المبحث الثَّاني: تَعْريفُ مُصْطلَحِ عِلمِ اللُّغةِ عند القُدماءِ
إنَّ مَعْنى مُصْطلَحِ (عِلمِ اللُّغةِ) عند عُلَماءِ اللُّغةِ العَربِ القُدَماءِ لا يَتجاوَزُ دِراسةَ الألْفاظِ مُصنَّفةً في مَوضوعاتٍ، ومَدلولَ مُفرَداتِ الكَلِمِ، وبَيانَ المَوضوعاتِ اللُّغويَّةِ الجُزئيَّةِ.
فعِلمُ اللُّغةِ عند أبي حَيَّانَ الأنْدَلسيِّ قال فيه: (عِلمُ اللُّغةِ اسْمًا وفِعلًا وحَرفًا: الحُروفُ لقِلَّتِها تَكلَّمَ على مَعانيها النُّحاةُ، فيُؤخَذُ ذلك مِن كُتُبِهم، وأمَّا الأسْماءُ والأفْعالُ فيُؤخَذُ ذلك مِن كُتبِ اللُّغةِ)
[6] ((تفسير أبي حيان)) (1/ 14). .
في حَينِ يَشْتمِلُ عِلمُ اللُّغةِ عند
ابنِ فارِسٍ على مَعاني الأفْعالِ والأسْماءِ والحُروفِ، وعلى الوَظائِفِ التَّركيبيَّةِ
[7] يُنظَر: ((الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العَرب في كلامها)) لابن فارس (ص: 11). .
وقد ذهَب
ابنُ خلْدونَ في مُقدِّمتِه إلى أنَّ عِلمَ اللُّغةِ يدُلُّ على صِناعةِ جَميعِ الألْفاظِ المُنْدرِجةِ تحت مَوضوعٍ واحِدٍ بصُورَةٍ خاصَّةٍ، أوِ المُتَّصلةِ بالمُترادِفِ والدَّخيلِ والمُشترَكِ، في حِينِ أنَّ هذه الصِّفةَ تدُلُّ على (المُعْجَماتِ)
[8] يُنظَر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 756). .
فمُصْطلَحُ (عِلمِ اللُّغةِ) عند عُلَماءِ العَربِ القُدَماءِ بَقِي قاصِرًا وضَيِّقًا إذا ما قُورِنَ بمُصْطلَحِ (عِلمِ اللُّغةِ) عند المُحدَثينَ.
أمَّا مُصْطلَحُ عِلمِ اللُّغةِ (Linguistics) عند المُحدَثينَ: فهو العِلمُ الَّذي يَدرُسُ اللُّغةَ دِراسةً شامِلةً لاسْتِخراجِ قَوانينِها الخاصَّةِ بها، سواءٌ أكان ذلك في أصْواتِها وألْفاظِها، أم مُفرَداتِها ومَعانيها، أم تَراكيبِها وأساليبِها
[9] يُنظَر: ((فصول في علم اللغة العام)) لمحمود علي عبد الكريم الرديني (ص: 77). ، وهذه الدِّراسةُ تَقومُ على الوَصْفِ ومُعايَنةِ الوَقائِعِ بَعيدًا عنِ النَّزعةِ التَّعليميَّةِ والأحْكامِ المِعيارِيَّةِ، كما قال دي سوسير: (إنَّ مَوضوعَ عِلمِ اللُّغةِ الصَّحيحَ والوَحيدَ هو اللُّغةُ في ذاتِها ومِن أجْلِ ذاتِها).
ومِنَ الجَديرِ بالذِّكرِ أنَّ (عِلمَ اللُّغةِ) عند الغَربِ قد مرَّ بمَراحِلَ تَطويريَّةٍ؛ فبَعدَ أنْ كان يَهتمُّ بالدِّراساتِ التَّاريخيَّةِ المُقارِنةِ في بِداياتِ القَرنِ الثَّامِنَ عشَرَ بعد اكْتِشافِ اللُّغةِ السَّنسِكريتيَّةِ (لُغةِ الهِندِ القَديمةِ)، أصْبحَ يَهتمُّ بالدِّراساتِ الوَصْفيَّةِ الَّتي يَنْطبِقُ عليها قولُ دي سوسير: دِراسةُ اللُّغةِ في ذاتِها ومِن أجْلِ ذاتِها؛ ولِهذا فقد اختصَّ بجُملةِ خَصائِصَ أشار إليها عُلَماءُ اللُّغةِ الغَربيُّونَ،
ومِن أهمِّ هذه الخَصائِصِ:1- أنَّ عِلمَ اللُّغةِ يَتَّصفُ بالاسْتِقلالِ، وهذا مَظهَرٌ مِن مَظاهِرِ عِلميَّتِه.
2- يَهتمُّ عِلمُ اللُّغةِ باللُّغةِ المَنْطوقَةِ قبل المَكْتوبةِ.
3- يُعْنى عِلمُ اللُّغةِ باللَّهَجاتِ، ولا يُفضِّلُ الفُصْحى على غيرِها؛ فاللَّهَجاتُ على اخْتِلافِها وتَعدُّدِها لا تَقلُّ أهَميَّةً عن سِواها مِن مُسْتوياتِ الاسْتِخراجِ اللُّغويِّ.
4- يَسْعى عِلمُ اللُّغةِ إلى بِناءِ نَظريَّةٍ لِسانيَّةٍ لها صِفةُ العُمومِ؛ إذ يُمكِنُ على أساسِها دِراسةُ جَميعِ اللُّغاتِ الإنْسانيَّةِ ووصْفُها.
5- لا يُقيمُ عِلمُ اللُّغةِ وَزْنًا للفَرْقِ بين اللُّغاتِ البُدائيَّةِ واللُّغاتِ المُتحضِّرةِ؛ لأنَّها جميعًا جَديرةٌ بالدَّرسِ دونَما تَمْييزٍ أوِ انْحِيازٍ سابِقٍ.
نَخلُصُ ممَّا تقدَّم إلى القَولِ: إنَّ أهمَّ ما جعَل عِلمَ اللُّغةِ في القَرنِ التَّاسِعَ عشَرَ عِلمًا حَديثًا هو إخْضاعُ الظَّواهِرِ اللُّغويَّةِ لمَناهِجِ البَحثِ العِلميِّ، خِلافًا لِما كان عليه الحالُ مِن قبلُ؛ إذ كانت عُلومُ اللُّغةِ في أوروبَّا تَتَّصفُ بالافْتِراضِ والتَّخييلِ
[10] يُنظَر: ((نظرية تشومسكي اللُّغويَّة)) لجون ليونز (ص: 39، وما يليها). .