الفَصْلُ الثَّالِثُ: فَصاحةُ الكَلامِ
يُشترطُ في الكَلامِ الفَصيحِ أربعةُ شُروطٍ:1- أنْ يَخلوَ مِن ضَعْفِ التَّأليفِ والتَّركيبِ.
2- ألَّا يكونَ تَنافُرٌ بَيْنَ الكلماتِ مُجتمِعَةً.
3- أنْ يَخلوَ مِنَ التَّعقيدِ اللَّفظيِّ والمَعنويِّ.
4- فَصاحةُ كلِّ كَلمةٍ مُفردةً.
فضَعفُ التَّأليفِ والتَّركيبِ هو أنْ تكونَ الجُملةُ غيرَ مُستقيمةٍ لُغويًّا، أو تُخالِفَ قاعدةً مَشهورةً في النَّحْوِ؛ فمِن ضَعفِ التَّأليفِ قولُ
المُتنبِّي مادحًا بدرَ بنَ عمَّارٍ:
خَلتِ البِلادُ مِنَ الغزالةِ ليْلَها
فأعاضَهاكَ اللهُ كَي لا تَحْزَنا
الغَزالةُ: الشَّمسُ. يقولُ: خلتِ البِلادُ من الشَّمسِ في اللَّيلِ، فجعلَك اللهُ عِوضًا مِنها؛ كي لا تَحزنَ البِلادُ على فِراقِ الشَّمسِ وضَوئِها.
وضَعفُ التَّأليفِ في قولِه: (فأعاضَهاكَ)؛ فجُمْهورُ النُّحاةِ على أنَّه إذا اجْتَمع ضَميرُ المُخاطَبِ والغائبِ فالواجبُ تقديمُ ضَميرِ المُخاطَبِ على ضَميرِ الغائبِ؛ فالصَّوابُ أنْ تكونَ: (فأعاضَكَها)، لكنَّ ذلك يَجعلُ وزنَ البيتِ مَكسورًا.
ومِنه أيضًا قولُ الشَّاعرِ:
انظُرا قبلَ تَلُومانِي إلى
طَللٍ بينَ النَّقا والمُنحَنى
فحذَف أداةَ النَّصبِ (أنْ) وأبْقى الفِعلَ «تَلُومَانِي» منصوبًا؛ فالنُّونُ مَحذوفةٌ لأنَّه مِنَ الأفعالِ الخمْسةِ، والأصلُ: تَلُومَانِنِي؛ فالنُّونُ الباقيةُ هي نونُ الوِقايةِ، وهذا ليس مِن مَواضعِ حذْفِ (أنْ) وبقاءِ عملِها
[21] قال ابن جني: (يريد: تلومانِني، فيجوزُ أن يكونَ حَذَف "أن" وهو يريدُها، كأنَّه قال: قبل أن تلوماني، فحذف النونَ للنَّصبِ؛ لأنَّه قد أضاف "قبل"، وحُكْمُ الإضافةِ أن تكونَ إلى الأسماءِ، فإذا أضمر "أنْ" فكأنَّه قال: قبل لَومِكما. ويجوزُ أن يكونَ أضاف "قبل" إلى الفعل؛ لأنَّها ظَرْفٌ، فجرت مجرى: أقومُ يوْمَ يقومُ زيدٌ، ثم حذف النونَ الثانيةَ تخفيفًا). ينظر: ((المنصف)) (2/ 337). .
وضَعفُ التَّأليفِ غيرُ فَسادِه؛ فالأوَّلُ يكونُ في مُخالَفةِ المشهورِ عندَ أكثَرِ النُّحاةِ، لكنَّ الفسادَ يكونُ مِن مُخالَفةِ القواعدِ الَّتي اتَّفَق عليها الجميعُ؛ كجَرِّ المرفوعِ ورفْعِ المجرورِ.
وتنافُرُ الكَلماتِ: عَيبٌ يَنشَأُ عن تَكرارِ بعضِ الحروفِ في كَلماتِ الجُملةِ مِن النَّثرِ أو البيتِ مِن الشِّعرِ، وإنْ كانت كلُّ كَلمةٍ على انفرادِها فَصيحةً، كالتَّنافُرِ الحاصلِ في الكَلمةِ الواحِدةِ؛ وذلك مِثلُ قولِ الشَّاعرِ الرَّجَز:
وقبرُ حَربٍ بمَكانٍ قَفْرٍ
وليس قُرْبَ قَبرِ حَربٍ قَبرُ
[22] ذكرت المصادر أن هذا البيت من قول الجن قالوه لما قُتِل حرب بن أمية. ينظر: ((الحيوان)) للجاحظ (6/ 423)، ((حياة الحيوان الكبرى)) للدَّمِيري (2/ 243). فإنَّ تَواليَ القافِ والرَّاءِ والباءِ في عَجُزِ البيتِ أحدَث تَنافُرًا وصُعوبةً في النُّطقِ بالبيتِ، وإنْ كانت ألفاظُ: "قُرْب، قَبْر، حَرْب" ليس فيها تَنافُرٌ.
