المَطْلَبُ الثَّالِثُ: مِن وظائِفِ العَقلِ في بابِ الصِّفاتِ: استِعمالُ الأقيِسَةِ العَقليَّةِ الصَّحيحةِ اللَّائِقةِ باللهِ تعالى
لَمَّا كان (العَقلُ) أحَدَ مَصادِرِ المعرفةِ بما أودَعَ اللهُ فيه من قُوَّةِ الاستدلالِ والنَّظَرِ والمقايَسةِ، جرى استعمالُه في إثباتِ العقائِدِ لتأييدِ دَلالةِ الشَّرعِ. وقد تضمَّن الكِتابُ والسُّنَّةُ جُملةً مِن (المقايِيسِ العَقليَّةِ) التي هي بمثابةِ مُقَدِّماتٍ مَنطِقيَّةٍ للوُصولِ إلى النَّتائجِ التي جاء بها الشَّرعُ، واعتَبَرَ
ابنُ تيميَّةَ الأمثالَ المضروبةَ في القُرآنِ (أقيِسةً عَقليَّةً)
[3422] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/88). ، وبذلك يُجمَعُ بين الحُسنَيَينِ باتِّفاقِ الدَّلالتَينِ؛ دَلالةِ العَقلِ، ودَلالةِ الشَّرعِ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (إذا كان الشَّيءُ مَوجودًا في الشَّرعِ، فذلك يحصُلُ بأن يكونَ في القُرآنِ الدَّلالةُ على الطُّرُقِ العَقليَّةِ، والتَّنبيهُ عليها، والبيانُ لها والإرشادُ إليها. والقُرآنُ مَلْآنُ مِن ذلك، فتكونُ شَرعيَّةً: بمعنى أنَّ الشَّرعَ هدى إليها، عَقليَّةً: بمعنى أنَّه يُعرَفُ صِحَّتُها بالعَقلِ؛ فقد جَمَعَت وَصْفَيِ الكَمالِ)
[3423] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/39). .
ومن المقايِيسِ العَقليَّةِ الصَّحيحةِ المتعَلِّقةِ ببابِ الصِّفاتِ:
1- إثباتُ الكَمالِ للهِ ونَفيُ النَّقصِ عنه:هذه مسألةٌ يَستَقِلُّ العَقلُ بالحُكمِ بها مُوافِقًا بذلك دَلالةَ الشَّرعِ والفِطرةِ. وخلاصتُها: أنَّ كُلَّ موجودٍ في خارجِ الذِّهنِ لا بدَّ أن يكونَ مُتَّصِفًا بصفةٍ. وهذه الصِّفةُ إمَّا أن تكونَ صِفةَ كَمالٍ أو صِفةَ نَقصٍ، وصِفةُ النَّقصِ مُمتَنِعةٌ في حَقِّ الإلهِ المعبودِ، واللائِقُ به الكمالُ. ومِن جهةٍ أخرى فإنَّ المُشاهَدةَ والحِسَّ تَدُلُّ على ثُبوتِ صِفاتٍ كماليَّةٍ للمخلوقِ. واللهُ خالِقُ المَخلوقِ وصفاتِه، فواهِبُ الكمالِ أَولى بالكَمالِ.
تلك المقَدِّماتُ، وهذه النَّتيجةُ: مَحَلُّ اتِّفاقٍ بين جميعِ أربابِ المِلَلِ والنِّحَلِ، وجمهورِ أهلِ الفَلسَفةِ والكلامِ، لكِنَّهم يختَلِفونَ في تحقيقِ مَناطِها في أفرادِ الصِّفاتِ مع الإجماعِ على أنَّ الرَّبَّ المعبودَ مُستَحِقٌّ للكَمالِ، مُنَزَّهٌ عن النَّقصِ
[3424] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/68). .
وهذا المقياسُ العَقليُّ وظيفةٌ يُمارِسُها العَقلُ باستقلالٍ للحُكمِ على الصِّفاتِ العَقليَّةِ؛ فصِفةُ (العُلُوِّ) مثلًا تَثبُتُ بالعَقلِ -كما تَثبُتُ بغَيرِه- فالعَقلُ يَحكُمُ أنَّ العُلُوَّ صِفةُ كَمالٍ، كما أنَّ نقيضَه (السُّفْلَ) صِفةُ نَقصٍ؛ فيُثبِتُ الأُولى وينفي الثَّانيةَ.
2- قياسُ الأَوْلى: هذا مقياسٌ عَقليٌّ يَلي المقياسَ السَّابِقَ في الرُّتبةِ، فإذا دَلَّ العَقلُ على إثباتِ جِنسِ الكَمالِ للهِ تعالى، وآحادِه وأفرادِه، فإنَّ قياسَ الأَولى يقضي بأنَّ ما ثَبَت من الكَمالاتِ ثُبوتًا عامًّا للخالِقِ والمخلوقِ، فإنَّ لله تعالى أكمَلَه وأعظَمَه، ليس له فيه مكافِئٌ ولا نظيرٌ، كما قال تعالى:
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل: 60] ، وقال تعالى:
وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27: الروم]، فلمَّا كانت الألفاظُ الدَّالَّةُ على الصِّفاتِ تحمِلُ معانيَ مُشتَرَكةً باعتبارِ أصل ِالمعنى، كان لا بُدَّ من القياسِ. والقياسُ الصَّحيحُ هنا هو قياسُ الأَولى، وهو طريقةُ السَّلَفِ التي وافَقوا بها القُرآنَ
[3425] يُنظر: ((مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات)) لأحمد القاضي (ص: 480). .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (قِياسُ الأَولى، وهو الذي جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ فإنَّ اللهَ لا يماثِلُ غَيرَه في شَيءٍ مِن الأشياءِ حتى يتساويَا في حُكمِ القياسِ، بل هو سُبحانَه أحَقُّ بكُلِّ حَمدٍ، وأبعَدُ عن كُلِّ ذَمٍّ، فما كان من صِفاتِ الكَمالِ المحْضةِ التي لا نَقْصَ فيها بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، فهو أحَقُّ به من كُلِّ ما سِواه، وما كان من صِفاتِ النَّقصِ فهو أحَقُّ بتنزيهِه عنه مِن كُلِّ ما سِواه)
[3426] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 154). .