المَلَلُ والسَّآمَةُ
ورَدَ في الحديثِ الصَّحيحِ قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((عَليكُم بما تُطيقونَ؛ فواللهِ، لا يَمَلُّ اللهُ حتى تَمَلُّوا )) [2961] أخرجه البخاري (43) واللفظ له، ومسلم (785). .
وفي روايةٍ ل
مسلمٍ:
((فواللهِ؛ لا يَسأمُ اللهُ حتى تَسأَموا)) [2962] أخرجها مسلم (785). .
قال أبو إسحاقَ الحربيُّ: (قَولُه:
((لا يَمَلُّ اللهُ حتَّى تملُّوا)): أخبَرَنا سَلمةُ عن الفَرَّاءِ: يُقالُ: مَلِلتُ أمَلُّ: ضَجِرتُ، وقال أبو زيد: مَلَّ يَمَلُّ ملالةً، وأَمْلَلتُه إملالًا، فكأنَّ المعنى لا يَمَلُّ من ثوابِ أعمالِكم حتَّى تملُّوا مِن العملِ)
[2963] يُنظر: ((غريب الحديث)) (1/338). .
وهذا ليسَ تأويلًا، بل تفسيرٌ للحديثِ على ظاهرِه؛ لأنَّ الَّذين أوَّلُوه، ك
البيهقيِّ في (الأسماء والصِّفات) (فصْل ما جاءَ في المِلال)
[2964] يُنظر: (2/ 432). ،
والنوويِّ في (رياض الصالحين) (باب الاقتِصادِ في العِبادَةِ)
[2965] يُنظر: (ص: 66). ؛ قالوا: معنى لا يَمَلُّ اللهُ، أي: لا يَقطَعُ ثوابَه، أو أنَّه كنايةٌ عن تناهِي حَقِّ الله عليكم في الطَّاعةِ.
وقال
أبو يَعلَى الفرَّاءُ: (اعلَمْ أنَّه غيرُ ممتنعٍ إطلاقُ وصْفِه تعالى بالمَللِ... فإنْ قيل: معنى المَلَل هاهنا الغَضَبُ، فيكون مَعناه: لا يَغضَبُ عليهم، ولا يقطعُ عنهم ثوابَه حتى يَترُكوا العملَ، قيل: هذا غلطٌ؛ لأنَّ الملَلُ قد يَحصُلُ مِن العبدِ، فيما لا يَقتضي الغضبَ عليه، وهو ترْكُ النوافلِ، والخبرُ على هذا الوجه خرَجَ، ولأنَّه إنْ جازَ تأويلُ المللِ على الغضبِ، جاز تأويلُ الغضبِ على المللِ؛ إذ ليسَ أحدُهما بالتَّأويلِ أَوْلَى من الآخَرِ، وكِلاهما ممَّا قد ورَدَ الشرعُ بإطلاقِه عليه)
[2966] يُنظر: ((إبطال التأويلات)) (1/369). .
وقال
ابنُ رجب: (سُمِّيَ هذا المنعُ مِن اللهِ مَلَلًا وسآمةً؛ مُقابلةً للعَبدِ على مَلَلِه وسآمتِه، كما قال تعالى:
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] ، فسَمَّى إهمالَهم وتَرْكَهم نسيانًا؛ مقابلةً لنِسيانِهم له. هذا أظهَرُ ما قيل في هذا)
[2967] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/ 166). .
وقال م
حمَّد بن إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (
((فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتَّى تملُّوا)): مِن نصوصِ الصِّفاتِ، وهذا على وَجهٍ يليقُ بالباري، لا نَقصَ فيه، كنُصوصِ الاستهزاءِ والخِداعِ فيما يتبادَرُ)
[2968] يُنظر: ((فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم)) (1/209). .
وفي جوابٍ لِلَّجْنةِ الدَّائمةِ عن هذا الحديثِ: (الواجبُ هو إمرارُ هذا الحديثِ كما جاءَ، مع الإيمانِ بالصِّفةِ، وأنَّها حقٌّ على الوجهِ الذي يَليقُ باللهِ، من غيرِ مُشابهةٍ لخَلقِه ولا تَكييفٍ، كالمكرِ والخِداعِ والكَيدِ؛ الواردةِ في كِتاب اللهِ عزَّ وجلَّ، وكلُّها صِفاتُ حقٍّ تَليقُ باللهِ سُبحانَه وتعالى على حدِّ قَولِه تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الشورى: 11] )
[2969] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) (2/402). .
وقال
ابنُ باز: (قولُه في الحثِّ على الأعمالِ الصالحةِ:
((فإنَّ اللهَ جلَّ وعلا لا يَمَلُّ حتَّى تملُّوا))، مَللٌ يليقُ باللهِ، لا يُشابِهُ صِفاتِ المخلوقينَ في مَللِهم؛ فالمخلوقونُ لديهم نقصٌ وضَعْفٌ، وأمَّا صِفاتُ اللهِ فهي كاملةٌ تليقُ به سُبحانَه لا يُشابِهُ خلقَه، وليس فيها نقصٌ ولا عيبٌ، بلْ هي صِفاتٌ تليقُ باللهِ سُبحانَه وتعالى، لا يُشابِهُ فيها خَلْقَه جلَّ وعلا)
[2970] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (3/158). .
