المَطْلَبُ الأوَّلُ: تَعريفُ المُقابَلةِ وعلاقتُها بالمُطابَقةِ
المُقابَلةُ اصْطِلاحًا: "إيْرادُ الكَلامِ ثمَّ مُقابلتُه بمِثلِه في المَعْنى واللَّفظِ على جِهةِ المُوافَقةِ أوِ المُخالَفةِ"
[377] ينظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 337). ، أو هي بمَعْنًى أوسَعَ: "أنْ يَصنَعَ الشَّاعرُ مَعانيَ يُريدُ التَّوفيقَ بينَها، أوِ المُخالَفةَ، فيأتي في المُوافِقِ بما يُوافِقُ، وفي المُخالِفِ بما يُخالِفُ على الصِّحَّةِ، أو يَشرُطَ شُروطًا، ويُعدِّدَ أحْوالًا في أحدِ المَعنيَينِ، فيَجبُ أنْ يأتيَ فيما يُوافِقُه بمِثلِ الَّذي شرَطَه وعدَّده، وفيما يُخالِفُ بأضْدادِ ذلك"
[378] ينظر: ((نقد الشعر)) لقدامة بن جعفر (ص: 47). .
ومِن خِلالِ التَّعريفِ يَظهَرُ لنا تَقارُبٌ بينَ المُقابَلةِ والمُطابَقةِ، وقد عدَّ بعضُ البَلاغيِّينَ المُقابَلةَ نَوعًا مِنَ المُطابَقةِ، إلَّا أنَّ المُقابلةَ تَختلِفُ عنِ المُطابَقةِ في أمْرَين:
1- أنَّ المُطابَقةَ لا تكونُ إلَّا بالأضْدادِ، في حينِ أنَّ المُقابلةَ تكونُ بالأضْدادِ وبغيرِها، كقَولِه تعالى:
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] ؛ حيثُ قابَلَ سُبحانه بينَ نِسيانِهم له بعدَمِ عِبادتِه والخَوفِ منه والإشْراكِ به، وبينَ إهْمالِه وتَركِه لهم وعدَمِ مَغفرتِه لهم ورَحْمتِه بهم، فأنزَلَ ذلك مَنْزِلةَ النِّسيانِ، وهُو سُبحانه وتعالى جلَّ عنِ النِّسيانِ
لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52] .
ومنه قولُ عَمْرِو بنِ كُلثُومٍ: الوافر
ورِثناهُنَّ عن آباءِ صِدْقٍ
ونُورِثُها إذا مِتْنا بَنينا
فقابَلَ بينَ وِراثةِ الشَّيءِ عن أصُولِه، وبينَ تَوريثِها لفُروعِه بعدَ موتِه.
وقيل لرجُلٍ: مات ابنٌ
للرَّشيدِ ووُلِد له آخَرُ هذه اللَّيلةَ، فدخَل عليه فقال: "سرَّك اللهُ يا أميرَ المُؤمِنينَ فيما ساءَك، ولا ساءَك فيما سرَّك، وجعَلها واحِدةً بواحِدةٍ: ثَوابَ الشَّاكِرِ، وأجْرَ الصَّابِرِ"؛ فقابَلَ بينَ ثَوابِ الشَّاكِرِ وأجْرِ الصَّابِرِ، وليس بينَهما تَضادٌّ.
وكلُّ هذه الشَّواهِدِ ليس فيها تَضادٌّ، وإنَّما مُقابَلةٌ بينَ مَعنًى وآخَرَ يُقابِلُه أو يُوافِقُه.
2- أنَّ المُطابقةَ تكونُ بينَ كَلمةٍ وأخرى، فإذا زادَت على هذا كانت مُقابَلةً؛ كقَولِه تعالى:
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، فالمُقابَلةُ هنا بالتَّضادِّ بينَ غيرِ كَلمةٍ؛ بينَ الضَّحِكِ والبُكاءِ، وبينَ القِلَّةِ والكثْرةِ، فقابَل بينَ الضَّحكِ القَليلِ وبين البُكاءِ الكَثيرِ؛ لِما بينَهما مِن مُخالَفةٍ في المَعْنى.
ومنه قولُ النَّابِغةِ: الطويل
فتًى تمَّ فيه ما يسُرُّ صَديقَه
على أنَّ فيه ما يَسوءُ الأعادِيا
فجمَع بينَ ضِدَّينِ وضِدَّين: السُّرورِ والإساءَةِ، والصَّديقِ والأعادِي؛ فالمُقابَلةُ هنا بينَ سُرورِ الصَّديقِ، وسُرورِ العدوِّ
[379] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 231)، ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 86). .