المَطْلَبُ الثَّاني: أنواعُ تأكيدِ المدْحِ بما يُشبِهُ الذَّمَّ
له ثَلاثةُ أنواعٍ:
1- أن يُسْتثنى مِن صفةِ ذمٍّ مَنْفيَّةٍ عن الشَّيءِ صِفةُ مدْحٍ بتَقديرِ دُخولِها فيها:وهُو أعْلى أنْواعِه وأفْضلُها، ومنه قولُه تعالى:
طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه: 1 - 3] ؛ ففي الآيةِ الثَّانيةِ نفَى اللهُ تعالى أنْ يكونَ أنْزل القُرآنَ على نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَشقى به ويَتعَبَ، فنَفيُ الشَّقاءِ هنا هو نفْيٌ لصِفةِ ذمٍّ، لكنَّه في الآيةِ بعدَها اسْتَثنى، والاسْتِثناءُ يُوهِمُ تَكليْفَه بما فيه بعضُ المَشقَّةِ، فإذا به يَأتي بصِفةِ مدْحٍ، وهي أنَّه إنَّما أنزَلَ القُرآنَ تَذكِرةً للنَّاسِ وما عليك إلَّا أنْ تُبلِّغَهم فحسْبُ، وليس عليك هُداهم ولا حِسابُهم.
ومنه قولُ النَّابِغةِ الذُّبْيانيِّ: الطويل
ولا عَيبَ فيهم غيرَ أنَّ سُيوفَهم
بِهنَّ فُلولٌ مِن قِراعِ الكَتائِبِ
فنَفَى عنهم صِفةَ الذَّمِّ، وهِي أنْ يكونَ بهم عَيبٌ، ثمَّ اسْتَثنى مِن ذلك شيئًا، وهُو أنَّ سُيوفَهم بها فُلولٌ وكسْرٌ مِن كثْرةِ خَوضِ المَعارِكِ والحُروبِ. فجُملةُ: "غيرَ أنَّ سُيوفَهم..." تُوهِمُ أنَّ ذلك عيبٌ فيهم، إلَّا أنَّه ليس بعَيبٍ بل مَنْقبَةٍ لصاحِبِه، ودَليلٍ على كَمالِ الشَّجاعةِ وفَرْطِ الحَميَّةِ.
وإنَّما عُدَّ هذا النَّوعُ أعْلى الأنْواعِ وأفْضَلَها؛ لأنَّ الأصْلَ في الاسْتِثناءِ الاتِّصالُ، فإذا تَلفَّظَ المُتكلِّمُ بـ"غير" أو "إلَّا" أو نَحْوِهما، دارَ في خَلَدِ السَّامِعِ قبلَ النُّطقِ بما يُذكَرُ بعدَها أنَّ الآتيَ مُسْتثنًى مِنَ المدْحِ السَّابِقِ، وأنَّه يُرادُ به إثْباتُ شيءٍ مِنَ الذّمِّ، وهذا ذَمٌّ، فإذا أتَتْ بعدَها صِفةُ مدْحٍ تأكَّدَ المدْحُ؛ لكونِه مدْحًا على مدْحٍ، وللإشْعارِ بأنَّه لم يَجِدْ فيهم صِفةَ ذمٍّ حتَّى يُثبِتَها، فاضْطُرَّ إلى اسْتِثناءِ صفةِ مدْحٍ، فجاءت في أبْهى قالَبٍ وآنَقِ مَنْظرٍ.
ومنه أيضًا قولُ ابنِ الرُّوميِّ: السريع
ليس به عيبٌ سِوى أنَّه
لا تَقعُ العَينُ على مِثلِه
فنفَى عنِ المَمدوحِ أيَّ صِفةِ عيبٍ، ثمَّ اسْتَثنى بقولِه: "سِوى أنَّه" بما يُوهِمُ أنْ يكونَ له عيبٌ يذكُرُه الشَّاعِرُ، فكان ما ذكَرَه الشَّاعرُ أنَّ عَيبَه الوحيدَ أنَّه ليس له مَثيلٌ، وهذا مُنْتهى المدْحِ، وهُو تَفرُّدُه وأنَّه لا شَبيهَ له، وليس في الدُّنيا مَنْ يُضارِعُه.
