المبحث السَّادِسُ: مَوضوعُ عِلمِ اللُّغةِ، ووَظائِفُه، وواجِباتُ اللُّغويِّ
)إنَّ طبيعةَ موضوعِ عِلمِ اللُّغةِ؛ تلك الظَّاهِرةِ الإنسانيَّةِ التي هي اللُّغةُ، التي هي متطوِّرةٌ بطَبْعِها، تَفرِضُ على الباحِثِ أن يتساءَلَ أوَّلَ ما يتساءَلُ:
كيف تكونُ للإنسانِ لُغةٌ؟ كيف توصَّل الإنسانُ إلى هذا النِّظامِ؟ أتوصَّل إليه بنَفسِه، أم أُوحِيَ به إليه إيحاءً؟ ذلك موضوعٌ قد شَغَل النَّاسَ من قديمٍ... ولكِنْ لا تزالُ مُشكِلةُ نشأةِ اللُّغةِ قائمةً. ما أقدَمُ مجتَمَعٍ ظَهَرت فيه اللُّغةُ؟ وأيُّ لُغةٍ كانت أو اللُّغاتِ؟ وهل اللُّغاتُ المعروفةُ الآن ترجِعُ إلى أصلٍ واحدٍ أو ترجِعُ إلى أكثَرَ من أصلٍ؟ أي: هل اللُّغةُ أُحاديَّةُ النَّشأةِ، أو ثُنائيَّتُها أو مُتعَدِّدتُها؟ وما الظُّروفُ الاجتماعيَّةُ وغيرُ الاجتماعيَّةِ التي أدَّت إلى نشأةِ اللُّغةِ؟
[24] ((علم اللغة مقدمة للقارئ العربي)) لمحمود السعران (ص: 49). .
ولقد حدَّد الباحِثون موضوعَ عِلمِ اللُّغةِ في أنَّه (كلُّ نَشاطٍ لُغويٍّ للإنْسانِ في الماضي والحاضِرِ، يَسْتوي في هذا الإنْسانُ البُدائيُّ والمُتحضِّرُ، واللُّغاتُ الحيَّةُ والمَيِّتةُ، والقَديمةُ والحَديثةُ، دون اعْتِبارٍ لصِحَّةٍ أو لَحْنٍ، أو جَودَةٍ أو رَداءَةٍ، أو غيرِ ذلك)
[25] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللُّغويِّ)) لرمضان عبد التواب (ص: 7)؛ نقلًا عن كتاب (((Grundfragen) لدي سوسير. ؛ فـ)إنَّ اللُّغاتِ هي الأشكالُ المُختَلِفةُ التي تتحَقَّقُ فيها اللُّغةُ؛ فدِراسةُ كُلٍّ منها وصفًا وتاريخًا، ودراسةُ العَلاقاتِ التي تقومُ بينها أو بينَ طائفةٍ منها، ودراسةُ الوظائِفِ التي تؤدِّيها، وتُبَيِّنُ ظروفَ استعمالِها؛ كلُّ أولئك وسِواه يمهِّدُ للوُصولِ إلى التَّعريفِ بحقيقةِ تلك الظَّاهِرةِ الإنسانيَّةِ العامَّةِ التي هي اللُّغةُ
[26] ((علم اللغة مقدمة للقارئ العربي)) لمحمود السعران (ص: 47). .
وتَتحدَّدُ لذلك وَظائِفُ عِلمِ اللُّغةِ فيما يَلي:1- وَصْفُ ما وصَل إلينا مِنَ اللُّغاتِ البَشَريَّةِ، والتَّأريخُ لها، وتَقْسيمُ اللُّغاتِ إلى فَصائِلَ وعائِلاتٍ، وإعادَةُ صَوغِ اللُّغاتِ الأمِّ لكلِّ هذه الفَصائِلِ على قدْرِ الإمْكانِ.