يَرثي الشَّاعرُ حرْبَ بنَ أُميَّةَ، وأنَّ قبرَه بمكانٍ لا نباتَ فيه ولا ماءَ، لكنَّه يُصبِّرُ نفْسَه بأنَّ المكانَ قريبٌ، فقُرْبُه لم يجعَلْه قبْرًا.
ومن ذلك قولُ
المُتنبِّي:
أَقِلْ أَنِلْ أَقْطِعِ احْمِلْ عَلِّ سَلِّ أعِدْ
زِدْ هِشَّ بِشَّ تَفضَّلْ أَدْنِ سُرَّ صِلِ
[23] (أَقِلْ: فِعلٌ من الإِقالةِ. أَنِلْ: من الإِنالَة، وهي العطاءُ. أقْطِعْ: من الإِقْطاعِ بمَنْح الأرضِ. احْمِلْ: من قولهم: حملتُهُ على فَرَسٍ. عَلِّ: من التَّعْلِيَةِ وَالرَّفْعِ. سَلِّ: من التَّسْلِية والترويحِ عن النَّفسِ. أَعِدْ: من الإِعادةِ، أي: في العَطاءِ. زِدْ: من الزِّيادةِ في العطاءِ الثَّاني. هِشَّ: من قولهم: هَشِشْتُ إلى كذا أهَشُّ. بِشَّ: من البشاشةِ، وهي طلاقةُ الوَجهِ. تَفَضَّلْ: من الإِفْضَالِ، وهو عطاءُ الفَضْلِ. أَدْنِ: من الإِدناءِ، وهو التقريبُ. سُرَّ: أي: افعَلْ ما يَسُرُّ. صِلِ: من الصِّلَةِ، وهي العطيَّة). يُنظَر: ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة (1/ 118، 119). وجاء التَّنافُرُ من تَكرارِ أفْعالِ الأمْرِ على مَدارِ البيتِ كامِلًا.
وقولُ الشَّاعرِ:
وتُسعِدُني في غَمرةٍ بعدَ غَمرةٍ
سَبُوحٌ لها مِنْها عَليها شَواهِدُ
[24] (غَمرةُ الحَربِ: شِدَّتُها، والسَّبُوحُ: الفَرَسُ الَّتي تمدُّ يديها في الجري. فيقول: وتُسعِدُني في غَمَراتِ الحَربِ فَرَسٌ كريمةٌ، سَبوحٌ سريعةٌ، لها من حُسن خُلقِها شواهِدُ، تخبرُ عن كَرَمِها وعِتْقِها). ينظر: ((شرح معاني شعر المتنبي)) ابن الإفلِيلي (1/ 377). فقولُه: (لَها مِنها عَليها) من قَبيحِ السَّبكِ وسُوءِ التَّأليفِ؛ وذلك مِن أجْلِ تَكرارِ حُروفِ الجَرِّ، فأكسبَه ثِقَلًا في النُّطقِ.
والتَّعقيدُ اللَّفظيُّ: أنْ يكونَ الكَلامُ غيرَ ظاهِرِ الدَّلالةِ على المُرادِ مِنه؛ وذلك لاخْتلالِ نَظْمِ الكَلامِ، وذلك مِثلُ تَقديمِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، أوِ الصِّلةِ على المَوصولِ.
قال العَتَّابيُّ: (الألْفاظُ أجْسادٌ، والمَعاني أرْواحٌ، وإنَّما تراها بعُيونِ القُلوبِ؛ فإذا قدَّمتَ مِنها مُؤخَّرًا وأخَّرتَ مِنها مقدَّمًا؛ أفْسدتَ الصُّورةَ وغيَّرتَ المَعنى، كما أنَّه لو حُوِّل رأسٌ إلى موضِعِ يدٍ، أو يدٌ إلى موضِعِ رأسٍ أو رِجْلٍ؛ لتحوَّلَتِ الخِلقةُ، وتَغيَّرتِ الحِليةُ)
[25] ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) للعسكري (ص: 161). .
ومِنَ الأمْثلةِ على التَّعقيدِ اللَّفظيِّ قولُ
الفَرَزْدَقِ: الطَّويل
وما مِثلُه في النَّاس إلا مُمَلَّكًا
أَبُو أمِّهِ حَيٌّ أَبوُه يُقارِبُهُ
فإنَّه يمدحُ إبراهيمَ بنَ هشامٍ؛ يقولُ: وما مِثلُه حيٌّ يُقاربُه في صِفاتِه ويُشابهُه في سَجاياه، إلَّا مُمَلَّكًا أبو أُمِّه أبوهُ
[26] (أبوه) خبرٌ للمبتدأِ (أبو أمِّه)، والتقديرُ: أبو أُمِّ إبراهيمَ بنِ هشامٍ أبو هِشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ. ؛ يريدُ خالَه
هشامَ بنَ عبدِ المَلِكِ. فاضْطربَ كَلامُ
الفَرَزْدَقِ، وقدَّم وأخَّر، فالْتبَس المُرادُ مِنه.
