المَبحَثُ الثَّاني: تَرْكُ الإعرابِ
ادَّعى كثيرٌ منَ النَّاسِ صُعوبةَ عِلمِ النَّحوِ في دِراسَتِه وتَطبيقِه في كلامِ النَّاسِ الرَّسميِّ الذي يَعتَمِدُ على اللُّغةِ الفُصحى؛ من مُراسَلاتٍ أو كِتاباتٍ أدبيَّةٍ أو عِلميَّةٍ ونَحو ذلك، ورَأوا ضَرورةَ تَيسيرِه على الدَّارِسينَ، لَكِنَّهمُ اختَلَفوا في طَريقةِ تَيسيرِه تلك؛ فكان ابنُ مَضاءٍ الأندَلسيُّ القُرطُبيُّ (ت: 592) أوَّلَ الدُّعاةِ إلى التَّيسيرِ في كِتابِه الصَّغيرِ ((الرَّدُّ على النُّحاةِ))، فدعا إلى حَذفِ العِلَلِ الثَّوالثِ، وإنكارِ نَظَريَّةِ العامِل، وتَركِ الإعرابِ التَّقديريِّ، كما أنكر القياسَ في النَّحوِ، جَريًا منه على ظاهريَّتِه في الفِقْهِ، ودَعا كذلك إلى إلغاءِ بابَيِ التَّنازُعِ والاشتِغالِ.
كما دَعا شَوقي ضيف إلى إلغاءِ الإعرابِ التَّقديريِّ والمَحَلِّيِّ، وحَذفِ بَعضِ الزَّوائِدِ التي لا حاجةَ إلى دِراسَتِها، وإعادةِ تَنسيقِ وتَرتيبِ الأبوابِ النَّحْويَّةِ.
بينَما دَعا أكثَرُهم إلى تَيسيرِ تَعَلُّمِ النَّحوِ على الطُّلَّابِ، بدِراسةِ القَواعِدِ الضَّروريَّةِ التي يَحتاجُها الطَّالبُ مع إيرادِ بَعضِ التَّمارينِ عليها، والابتِعادِ عنِ المُناقَشاتِ والتَّفصيلاتِ والخِلافِ بَينَ النَّحويِّينَ في المَسألةِ، وتَأجيلِ ذلك إلى مَرحَلةِ التَّخَصُّصِ، وعلى هذا أُلِّفَتِ الكُتُبُ المُختَصَرةُ التي خَلَت عنِ التَّعقيداتِ وآراءِ البَصرةِ والكُوفةِ ونَحوها.
وهذه الدَّعَواتُ وإن نالَت شَيئًا منَ التَّأييدِ أوِ الرَّفضِ، إلَّا أنَّها لم تَهدفْ أبَدًا إلى إلغاءِ النَّحوِ منَ الأساسِ، أو إلى تَركِ الإعرابِ الذي هو أهمُّ خَصائِصِ النَّحوِ العَرَبيِّ
[349] يُنظر: ((تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر)) لنفوسة زكريا (ص: 196). .
بينَما ذَهبَ فريقٌ آخَرُ إلى إلغاءِ الإعرابِ تَمامًا، وذَهبَ إلى أنَّ تَغايُرَ أواخِرِ الكَلِماتِ إنَّما هو هروبٌ منِ التِقاءِ السَّاكِنَينِ، وقد تَمسَّكوا في ذلك بقَولِ مُحَمَّدِ بنِ المُستَنيرِ (قُطْرُب)؛ حيث زَعَمَ أنَّ أصلَ تلك الحَرَكاتِ إنَّما هيَ إرادةُ التَّخَلُّصِ منِ التِقاءِ السَّاكِنَينِ، وتَغايُرَ العَلاماتِ الإعرابيَّةِ لا أثَرَ له ولا دَلالةَ على المَعنى! قال: (وإنَّما أعرَبَتِ العَربُ كلامَها؛ لأنَّ الاسمَ في حالِ الوَقْفِ يَلزَمُه السُّكونُ للوَقْفِ، فلَو جَعَلوا وصْلَه بالسُّكونِ أيضًا لَكان يَلزَمُه الإسكانُ في الوقفِ والوَصلِ، وكانوا يُبطِئونَ عِندَ الإدراجِ، فلما وصَلوا وأمكَنَهمُ التَّحريكُ، جَعَلوا التَّحريكَ مُعاقِبًا للإسكانِ؛ ليَعتَدِلَ الكَلامَ؛ ألَّا تَراهم بَنوا كلامَهم على مُتَحَرِّكٍ وساكِنٍ، ومُتَحَرِّكَينِ وساكِنٍ، ولم يَجمَعوا بَينَ ساكِنَينِ في حَشْوِ الكَلمةِ ولا في حَشوِ بَيتٍ، ولا بَينَ أربَعةِ أحرُفٍ مُتَحَرِّكةٍ؛ لأنَّهم في اجتِماعِ السَّاكِنَينِ يُبطِئونَ، وفي كثرةِ الحُروفِ المُتَحَرِّكةِ يَستَعجِلونَ وتَذهبُ المُهلةُ في كَلامِهم، فجَعَلوا الحَرَكةَ عَقِبَ الإسكانِ.