ومنه كذلك قولُ
أبي العَلاءِ المَعرِّيِّ: الطويل
تُعدُّ ذُنوبي عندَ قَومٍ كَثيرةً
ولا ذنبَ لي إلَّا العُلا والفَضائِلُ
ففي الشَّطرِ الثَّاني مِنَ البيتِ نفَى عن نفْسِه صفةَ ذمٍّ، وهِي أنْ يكونَ له ذُنوبٌ كما يدَّعي القومُ، ثمَّ اسْتَثنى مِن ذلك ذنْبًا، وهُو العُلا والفَضائِلُ، فإنْ كانت تلك ذُنوبًا فهِي ذُنوبُه.
وفي هذا الأسلوبِ تَأكيدٌ مِن وَجهينِ:
الأوَّل: أنَّه دَعوى بدَليلِ الكِنايةِ.
الثَّاني: أنَّ فيه مُخاتَلةً ومُفارَقةً وإتيانَ المتكلِّمِ بغيرِ ما يُتوقَّعُ؛ لأنَّ المتكلِّمَ عندما يَنطِقُ بأداةِ الاستثناءِ يَتوهَّمُ المستمِعُ أنَّ ما بعْدَها خارجٌ ممَّا قبْلَها، وأنَّ صِفةَ ذمٍّ آتيةٌ حَتْمًا، فإذا أتَتْ صِفة مَدْحٍ تأكَّدَ المدحُ لكونِه مَدْحًا على مَدْحٍ.
2- أنْ يُثبِتَ لشيءٍ صفةَ مدْحٍ، ثمَّ تأتيَ أدَاةُ اسْتِثناءٍ مَتْبوعةٌ بصِفةِ مدْحٍ أخْرى:كقولِ النَّابِغةِ الجَعْديِّ: الطويل
فتًى كمَلَت أخْلاقُه غيرَ أنَّه
جَوادٌ فما يُبقِي مِنَ المالِ باقِيَا
فأثْبتَ للمَمدوحِ صِفةَ مدْحٍ، وهُو أنَّه قد اكْتَملتْ أخْلاقُه، ثمَّ اسْتَثنى منْها ما يُوهِمُ الذَّمَّ، لكنَّه ذكَر صِفةً أخرى مِن صِفةِ المدْحِ، وهِي أنَّه كَريمٌ جَوادٌ يُنفِقُ ولا يَترُكُ في مالِه شيئًا.
ومنه قولُ
بَديعِ الزَّمانِ الهَمذانيِّ: الطويل
هو البدْرُ إلا أنَّه البَحرُ زاخِرًا
سِوى أنَّه الضِّرغامُ لكنَّه الوَبْلُ
فأثْبتَ الشَّاعرُ للمَمْدوحِ صِفةَ مدْحٍ، وهِي تَشبيهُه بالبدْرِ، ثمَّ اسْتَثنى منْها ما يُوهِمُ أنَّه ذَمٌّ، لكنَّه كان صِفةً أخْرى مِن صِفاتِ المدْحِ، وهِي أنَّه جَوادٌ كالبَحرِ، وهِي أيضًا صِفةُ مدْحٍ، واسْتَثنى منها مُجدَّدًا بما يُوحي الذَّمَّ، لكنَّه كذلك أتى بصِفةِ مدْحٍ -وهِي الشَّجاعةُ والقوَّةُ- تَظهَرُ في تَشْبيهِه بالضِّرغامِ، ثمَّ اسْتَدرك كذلك مُوهِمًا الذَّمَّ، فأتى بصِفةِ مدْحٍ أخرى، وهي أنَّه وَبْلٌ، وهُو المطَرُ الشَّديدُ.
والاسْتِدراكُ بـ"لكن" هنا يَجْري مَجْرى الاسْتِثناءِ.
3- الاسْتِثناءُ المُفرَّغُ [444] هو الاستِثناءُ النَّاقِصُ المنفيُّ، أي: الَّذي حُذِفَ منه المُسْتَثنى منه، وكان الكلامُ مَنفِيًّا. :كقَولِه تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 59] .
فالنِّقْمةُ دائِمًا تكونُ على فِعلِ الشَّيءِ القَبيحِ، فلمَّا ذكَر الإيمانَ باللهِ والكُتبِ ظهَر أنَّ ذلك شيءٌ يَستدعي المدْحَ لا الذَّمَّ
[445] ينظر: ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 342)، ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 164). .