ومن ذلك قولُ الشَّاعرِ يَصِفُ دارًا:
فأصْبَحَتْ بعدَ خَطَّ بَهْجَتِها
كَأَنَّ قَفْرًا رُسومَها قَلَمَا
فقدَّم خبرَ (كأنَّ) عليها، وهو قولُه: «خطَّ»، والأصلُ: فأصبحتْ بعْدَ بَهجَتِها مكانًا قفْرًا خاليًا، كأنَّ قَلَمًا خطَّ رُسومَها.
فالكَلامُ الخالي مِنَ التَّعقيدِ اللَّفظيِّ: ما سَلِم نظْمُه من الخَللِ، فلم يكُنْ فيه ما يُخالِفُ الأصْلَ مِن تقْديمٍ أو تأخيرٍ أو إضْمارٍ أو غيرِ ذلك، إلَّا وقدْ قامت عليه قَرينةٌ ظاهِرةٌ؛ لفظيَّةٌ أو مَعْنويَّةٌ.
وأمَّا التَّعقيدُ المَعنويُّ: فهو ما يَرجِعُ إلى المَعنى، وهو ألَّا يكونَ انتقالُ الذِّهنِ مِنَ المَعنى الأوَّلِ إلى المَعنى الثَّاني المُرادِ ظاهرًا، كقول العبَّاسِ بنِ الأحنَفِ: الطَّويل
سأطلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عنكم لتَقْرَبوا
وتسكُبُ عَينايَ الدُّموعَ لتَجمُدَا
قال القَلقَشَنْدِيُّ مُوضِّحًا العَيبَ في استخدامِ كَلمةِ (الجُمودِ) في البيتِ: (والمَعنى: أنِّي طِبْتُ نفْسًا بالبُعدِ والفِراقِ، ووَطَّنتُ نفْسي على مُقاساةِ الأحزانِ والأشْواقِ، وأتجرَّعُ الغُصصَ، وأحتملُ لأجْلِها حُزنًا يُفِيضُ الدُّموعَ مِن عَينيَّ؛ لأتَسبَّبَ بذلك إلى وصْلٍ يَدومُ، ومَسرَّةٍ لا تَزولُ، فتَجمُدُ عيني ويَرْقأُ دمْعي؛ فإنَّ الصَّبرَ مِفتاحُ الفرَجِ؛ فكنَّى بسكبِ الدُّموعِ عنِ الكآبةِ والحُزنِ، وهو ظاهرُ المَعنى؛ لأنَّه كثيرًا ما يُجعَلُ دَليلًا عليه؛ يُقالُ: أبكاني الدَّهرُ وأضْحكَني، بمَعنى: ساءني وسَرَّني، وكنَّى بجُمودِ العَينِ عمَّا يُوجِبُه دوامُ التَّلاقي مِنَ الفرَحِ والسُّرورِ؛ فإنَّ المُتبادِرَ إلى الذِّهْنِ مِن جُمودِ العَينِ بُخلُها بالدَّمعِ عند إرادةِ البُكاءِ حالَ الحُزنِ، بخِلافِ ما قصَده الشَّاعرُ من التَّعبيرِ به عنِ الفرَحِ والسُّرورِ، وإنْ كانت حالةُ جُمودِ الدَّمعِ مُشترَكةً بَيْنَ بُخلِ العَينِ بالدَّمعِ عند إرادةِ البُكاءِ، وبين زمنِ السُّرورِ الَّذي لم يُطلَبْ فيه بُكاءٌ)
[27] ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (2/ 289، 290). .
وقد أجادتِ الخَنْساءُ رضي اللهُ عنها في استخدامِ لفظةِ الجُمودِ تَرثي أخاها: المُتقارِب
أعَينَيَّ جُودَا ولا تَجمُدَا
ألَا تَبكيانِ لصَخْرِ النَّدى
أي: جُودا بالدَّمعِ ولا تَبْخَلا.
فالكَلامُ الخالي مِنَ التَّعقيدِ المَعنويِّ ما كان الانْتقالُ من مَعناه الأوَّلِ إلى مَعناه الثَّاني -الَّذي هو المُرادُ به- ظاهِرًا، حتَّى يُخيَّلَ إلى السَّامعِ أنَّه فَهِمَه مِن حقيقةِ اللَّفظِ
[28] ينظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/ 28)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 74). .
أمَّا فَصاحةُ كلِّ كَلمةٍ بمُفردِها فقد سبَقت شروطُها والكلامُ عنها.