المَطْلَبُ الثَّاني: التَّفريقُ
وهو عكسُ الجمعِ، ويُرادُ به: "إيْقاعُ تَبايُنٍ بَيْنَ أمرَين مِن نوعٍ واحِدٍ"، أو: "أنْ يأتيَ المُتكلِّمُ إلى شَيئَينِ من نوعٍ واحِدٍ فيُوقِعَ بينَهما تَبايُنًا وتَفريقًا بفرْقٍ يُفيدُ زِيادةً وتَرْجيحًا فيما هو بصدَدِه مِن مدْحٍ، أو ذمٍّ، أو نَسيبٍ، أو غيرِه مِنَ الأغْراضِ الأدَبيَّةِ".
فمِن ذلك قولُ الشَّاعِرِ: الخفيف
ما نَوالُ الغَمامِ وقتَ رَبيعٍ
كنَوالِ الأميرِ يومَ سَخاءِ
فنَوالُ الأميرِ بَدرَةُ عَينٍ
ونَوالُ الغَمامِ قَطْرةُ ماءِ
ففرَّق الشَّاعرُ بَيْنَ عَطاءَينِ صوَّرهما؛ عَطاءِ الأميرِ، والمطَرِ الَّذي هُو عَطاءُ الغَمامِ، ثمَّ أقام الفرْقَ بعد ذلك الَّذي يُساعِدُه في غَرَضِه الأدَبيِّ، وهُو مدْحُ الأميرِ ووصْفُ كَرمِه، فذكَر أنَّ عَطاءَ الأميرِ كِيسٌ يُوضعُ فيه نُقودٌ، وأقلُّها عشَرَةُ آلافِ دِرْهمٍ، وعَطاءُ الغَمامِ قَطرةُ ماءٍ، فشتَّانَ بينَ هذا وذاك!
ومثلُه أيضًا قولُ صَفِيِّ الدِّينِ الحِلِّيِّ: البسيط
فجُودُ كفَّيه لم تُقلِعْ سَحائِبُه
عنِ العِبادِ وجُودُ السُّحْبِ لم يَدُمِ
ففرَّق الشَّاعرُ بَيْنَ جُودِ المَمْدوحِ وجُودِ السَّحابِ؛ فجُودُ المَمْدوحِ لا يَنْتهي، ولا تَنْجلي غَمامَةُ كَرمِه، أمَّا جُودُ السَّحابِ فما يَلبَثُ أنْ تَنْقشِعَ الغَمامَةُ ويَنْتهيَ الجُودُ.
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
ورْدُ الخُدودِ أرَقُّ مِن ورْدِ الرِّياضِ وأنْعَمُ
هذاك تَنْشَقُه الأنُوفُ وذا يُقبِّلُه الفَمُ
صوَّر الشَّاعرُ الخُدودَ بأنَّها ورْدٌ لحُمرتِها ونُعومَتِها، ثمَّ فرَّق بينَها وبينَ الورْدِ بأنَّ الورْدَ تَسْتنشِقُه الأنُوفُ وتَشَمُّ رائِحتَه، أمَّا ورْدُ الخُدودِ فهُو أرْقى مِن ذلك وأجَلُّ؛ فإنَّما يُقبِّلُه الفَمُ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: مخلع البسيط
قاسُوكَ بالغُصنِ في التَّثنِّي
قِياسَ جهْلٍ بلا انْتِصافِ
هذاك غُصنَ الخِلافِ يُدعَى
وأنت غُصنٌ بلا خِلافِ
يذكُرُ الشَّاعرُ أنَّ الَّتي يَتغزَّلُ فيها يُشبِّهونَها بالغُصنِ في حُسْنِ قَوامِها وتَثنِّيها، ثمَّ يُفرِّقُ بينَها وبينَ الغُصنِ، ويَرى أنَّ ذلك التَّشْبيهَ ظالِمٌ مُجْحِفٌ بها؛ فإنَّ الغُصنَ -وهُو شَجرُ الصَّفصافِ- يُسمَّى شَجرَ الخِلافِ، وهُو اسمٌ تَنفِرُ منه النفْسُ
[405] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 311)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 331). .