المَبْحَثُ الثَّالثُ: الإرْصادُ أوِ التَّسهيمُ
الإرْصادُ لُغةً: مَصدرُ: أرْصَد يُرْصِدُ إرْصادًا، ومَعْناه: إعْدادُ شيءٍ لأمرٍ ما
[382] ينظر: ((الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي)) للأزهري (ص: 108)، ((الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (2/ 474). .
واصْطِلاحًا: "أنْ يَبنيَ الشَّاعرُ البيْتَ مِن شِعرِه على قافِيةٍ قد أرصَدها له، أيْ: أعدَّها في نفْسِه، فإذا أُنشِد صدْرُ البيتِ عُرِف ما يأتي به في قافَيتِه". وفي ذلك قال ابنُ نُباتَةَ المِصرِيُّ:
خُذْها إذا أُنشِدتْ في القوْمِ مِن طَرَبٍ
صُدورُها عُرِفتْ منْها قَوافيها
أو: "أنْ يُجعَلَ قبلَ العَجُزِ من الفِقرةِ أو مِن البيتِ ما يدُلُّ عليه إذا عُرِف الرَّويُّ".
وهذا التَّعريفُ الثَّاني يَدخُلُ فيه النَّثرُ وما ليس شِعرًا، ومنه قولُه تعالى:
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] ؛ فإنَّك إذا وقَفتَ على قولِه تعالى:
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ تَبيَّنَ للسَّامِعِ أنَّ فاصِلةَ الآيةِ:
يَظْلِمُونَ، خاصَّةً إذا عرَف الفَواصِلَ قبلَ هذه الآيةِ.
ومنه قولُه تعالى:
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] ؛ فإذا وقَفتَ على قولِه:
وَهَلْ نُجَازِي علِمَ السَّامِعُ أنَّ ما بعدَها:
إِلَّا الْكَفُورَ.
وقولُه تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41] ؛ فإنَّ القارِئَ إذا توقَّفَ عندَ قولِه:
أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لأكْمَل المُستمِعُ
لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ؛ لِسبْقِ ذكْرِه ولدلالةِ السِّياقِ عليه.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الوافر
إذا لم تَسْتطعْ شيئًا فدَعْه
وجاوِزْه إلى ما تَسْتطيعُ
فإذا تَوقَّف الشَّاعرُ عندَ "وجاوِزْه" اسْتطاعَ السَّامِعُ أنْ يَعلَمَ أنَّ تَكمِلةَ البيْتِ "إلى ما تَسْتطيعُ". ومنه قولُ
البُحْتُريِّ:
أحلَّتْ دَمي مِن غيرِ جُرمٍ وحرَّمت
بلا سَببٍ يومَ اللِّقاءِ كَلامي
فليسَ الَّذي حلَّلْتِهِ بِمُحلَّلٍ
وليسَ الَّذي حرَّمْتِهِ بحَرامِ
فالمُتلقِّي إنْ علِمَ أنَّ القافِيةَ كما في البيتِ الأوَّلِ، ثمَّ سمِع صدْرَ البيتِ الثَّاني؛ علِمَ عَجُزَه دُونَ أنْ يَسمَعَه.
ويُحكَى أنَّ عُمرَ بنَ أبي رَبيعَةَ أنْشَد أمامَ
ابنِ عبَّاسٍ صدْرَ بيتِه: المتقارب
تَشِطُّ غدًا دارُ جِيرانِنا
فقال
ابنُ عبَّاسٍ:
ولَلدَّارُ بعدَ غدٍ أبْعَدُ
فقال عُمرُ: واللهِ ما قلتُ إلَّا كذلك! فقال
ابنُ عبَّاسٍ: وهكذا يكونُ
[383] ينظر: ((الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور)) لابن الأثير (ص: 238)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 235). .