تمهيدٌ: علمُ البلاغةِ
الحَمْدُ للهِ على عَظيمِ الامتِنانِ، وجَزيلِ الفَضْلِ والإحسانِ، فضَّلَ الإنسانَ بتَعليمِ البَيانِ؛ فقال عزَّ مِن قائِلٍ:
الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرَّحمن: 1 - 4]، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على أفْصحِ مَنْ نطَق بلِسانٍ، وعلى آلِه وأزواجِه ومَن تَبِعَهم إلى يومِ الدِّينِ بإحسانٍ.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ مِنَ المُستَقِرِّ عندَ العُلَماءِ أنَّ الكلامَ والبيانَ فيه هو الَّذي يُعطي العُلومَ مَنازِلَها، ويُبَيِّنُ مَراتِبَها، ويَكشِفُ عن صُوَرِها، ويَجني صُنوفَ ثَمَرِها، ويدُلُّ على سَرائِرِها، ويُبْرِزُ مَكنونَ ضمائِرِها، ولولاه لم تكُنْ لتَتعدَّى فوائِدُ العِلمِ عالِمَه، ولا صحَّ مِنَ العاقِلِ أن يَفْتُقَ عن أزاهيرِ العَقلِ كَمائِمَه، ولتعطَّلَت قُوَى الخواطِرِ والأفكارِ مِن معانيها، واستوَتِ القضيَّةُ في مَوْجُودِها وفانِيها، نَعمْ، ولوقَعَ الحيُّ الحسَّاسُ في مَرتبةِ الجَمادِ، ولكان الإدْراكُ كالذي يُنافيه مِنَ الأضْدادِ، ولبَقِيَتِ القلوبُ مُقْفَلةً تَتَصَوَّنُ على وَدائعِها، والمعاني مَسْجُونَةً في مَواضِعِها، ولصارتِ القَرائِحُ عن تَصرُّفِها مَعْقولةً، والأذْهانُ عن سُلطانِها مَعْزولةً، ولَمَا عُرِفَ كُفرٌ مِن إيْمانٍ، وإساءَةٌ مِن إحْسانٍ، ولَمَا ظهرَ فَرْقٌ بَيْنَ مَدْحٍ وتَزيينٍ، وذَمٍّ وتَهْجينٍ
[1] يُنظر: ((أسرار البلاغة)) للجرجاني (ص: 3). .
ولمَّا كان الكلامُ وَسيلةً يُعبِّرُ المُتكلِّمُ بِها عن غَرَضِه، كان مِنَ الطَّبيعيِّ أنْ تختلِفَ أسالِيبُ الكلامِ حسَبَ ذلك الغَرَضِ؛ فتَعْبيرُ المَرءِ عن فرحِه يُخالِفُ تَعبيرَه عن حُزْنِه أو خَوْفِه، بلْ إنَّ الغَرضَ الواحِدَ تَختلِفُ دَرَجاتُه، وتَتَبايَنُ بذلك وَسائلُه في التَّعبيرِ عنها.
وهُنا تَكمُنُ أهمِّيَّةُ عِلمِ
البلاغةِ؛ وهُو العِلمُ الَّذي يُرَكِّزُ على أنْ يُطابِقَ الكَلامُ مُقتَضى الحالِ، وأنْ يُوصِلَ المُتكلِّمُ ما بداخلِه إلى المُتلقِّي على أَتَمِّ بَيانٍ، مِن غيرِ إيجازٍ مُخِلٍّ أو إسْهابٍ مُمِلٍّ، فَضْلًا عن أنْ تَعتريَه آفاتُ اللُّكْنةِ والغَرابةِ وما يُخِلُّ بالفَصاحةِ.
وقد قسَّمَ العُلَماءُ عِلمَ
البلاغةِ إلى ثَلاثةِ أقْسامٍ: عِلمُ المَعاني، وَعِلمُ البَيانِ، وَعِلمُ البَدِيعِ.
