المَطلَبُ الثَّاني: وُقوعُ المَجازِ في اللُّغةِ والقُرآنِ
ذَهبَ جُمهورُ العُلَماءِ منَ الأُصوليِّينَ والبِلاغيِّينَ والمُفَسِّرينَ وغَيرِهم إلى أنَّ المَجازَ واقِعٌ في اللُّغةِ والقُرآنِ، بينَما ذَهبَت نُدرةٌ يَسيرةٌ إلى أنَّ المَجازَ لا وُجودَ له أصلًا لا في اللُّغةِ ولا في القُرآنِ، وذَهبَ بَعضُ العُلَماءِ إلى وُقوعِ المَجازِ في اللُّغةِ، وأنكَروا وُقوعَه في القُرآنِ.
واحتَجَّ مُنكِرو وُقوعِ المَجازِ في القُرآنِ وحدَه أو فيهما بـ:- أنَّ المَجازَ كَذِبٌ، ولا يَجوزُ القَولُ بأنَّ في القُرآنِ مَجازًا لهذا.
- أنَّ القَولَ بإثباتِ المَجازِ مُبَرِّرٌ لمُنكِري الصِّفاتِ الذينَ زَعموا أنَّ فيها تَأويلًا ومَجازًا، وأنَّ المُرادَ باليَدِ القُدرةُ، وبالبَصَرِ العِلمُ، ونَحو ذلك.
- أنَّ إثباتَ المَجازِ في القُرآنِ يُفضي إلى وصفِ اللهِ بالمُتجَوِّزِ، وهذا لا يَجوزُ.
- أنَّ تَقسيمَ الكَلامِ إلى حَقيقةٍ ومَجازٍ مُستَحدَثٌ منَ القَولِ لا يُعرَفُ في الصَّدرِ الأوَّلِ ولا في القُرونِ الثَّلاثةِ الأُوَلِ.
وأجابَ مُثبِتو المَجازِ على ذلك بـ:- أنَّ القَولَ بأنَّ كُلَّ مَجازٍ كَذِبٌ يَجوزُ نَفيُه، ليس صَحيحًا؛ فإنَّما يَكونُ المَجازُ كذِبًا إذا أثبَتَ المَعنى على الحَقيقةِ لا على المَجازِ؛ فإذا قُلتَ لرَجُلٍ بهِيِّ المَنظَرِ: إنَّكَ قَمَرٌ، فلَستَ كاذِبًا إلَّا أن تَزعُمَ أنَّه القَمَرُ الذي يَطلُعُ في السَّماءِ.
- أنَّ المَجازَ لا يُستَعمَلُ إلَّا مع قَرينةٍ تَصَرِفُه عنِ المَعنى الحَقيقيِّ المُرادِ، فإذا لم توجَدِ القَرينةُ وأُريدَ باللَّفظِ المَجازُ دونَ الحَقيقةِ كان الكَلامُ فاسِدًا، بخِلافِ الكَذِبِ؛ فإنَّ صاحِبَه يَسعى إلى تَرويجِ كَذِبِه.
- أنَّ القَولَ بأنَّ المَجازَ وسيلةٌ لنَفيِ الصِّفاتِ وتَأويلِها ليس صَحيحًا؛ فالأصلُ أن يُحمَلَ اللَّفظُ على الحَقيقةِ إلَّا إذا تَعَذَّرَ ذلك، أو وُجِدَت قَرينةٌ تَصَرِفُه عنِ الحَقيقةِ إلى المَجازِ، كما أنَّ مَجيءَ الصِّفاتِ مُتَكاثِرةً في القُرآنِ يَشهدُ لها أنَّ المَرادَ منها الحَقيقةُ لا المَجازُ.
- أنَّ طَريقةَ سَرْدِ آياتِ الصِّفاتِ تَشهدُ أنَّ المَرادَ منها حَقيقَتُها؛ كقَولِه تَعالى:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ؛ فإنَّ التَّأكيدَ لا يَأتي مع المَجازِ، فلا يُقالُ: أرادَ الحائِطُ إرادةً. ومنها قَولُه تَعالى:
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ؛ فإنَّه لا يَجوزُ أن يُرادَ به القُدرةُ؛ لأنَّ القُدرةَ صِفةٌ واحِدةٌ، ولا يَجوزُ أن تَأتيَ مُثَنَّاةً، ولا يَجوزُ أن يُرادَ به النِّعمةُ؛ لأنَّ النِّعَمَ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ولا يَجوزُ أن يَكونَ المُرادُ "لِما خَلَقْتُ أنا"؛ لأنَّ العَربَ إذا أرادوا ذلك أضافوا الفِعلَ إلى اليَدِ مُباشَرةً؛ تَقولُ: هذا ما قَدَّمَت يَداكَ، ومنه قَولُه تَعالى:
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران: 182] ، وقَولُه:
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحَجُّ: 10] ، أمَّا عِندَ إضافةِ الفِعلِ إلى الفاعِل، وتَعديةِ الفِعل إلى اليَدِ بالباءِ، فإنَّه لا يُرادُ به إلَّا الحَقيقةُ، ولا تَجِدُ مَن يَقولُ: فعَلتُ هذا بيَدَيَّ، وهو يُريدُ: فَعَله خادِمي أو مَملوكي.
- أنَّ العَربَ وإن لم يُعرَفْ عنهمُ اصطِلاحُ المَجازِ فقدَ كثُرَ ذلك في شِعرِهم وأقوالهم، كما أنَّه قد تَكَلَّم غَيرُ واحِدٍ في المَجازِ منَ القُرونِ الأُولى؛ منهم أبو زَيدٍ القُرَشيُّ، المُتَوفَّى (170هـ).
- أمَّا القَولُ بأنَّ ذلك يُفضي إلى وصفِ اللهِ بالمُتجَوِّزِ فهذا لا يَجوزُ إلَّا بالدَّليلِ؛ فإنَّ أسماءَ الله تَوقيفيَّةٌ، كما أنَّ في القُرآنِ ضَربَ الأمثال والسَّجعَ، فهل يُقالُ: إنَّ الله مُمَثِّلٌ أو ساجِعٌ؟! هذا لا يَجوزُ
[314] يُنظر: ((فقه اللغة: مفهومه، موضوعاته، قضاياه)) لمحمد إبراهيم الحمد (ص: 286-288)، ((التأويل خطورته وآثاره)) لعمر سليمان الأشقر (ص: 50). .
والقَولُ بنَفيِ المجازِ في القُرآنِ الكريمِ أصوَبُ، وانتصَرَ له جِدًّا العَلَّامةُ الأمينُ الشِّنقيطيُّ صاحِبُ "أضواء البيانِ" في كتابِه الماتعِ: "منعُ جوازِ المجازِ في المُنَزَّلِ للتَّعَبُّدِ والإعجازِ".