قيلَ له: فهلَا لَزِموا حَرَكةً واحِدةً لأنَّها مُجْزِئةٌ لهم؛ إذ كان الغَرَضُ إنَّما هو حَرَكةٌ تَعتَقِبُ سُكونًا! فقال: لَو فعَلوا ذلك لضَيَّقوا على أنفُسِهم، فأرادوا الاتِّساعَ في الحَرَكاتِ وألَّا يَحظُروا على المُتَكَلِّمِ الكَلامَ إلَّا بحَرَكةٍ واحِدةٍ). وقد رَدَّ النُّحاةُ عليه دَعواه هذه، كما نَقل
الزَّجاجيُّ عنهم
[350] يُنظر: ((الإيضاح في علل النحو)) للزجاجي (ص: 70-71). .
ثُمَّ جاءَ بَعدَ ذلك إبراهيم أنيس فتابع قُطرُبًا على قَوله هذا تَمامًا، وتَلخيصُ قَوله: أنَّ الحَرَكاتِ الإعرابيَّةَ لا أثَرَ لها في المَعنى، وإنَّما جَيءَ بها لمُجَرَّدِ وَصلِ الكَلماتِ ببَعضِها والتَّخَلُّصِ منِ التِقاءِ السَّاكِنَينِ، وأنَّ اختِلافَ الحَرَكاتِ وتَنَوُّعَه راجِعٌ إلى إيثارِ بَعضِ الحُروفِ لحَرَكاتٍ مُعَيَّنةٍ، كإيثارِ الحُروفِ الحَلقيَّةِ للفَتحةِ، وإلى التَّناسُبِ الصَّوتيِّ، وأنَّ الإعرابَ بالحُروفِ راجِعٌ إلى اختِلافِ اللَّهَجاتِ؛ فبَعضُ القَبائِل يَقولُ: أبو، والبَعضُ: أبَا، والآخَرونَ: أبي، وهكذا، وكَذلك في جَمعِ المُذكَّرِ؛ فالبَعضُ يَقولُ: مُسلِمونَ، والآخَرونَ يَقولونَ: مُسلِمينَ
[351] يُنظر: ((من أسرار اللغة)) لإبراهيم أنيس (ص: 198) وما بعدها. !
وقد تَبَنى هذا القَولَ بَعضُ المُستَشرِقينَ وأشاعَه ونَشرَه، واعتَمَدَ عليه الذينَ تَرَبَّوا في أكنافِ الغَربِ؛ مِثل: قاسِم أمين، وغَيرِهم من أعداءِ اللُّغةِ العَربيَّةِ؛ أمثال: أنيس فريحة، وسلامة موسى.
وقَدِ انبَرى عُلماؤُنا للدِّفاعِ عنِ اللُّغةِ وخَصيصةِ الإعرابِ فيها، وإبطالِ تلك الدَّعاوى التي أشاعوها في العَرَبيَّةِ، والرَّدِّ على مَزاعِمِ قُطرُبٍ وأنيسٍ. فكان من هؤُلاءِ الدكتور مهدي المَخزوميُّ؛ حيث قال: (فإذا لم تَكُنِ الحَرَكاتُ أعلامًا لمَعانٍ قَصدَ إليها المُتَكَلِّمُ، بَل لم تَعْدُ أن تَكونَ حَرَكاتٍ يُحتاجُ إليها في كثيرٍ منَ الأحيانِ لوَصلِ الكَلماتِ بَعضِها مع بَعضٍ، فكَيفَ يُفَسِّرُ الوَقْفَ على خالدٍ في لُغةِ مَن يَنتَظِرُ؟ فيَقولونَ: هل جاءَ خالِدٌ، ومَرَرْتُ بخالدٍ، ورَأيتُ خالِدًا، في حالِ الوَقفِ، لماذا كانتِ الدَّالُ مَرفوعةً ومَنصوبةً ومَخفوضةً في الجُمَلِ الثَّلاثِ؟ ولماذا لا تُكسَرُ لتَنسَجِمَ حَرَكةُ الدَّالِ مع حَرَكةِ اللَّامِ قَبلَها؟!)
[352] ((مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة النحو واللغة)) لمهدي المخزومي (ص: 251). .
وقد رَدَّ العُلَماءُ تلك الدَّعاوى من أكثَرَ من وجهٍ؛ منها:
1- وُجودُ الإعرابِ كامِلًا في بَعضِ اللُّغاتِ السَّاميَّةِ.
2- أنَّ جَميعَ لُغاتِ العالَمِ تَستَخلصُ القَواعِدَ منَ اللُّغةِ، فالقَواعِدُ لا تُختَرَعُ.
3- أنَّ دِقَّةَ القَواعِدِ وتَشعُّبَها لا يَدُلَّانِ مُطلَقًا على أنَّها مُختَرَعةٌ.