والدَّارِسُ لِعُلومِ
البَلاغةِ يَسْتطيعُ أنْ يُنَمِّقَ أُسْلوبَه، ويُهذِّبَ ألْفاظَه وعِباراتِه، فيَنأى بِها عن رُتْبةِ الكَلامِ المُبْتذَلِ إلى سُمُوقِ الفُصَحاءِ والبُلَغاءِ، ناهِيكَ عن أنْ تَنضَجَ مدارِكُه النَّقديَّةُ، فيَتبيَّنَ الغَثَّ والسَّمينَ، ويَقفَ على مَحاسنِ الشُّعَراءِ وهَفَواتِهم، ويُقارِنَ بَيْنَ أقْوالِهم وأقْوالِ السَّابِقين واللَّاحِقين، فيَعرِفَ أيُّهم أجادَ وأحْسنَ، وأيُّهم نزَل عن رُتْبةِ الإجادَةِ والإحْسانِ، ويَتبيَّنَ له تَأثُّرُ اللَّاحِقِ بالسَّابقِ إنْ كان، وهل هذا التَّأثُّرُ مَعِيبٌ أم مَحمُودٌ.
قال العَسْكريُّ مُبيِّنًا فَضْلَ عِلمِ
البَلاغةِ: (صاحِبُ العَربيَّةِ إذا أخَلَّ بطَلبِه، وفَرَّط في الْتِماسِه، ففاتَتْه فَضيلتُه، وعَلِقتْ به رَذيلةُ فَوْتِه؛ عفَّى على جَميعِ مَحاسنِه، وعَمَّى
[2] أي: أخفى. ينظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 431). سائرَ فَضائلِه؛ لأنَّه إذا لم يُفَرِّقْ بَيْنَ كلامٍ جيِّدٍ وآخرَ رَديءٍ، ولفْظٍ حَسَنٍ وآخَرَ قَبيحٍ، وشِعرٍ نادرٍ وآخرَ باردٍ؛ بانَ جَهلُه، وظهَر نقْصُه.
وهُو أيضًا إذا أراد أنْ يَصنعَ قَصيدةً، أو يُنْشِئَ رِسالةً -وقد فاتَه هذا العِلمُ- مزَج الصَّفْوَ بالكَدَرِ، وخلَط الغُرَرَ بالعُرَرِ
[3] الغُرَّة: أنْفَسُ شَيءٍ يُمْلَكُ وأفْضَلُه. والعُرَّة: القذر. ينظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 401)، ((تاج العروس)) للزبيدي (13/ 221). ، واستَعمل الوَحْشِيَّ العَكِرَ، فجعَل نَفسَه مَهْزأةً للجاهِلِ، وعِبْرةً للعاقِلِ... وإذا أراد أيضًا تَصنيفَ كلامٍ منْثورٍ، أو تَأليفَ شِعرٍ مَنْظومٍ، وتَخطَّى هذا العِلمَ؛ ساء اختيارُه له، وقَبُحتْ آثارُه فيه، فأخَذ الرَّديءَ المَرذولَ، وترَك الجيِّدَ المَقبولَ؛ فدَلَّ على قُصورِ فَهْمِه، وتَأخُّرِ معْرفتِه وعِلمِه)
[4] ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) للعسكري (ص: 2، 3). .
وأعْظَمُ غايةٍ مِن دِراسةِ هذا العِلمِ هي الوُقوفُ على بَلاغةِ القُرآنِ الكَريمِ، ومَعرِفةُ أوْجُهِ إعْجازِه، وسَببِ عجْزِ أعْدائِه عن مُحاولةِ تَحدِّيه أو مُجاراتِه، فإذا أغْفَل الإنْسانُ عِلمَ
البَلاغةِ وأخَلَّ بمَعرفةِ قَواعدِه لم يَستطِعْ أنْ يُدرِكَ إعْجازَ النَّظْمِ الكَريمِ، ولم يَعرفْ من أيِّ جِهةٍ أعْجَز اللهُ العربَ عن أنْ يأتُوا بشيءٍ مِن مِثلِه.
كما أنَّ عِلمَ
البَلاغةِ عِلمٌ يُوقِفُك على تَبَيُّنِ عظيمِ بَلاغةِ نَبيِّنا مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الَّذي أُوتِيَ جَوامِعَ الكَلِمِ، وهُو أبلغُ النَّاسِ وأفصَحُهم، وخيرُ مَنْ نطَق بالضَّادِ؛ ولهذا تَجدُ في أحاديثِه الَّتي لا يَتجاوَزُ بعضُها بِضعَ كلماتٍ مِنَ المَعاني والحِكَمِ ما لا تُطيقُه الخُطَبُ الرَّنَّانةُ!