الفَرْعُ الأوَّلُ: فَسادُ التَقْسيمِ
قال أبو هِلالٍ العَسْكريُّ: "التَقْسيمُ الصَّحيحُ: أنْ تُقسِّمَ الكَلامَ قِسْمةً مُسْتويةً تَحْتوي على جَميعِ أنْواعِه، ولا يَخْرُجُ منْها جنْسٌ مِن أجْناسِه"
[408] ينظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) (ص: 341). .
فالتَّقْسيمُ إذا لم يَضُمَّ جَميعَ الأجْناسِ كان مَعيبًا، وكذلك إذا دخَل أحدُ الأقْسامِ في غيرِه. فمِنَ الأوَّلِ قولُ
جَريرٍ: البسيط
صارَتْ حنيفةُ أثْلاثًا فثُلْثُهم
مِنَ العَبيدِ وثُلْثٌ مِن مَوالينا
فبعدَ أنْ ذكَر الشَّاعرُ أنَّهم ثَلاثةُ أقْسامٍ، ذكَر قِسمَينِ فقطْ وسكَت عنِ الثَّالثِ؛ ولِهذا سُئل رجُلٌ مِن بَني حَنِيفةَ بينَ يَديْ
جَريرٍ وهُو يُنشِدُ: مِن أيِّ الأقْسامِ أنت؟ فقال: مِنَ الثَّالِثِ المُلْغى.
ومنه قولُ ابنِ القِرِّيَّة: "النَّاسُ ثَلاثةٌ: عاقِلٌ وأحْمَقُ وفاجِرٌ"؛ فإنَّ القِسْمةَ هنا رَديئَةٌ لعدَمِ اسْتِيفاءِ أقْسامِها؛ لأنَّ الفاجِرَ يَجوزُ أنْ يكونَ أحْمقَ، ويَجوزُ أنْ يكونَ عاقِلًا، والعاقِلُ يَجوزُ أنْ يكونَ فاجِرًا، وكذلك الأحْمقُ.
ومنه أيضًا ما ذُكِر أنَّ ابنَ مَيَّادةَ كتَب إلى عامِلٍ مِن عُمَّالِه هرَب مِن صارِفِه: إنَّك لا تَخلو في هرَبِك مِن صارِفِك أنْ تكونَ قدَّمتَ إليه إساءةً خِفْتَه معَها، أو خَشيتَ في عمَلِك خِيانةً رَهِبتَ بكَشْفِه إيَّاك عنها؛ فإنْ كنتَ أسأتَ فأوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَن يَسيرُها، وإنْ كُنتَ خِفتَ خِيانةً فلا بدَّ مِن مُطالَبتِك بها.
فكتَب العامِلُ تحتَ هذا التَّوقيعِ: "في الأقْسامِ ما لم يَدخُلْ فيما ذكَرتَه، وهُو أنِّي خِفتُ ظُلمَه إيَّاي بالبُعدِ عنك، وتَكثيرَه عليَّ الباطِلَ عندَك؛ فوجَدتُ الهرَبَ إلى حيثُ يُمكِنُني فيه دفْعُ ما يَتخرَّصُه أنْفي للظِّنَّةِ عني، وبُعدِي عمَّن لا يُؤمَنُ ظُلمُه أَوْلى بالاحْتياطِ لنَفْسي".
ومِن فسادِ التَقْسيمِ أنْ يكونَ أحدُ الأقْسامِ داخِلًا في بعضِه، كقولِ أُميَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ: الكامل
للهِ نِعْمتُنا تَبارَكَ رَبُّنا
ربُّ الأنامِ وربُّ مَن يَتأبَّدُ
فإنَّ مَنْ يَتأبَّدُ -يَتوحَّشُ- داخِلٌ في جُملةِ الأنامِ.
ومنه قولُ آخَرَ: الطويل
فما برِحَتْ تُومي إليكَ بطَرْفِها
وتُومِضُ أحيانًا إذا طَرْفُها غفَلْ
فإنَّ الإيماءَ والإيماضَ واحِدٌ.
وقولُ آخَرَ: الكامل
لو كانَ في قَلْبي كَقدْرِ قُلامَةٍ
حُبًّا وَصلتُكَ أو أتَتْكَ رَسائِلي
فإنَّ إرْسالَ الرَّسائِلِ نَوعٌ مِنَ الوصْلِ
[409] ينظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 342)، ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 142). .