4- أنَّ اللُّغةَ لَو كانت مَصنوعةً مَفروضةً على النَّاسِ لَما قَبِلوها؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أن يَكونَ للنُّحاةِ هذه السَّطوةُ على النَّاسِ حتى يُلزِموهم بهذه اللُّغةِ.
5- أنَّ الأُمَّةَ لا يُمكِنُ أن تَتَواطَأَ على إخفاءِ شَيءٍ منَ الأخبارِ، ولَو كان النَّحوُ مَصنوعًا لوصَلَتْنا الأخبارُ بذلك.
6- أنَّ القُرآنَ الكَريمَ الذي وصَلَ إلينا مُتَواتِرًا بالرِّوايةِ الشَّفويَّةِ المَوثوقِ بها جيلًا بَعدَ جيلٍ وصَلَ مُعْرَبًا؛ إذ لا يُعقَلُ أن يَكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقرَأُ القُرآنَ ولا يُحَرِّكُ أواخِرَ الكَلماتِ إلَّا إذا التَقى ساكِنانِ.
7- اتِّفاقُ القُرَّاءِ واختِلافُهم في نُطقِ الكَلماتِ في الآياتِ دَليلٌ على وُجودِ الإعرابِ؛ إذ لَو كان الإعرابُ مُصطَنَعًا لوصَلَنا القُرآنُ برِوايةٍ واحِدةٍ.
8- أنَّ الرَّسمَ القُرآنيَّ الذي نُقِلَ إلينا مُتَواتِرًا يُؤَيِّدُ وُجودَ الإعرابِ في الفُصحى، وأنَّه ليس منِ اختِراعِ النُّحاةِ؛ فالتَّفرِقةُ واضِحةٌ بَينَ المَنصوبِ بالياءِ، والمَرفوعِ بالألفِ أوِ الواوِ، والمُنَوَّنِ، كُلُّ ذلك يُؤَكِّدُ أنَّ ظاهرةَ الإعرابِ مَوجودةٌ.
9- تَنَبُّهُ العُلَماءِ في الصَّدرِ الأوَّلِ لحَرَكاتِ الإعرابِ، وإدراكُهم لمَدلولها، وعَيبُهم مَن يَحيدُ عنها مِمَّن فَسَدَت ألسِنَتُهم بمُخالَطَتِهم للأعاجِمِ: يَدُلُّ دَلالةً صادِقةً على وُجودِ الإعرابِ في الكَلامِ، وشُعورِ أولئك القَومِ به قَبلَ أن يَخرُجَ النُّحاةُ بقَواعِدِهم على النَّاسِ.
10- الشِّعرُ العَرَبيُّ بمَوازينِه وبُحورِه لا يَقبَلُ تلك الفِكرةَ بحالٍ منَ الأحوالِ؛ فأوزانُ الشِّعرِ وقَواعِدُه وجَرْسُه يَقومُ على مُلاحَظةِ نِظامِ الإعرابِ، وبِدونِ ذلك تَختَلُّ أوزانُه، ويَضطَرِبُ جَرْسُه
[353] يُنظر: ((فقه اللغة: مفهومه، موضوعاته، قضاياه)) لمحمد إبراهيم الحمد (ص: 437). .
إنَّ الدَّعوةَ إلى إلغاءِ الإعرابِ يُرادُ منها هدْمُ الفُصحى والقُرآنِ والسُّنةِ وكُلِّ التُّراثِ الإسلاميِّ العَرَبيِّ، وإلَّا فليس الإعرابُ بمُشكِلةٍ؛ لأنَّ الاسمَ تَختَلفُ على آخِرِه الحَرَكاتُ الثَّلاثُ، وتَمييزُ ما يَجِبُ أن يَكونَ عليه حَرفُ الإعرابِ ليس عَسيرًا، وتَمييزُ ما يَجِبُ أن يَكونَ عليه آخِرُ الفِعلِ أسهلُ منَ الاسمِ.
فالإعرابُ ليس منَ العَسِرِ بحيث تَتَعَذَّرُ مَعرِفَتُه، ولَكِن دافِعُ دُعاةِ إلغائِه حِقدٌ على القُرآنِ لا يُزيلُه إلَّا زَوالُ القُرآنِ، ومَعاذَ اللهِ أن يُضِيعَ كِتابَه المُبِينَ! وما الفارِقُ بَينَ الفُصحى والعاميَّةِ؟ أهيَ الألفاظُ، أمِ المَعاني، أمِ الأصَواتُ؟ إنَّ الفارِقَ الوحيدَ بينَهما هو الإعرابُ، فإذا ألغَيتَه فقد ألغَيتَ العَرَبيَّةَ في كُلِّ آثارِها العَظيمةِ ابتِداءً منَ القُرآنِ الكَريمِ
[354] يُنظر: ((الزحف على لغة القرآن)) أحمد عبد الغفور عطار (ص: 221). .