وسُئِل
ابنُ عُثَيمين: (هلْ نَستطيعُ أنْ نُثبِتَ صِفةَ المَلَلِ والهَرولَةِ للهِ تعالى؟
فأجاب: جاءَ في الحديثِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَولُه:
((فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تملُّوا)).
فمِن العُلَماءِ مَن قال: إنَّ هذا دليلٌ على إثباتِ المَللِ للهِ، لكنَّ مَلَلَ اللهِ ليس كمَللِ المخلوقِ؛ إذ إنَّ مللَ المخلوقِ نقصٌ؛ لأنَّه يدلُّ على سَأَمِه وضَجرِه من هذا الشَّيءِ، أمَّا مَللُ اللهِ فهو كمالٌ وليس فيه نَقصٌ، ويَجري هذا كسائرِ الصِّفاتِ التي نُثبتُها للهِ على وَجهِ الكَمالِ، وإنْ كانتْ في حقِّ المخلوقِ ليستْ كمالًا.
ومِن العُلَماء مَن يَقولُ: إنَّ قَولُه:
((لا يَمَلُّ حتى تملُّوا)) يُرادُ به بيانُ أنَّه مهما عملتَ مِن عملٍ؛ فإنَّ اللهَ يُجازيك عليه؛ فاعملْ ما بدَا لك؛ فإنَّ اللهَ لا يملُّ مِن ثوابِكَ حتى تملَّ مِن العملِ، وعلى هذا، فيكونُ المرادُ بالمللِ لازمَ المَللِ.
ومِنهم مَن قال: إنَّ هذا الحديثَ لا يدلُّ على صفةِ المَللِ للهِ إطلاقًا؛ لأنَّ قولَ القائل: لا أقومُ حتى تقومَ، لا يستلزمُ قيامَ الثَّاني، وهذا أيضًا:
((لا يملُّ حتى تملُّوا))؛ لا يستلزمُ ثُبوتَ المللِ للهِ عزَّ وجلَّ.
وعلى كُلِّ حالٍ يجبُ علينا أن نَعتقِدَ أنَّ اللهَ تعالى مُنَزَّهٌ عن كُلِّ صِفةِ نقصٍ مِن المَللِ وغَيرِه، وإذا ثبَتَ أنَّ هذا الحديثَ دليلٌ على المَللِ؛ فالمرادُ به مللٌ ليس كمَللِ المخلوقِ)
[2971] يُنظر: ((مجموعة دروس وفتاوى الحرم)) (1/152). .
وفي سؤالٍ عن كَونِ مُعتَقَدِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في أسماءِ اللهِ وصِفاتِه هو إثباتُ ما ورد في الكِتابِ السُّنَّة، وعليه فهل صِفاتُ (الترَدُّد - المَلَل - الظِّلِّ .. ) تدخُلُ في ذلك؟ أجاب عبدُ الرَّحمن البرَّاك:
(الحَمدُ للهِ، هذه الألفاظُ لا شَكَّ أنَّها وَرَدَت مضافةً إلى اللهِ في أحاديثَ صَحيحةٍ، ولكِنَّ دلالةَ الأحاديثِ على اعتبارِها صفةً لله، أو غيرَ صفةٍ: مختَلِفةٌ... أمَّا الملَلُ المذكورُ في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اكْلَفُوا من العَمَلِ ما تُطيقونَ؛ فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا)). فالعُلَماءُ مختَلِفونَ في دلالةِ الحَديثِ على إثباتِ الملَلِ صِفةً لله تعالى؛ فقال بعضُهم: إنَّه لا يدُلُّ على إثباتِ المَلَلِ، وأنَّه مِن جنسِ قَولِ القائِلِ: فُلانٌ لا تنقَطِعُ حُجَّتُه حتى ينقَطِعَ خَصْمُه، لا يدُلُّ على إثباتِ الانقِطاعِ. ومنهم من قال: إنَّه يدُلُّ على إثباتِ الملَلِ، وتأوَّلَه بقَطْعِ الثَّوابِ، فمعناه أنَّ اللهَ لا يَقطَعُ الثَّوابَ حتى تَقطَعوا العَمَلَ، ففَسَّروا اللَّفظَ بلازمِه.
ويمكِنُ أن يقالَ: إنَّه يدُلُّ على إثباتِ الملَلِ صِفةً للهِ تعالى في مقابِلِ مَلَلِ العبدِ مِن العَمَلِ بسَبَبِ تكَلُّفِه، وإشقاقِه على نَفْسِه، والملَلُ من الشَّيءِ يتضَمَّنُ كراهتَه، ومعلومٌ أنَّ اللهَ تعالى يحِبُّ مِن عبادِه العَمَلَ بطاعتِه ما لم يَشقُّوا على أنفُسِهم، ويُكَلِّفوها ما لا تُطيقُ؛ فإنَّ اللهَ يَكرَهُ منهم العَمَلَ في هذه الحالِ. واللهُ أعلَمُ بالصَّوابِ...)
[2972] يُنظر: ((موقع طريق الإسلام)). .