المَطْلَبُ الثَّاني: اخْتِيارُ العلَمِ في تَعْريفِ المُسنَدِ إليه:
قد يَختارُ المُتكلِّمُ تَسميةَ المُسنَدِ إليه باسمِه العلَمِ -سواءٌ كان اسمًا، أو لقَبًا، أو كُنيةً- دُونَ الضَّمائِرِ أوِ الإشارَةِ أو غيرِهما مِن وَسائِلِ التَّعْريفِ، لأغْراضٍ بَلاغيَّةٍ؛ منها:
1- إرادةُ إحْضارِ المُتحدَّثِ عنه في ذهْنِ المُتلقِّي باسمِه الخاصِّ به؛ ليَمتازَ ممَّا عداه، ويَترجَّحُ هذا الدَّاعي حينَما يكونُ المُتحدَّثُ عنه مَعْروفًا لدى المُتلقِّي باسمِه الخاصِّ به، كقَولِه تعالى:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] ؛ فإنَّ في ذكْرِ "إبْراهيمَ" و"إسْماعيلَ" تَنْبيهًا للمُتلقِّي على إسْنادِ ذلك الفِعلِ إليهما دُونَ غيرِهما، ولا تَخْفى شُهرةُ خليلِ اللهِ وابنِه الذَّبيحِ باسْمَيهما العلَمَينِ.
ومنه باسْتِخدامِ الكُنيةِ قولُ الشَّاعرِ الغَزِّيِّ في
المُتَنبِّي: البسيط
مَنْ أغْفلَ الشِّعرَ لم تُعرَفْ مَناقبُه
لا يُجتَنَى ثَمرٌ مِن غيرِ أغْصانِ
لولا أبو الطَّيِّبِ الكِنديُّ ما امْتلأَتْ
مَسامعُ النَّاسِ مِن مدْحِ ابنِ حَمْدانِ
فتَسميةُ
أبي الطَّيِّبِ مُناسِبةٌ لشُهرةِ الشَّاعرِ
المُتنبِّي بها، فلو قال: لولا
أحْمدُ بنُ الحُسينِ، لأشْكلَ على النَّاسِ مَعْرفةُ أمرِه.
2- إرادةُ مدْحِ وتَعْظيمِ المُتحدَّثِ عنه، وذلك إذا كان اسمُه مَحلَّ فخْرٍ؛ كأنْ تقولَ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، عُمرُ بنُ الخَطَّابِ،
خالِدُ بنُ الوَليدِ...، أو كان ذلك في الألْقابِ، مِثلُ: صَلاحُ الدِّينِ، تَقيُّ الدِّينِ، سَيفُ اللهِ، أسَدُ اللهِ، كذلك في الكُنى، مِثلُ:
أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وأبو الحسَنِ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ، و
أبو عُبيدَةَ عامِرُ بنُ الجرَّاحِ.
فقولُك: انتَص
رَ صَلاحُ الدِّينِ، أمدَحُ مِن: انْتَصَر
يُوسفُ بنُ أيُّوبَ.
3- إرادةُ إهانَةِ المُتحدَّثِ عنه، وذلك إذا كان في تلك الأعْلامِ ما يَشتَهِرُ بالذَّمِّ؛ كأبي جهْلٍ، وأمِّ الخبائِثِ، وأبي لهَبٍ، وإبْليسَ، وصَخْرٍ.
4- إرادةُ اسْتِخدامِ المَعْنى اللُّغويِّ لاسمِ المُتحدَّثِ عنه؛ تقولُ: جاءنا مَحْمودٌ بالبَشائِرِ؛ تُشيرُ إلى أنَّه جاء مَحْمودًا، فله مِنِ اسْمِه نَصيبٌ. وتقولُ: الأميرُ راشِدٌ؛ تَمدحُه بالرُّشدِ الَّذي هو مِنِ اسْمِه أيضًا.
5- إرادةُ التَّلذُّذِ باسمِ المَحْبوبِ، كقولِ مَجْنونِ ليلى: البسيط
باللهِ يا ظَبَياتِ القاعِ قُلْنَ لنا
ليْلايَ منْكنَّ أمْ ليلى مِنَ البشَرِ
6- التَّنفيرُ واسْتِثارةُ الخوْفِ، وذلك إذا كان اسمُ المُتحدَّثِ عنه يُثيرُ في نُفوسِ السَّامِعينَ الرَّهْبةَ، كاسمِ جَهَنَّمَ عَلَمًا على دارِ العَذابِ يومَ القِيامةِ، واسمِ
خالِدِ بنِ الوليدِ وعُمرَ بنِ الخَطَّابِ أمامَ أعدائِهما.
7- إرادةُ إثارَةِ الفألِ الحسَنِ، وذلك إذا كان في اسمِ المُتحدَّثِ عنه شيءٌ مِن ذلك، كأنْ يكونَ اسمُه "سهْل، حسَن، سعْد، سَعيد، مُبارك، خيْر...".
ولهذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسمِّي أصْحابَه ويُكنِّيهم بالكُنَى الحسَنةِ، فغيَّرَ اسمَ
عبدِ شمسِ بنِ عوْفٍ إلى
عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوْفٍ، وغيَّرَ اسمَ المَدينةِ المُنوَّرةِ مِن يثْرِبَ -الَّتي هي مِنَ التَّثْريبِ، وهُو المَلامةُ، أو مِن الثَّرْبِ، وهُو الفَسادُ- إلى المَدينةِ، ثمَّ إلى طابةَ، وفي الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غيَّرَ اسمَ عَاصيةَ وقال:
((أنتِ جَميلةُ )) [234] أخرجه مسلم (2139) من حديث عبدالله بن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما. .
8- إرادةُ إثارةِ التَّشاؤمِ، وذلك إذا كان المُتكلِّمُ يَرغَبُ أنْ يَبعَثَ في قلبِ السَّامِعِ التَّشاؤمَ؛ ولِهذا كان العَربُ يُسمُّون أبْناءَهم بصَخْرٍ وحَرْبٍ وصَعْبٍ وكَلْبٍ ولَيْثٍ ونحْوِ ذلك، ويُسمُّون غِلمانَهم: رَباح، سَهْل، سالم...، ويقولون: "نُسمِّي أبْناءَنا لأعْدائِنا، وغِلمانَنا لنا"، أيْ: إذا سمِع أعداؤُهم أنَّ عدوَّهم صخْرٌ أو حرْبٌ أو نحْوُ ذلك، خافوا وتَشاءَموا
[235] ينظر: ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/ 296)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حبنكة (1/ 414). .