَ، وزاد فيه أنَّ الملائكةَ يَجيئون صفوفًا، وهو قَولُه تعالى:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ، وذَكَرَه في موضِعٍ آخَرَ، وزاد فيه أنَّه جَلَّ وعلا يأتي في ظُلَلٍ مِنَ الغمامِ، وهو قَولُه تعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، ومِثلُ هذا مِن صِفاتِ اللهِ تعالى التي وَصَف بها نَفْسَه يُمَرُّ كما جاء ويُؤمَنُ بها، ويُعتَقَدُ أنَّه حَقٌّ، وأنَّه لا يُشبِهُ شيئًا من صِفاتِ المخلوقينَ)
[1450] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/ 549). .
الدَّليلُ مِن السُّنَّةِ: 1- حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا:
((... وإنْ تقرَّبَ إليَّ ذِراعًا تقرَّبْتُ إليه باعًا، وإنْ أتاني يمشي أتَيْتُه هَرْولةً )) [1451] أخرجه البخاري (7405) واللفظ له، ومسلم (2675). .
2- حديثُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه في الرُّؤيةِ:
((... قال: فيأتيه الجبَّارُ في صورةٍ غيرِ صورتِه الَّتي رأَوْه فيها أوَّلَ مرَّةٍ، فيَقولُ: أنا ربُّكم ...)) [1452] أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183). .
قال حمَّادُ بنُ أبي حنيفة: (قُلْنا لهؤلاء أي: نفاةِ الصِّفاتِ مِن
الجَهميَّةِ ونَحوِهم: أرأيتُم قَولَ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ، وقَولَه عَزَّ وجَلَّ:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] فهل يجيءُ ربُّنا كما قال؟ وهل يجيءُ الملائكةُ صَفًّا صَفًّا؟
قالوا: أمَّا الملائكةُ فيَجيئون صفًّا صفًّا، وأمَّا الرَّبُّ تعالى فإنَّا لا ندري ما عنى بذلك؟ ولا ندري كيف جِيئتُه؟
فقُلْنا لهم: إنَّا لم نُكَلِّفْكم أن تَعلَموا كيف جيئتُه، ولكِنَّا نُكَلِّفُكم أن تؤمنوا بمجيئِه، أرأيتُم من أنكر أن المَلَكَ لا يجيءُ صفًّا صفًّا، ما هو عندكم؟ قالوا: كافِرٌ مُكَذِّبٌ، قلنا: فكذلك من أنكر أنَّ اللهَ سُبحانَه لا يجيءُ، فهو كافِرٌ مُكَذِّبٌ)
[1453])) يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) للصابوني (ص: 233). .
وقال
أبو الحسَنِ الأشعريُّ: (أجمَعوا على أنَّه عزَّ وجلَّ يجيءُ يومَ القيامةِ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ...)
[1454] يُنظر: ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 128). .
وقال ابنُ أبي زيدٍ القيرواني: (ممَّا أجمعت عليه الأئِمَّةُ مِن أمورِ الدِّيانةِ، ومن السُّنَنِ التي خلافُها بِدعةٌ وضَلالةٌ... أنَّه يجيءُ يومَ القيامةِ بَعْدَ أن لم يكُنْ جائيًا، والمَلَكُ صَفًّا صفًّا؛ لعَرضِ الأُمَمِ وحِسابهِا وعُقوبتِها وثوابِها... وكُلُّ ما قدَّمْنا ذِكْرَه فهو قَولُ أهلِ السُّنَّةِ وأئمَّةِ النَّاسِ في الفِقهِ والحديثِ على ما بيَّنَّاه، وكُلُّه قَولُ
مالكٍ؛ فمنه منصوصٌ مِن قَولِه، ومنه معلومٌ مِن مَذهَبِه)
[1455])) يُنظر: ((الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ)) (ص: 107-117). .
قال
أبو يعلى: (قَولُه:
وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] ، معناه: مجيءُ ذاتِه؛ لأنَّ حَمْلَه على مجيءِ الأمرِ والمَلَكِ يُسقِطُ فائدةَ التَّخصيصِ بذلك اليومِ؛ لأنَّ أَمْرَه سابِقٌ، ولأنَّ هذا يوجِبُ تأويلَ «تَرَونَ رَبَّكم»)
[1456])) يُنظر: ((إبطال التأويلات)) (ص: 131). .
وقال أبو عُثمانَ الصَّابونيُّ: (وكذلك يُثبِتون ما أنزله اللهُ عزَّ اسمُه في كِتابه؛ مِن ذِكرِ المجيءِ والإتيانِ المذكورينِ في قَولِه عزَّ وجَلَّ:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، وقَولِه عزَّ اسمهُ:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] )
[1457] يُنظر: ((عقيدة السلف أهل الحديث)) (ص: 192). .
وقد جاءَتْ صِفَتا الإتيانِ والمَجيءِ مُقترنتينِ في حديثٍ واحدٍ، مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا:
((إذا تَلقَّاني عبدي بشِبرٍ تَلقَّيْتُه بذِراعٍ، وإذا تَلقَّاني بذِراعٍ تلقَّيْتُه بباعٍ، وإذا تَلقَّاني بباعٍ جِئتُه أتَيْتُه بأسرَعَ)) [1458] أخرجه مسلم (2675) دون لفظة: "جئته". وجاء في ((مستخرج أبي عَوانة)) (20/356) على الشَّكِّ مِن الرَّاوي: (وإذا تلَقَّاني بباعٍ جِئْتُه -أو قال: أتيتُه- بأسرَعَ). قال المُحَقِّقُ: (وهكذا جاء بالشَّكِّ في صحيفةِ عبدِ الرَّزَّاقِ عن مَعمَرٍ). .
وقال النَّوويُّ: (هكذا هو في أكثَرِ النُّسَخِ: «جِئْتُه أتَيْتُه»، وفي بعضِها «جِئْتُه بأسرَعَ» فقط، وفي بعضِها: «أتَيْتُه»، وهاتانِ ظاهرتانِ، والأوَّلُ صحيحٌ أيضًا، والجمعُ بينهما للتَّوكيدِ، وهو حَسَنٌ، لا سيَّما عند اختلافِ اللَّفظِ، واللهُ أعلَمُ)
[1459] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 4). .
وقال محمد طاهر الفتني: (قَولُه: جِئْتُه أتَيتُه، كُرِّرَا تأكيدًا)
[1460] يُنظر: ((بحار الأنوار)) (1/426). .