2- البَحْثُ عن القُوى المُؤَثِّرةِ في حَياةِ اللُّغاتِ في كلِّ مَكانٍ، واكْتِشافُ القَوانينِ العامَّةِ الَّتي تُفسِّرُ الظَّواهِرَ اللُّغويَّةَ الخاصَّةَ بكلِّ لُغةٍ.
3- تَحْديدُ مَجالاتِ عِلمِ اللُّغةِ، والبَحْثُ عن تَعْريفٍ مُناسِبٍ لهذا العِلمِ.
وكان لا بُدَّ لكي تَكتمِلَ مَباحِثُ هذا العِلمِ أنْ يُسبَقَ بدِراساتٍ تَفْصيليَّةٍ لمُعظَمِ لُغاتِ البَشَرِ، وقد مهَّدتْ تلك الدِّراساتُ المُستقلَّةُ لكلِّ لُغةٍ على حِدَةٍ، للبَحْثِ في تاريخِ اللُّغاتِ والمُقارَنةِ بينَها، فكَثُر التَّفكيرُ في نَشأةِ اللُّغةِ، وفي تَطوُّرِها، وفي العائِلاتِ اللُّغويَّةِ، وغيرِ ذلك.
وتلك الدِّراساتُ السَّابِقةُ للُغاتِ البَشَرِ أو لأشْهرِها، يُعادُ النَّظرُ فيها الآنَ مرَّةً أخرى. والَّذي يَدْعو إلى إعادَةِ النَّظرِ فيها هو نَتائِجُ عِلمِ اللُّغةِ نفْسِه؛ لأنَّ بعضَ تلك الدِّراساتِ قام على أسُسٍ غيرِ سَليمةٍ، أوِ اسْتَعان بوَسائِلَ قاصِرةٍ، ولكنَّ تلك الدِّراساتِ، معَ ما فيها مِن قُصورٍ، كانت خُطوةً أساسيَّةً لظُهورِ عِلمِ اللُّغةِ ووُصولِه إلى ما وصَل إليه الآنَ.
ومِن واجِباتِ اللُّغويِّ أنْ يَدرُسَ اللُّغةَ كما هي؛ فليس له أنْ يُغيِّرَ مِن طَبيعتِها، شأنُه في ذلك شأنُ الباحِثِ في أيِّ عِلمٍ مِنَ العُلومِ، فليس له أن يَقتَصِرَ في بَحْثِه على جَوانِبَ مِنَ اللُّغةِ مُسْتحسِنًا إيَّاها، ويُنحِّيَ جَوانِبَ أخرى اسْتِهجانًا لها أوِ اسْتِخفافًا بها، أو لغرَضٍ في نفْسِه، أو لأيِّ سَببٍ آخَرَ مِنَ الأسبْابِ.
ولا تَرمي دِراسةُ عِلمِ اللُّغةِ إلى أغْراضٍ عَمَليَّةٍ؛ فالباحِثُ اللُّغَويُّ يَدرُسُ اللُّغةَ لغَرَضِ الدِّراسةِ نفْسِها، فهو يَدرُسُها دِراسةً مَوضوعيَّةً تَسْتهدِفُ الكَشْفَ عن حَقيقتِها؛ فليس مِن مَوضوعِ دِراستِه أنْ يُحقِّقَ أغْراضًا تَرْبويَّةً مَثلًا، أو أيَّ أغْراضٍ عَمَليَّةٍ أخرى، فهو لا يَدرُسُها بغَرَضِ الارْتِقاءِ بها مَثلًا، أو تَصْحيحِ جَوانِبَ منها، أو القَضاءِ على عِوَجٍ فيها؛ فإنَّ عمَلَه يَجبُ أنْ يَقتَصِرَ على وَصْفِها وتَحْليلِها بطَريقةٍ مَوضوعيَّةٍ
[27] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللُّغويِّ)) لرمضان عبد التواب (ص: 7-9)، وأشار أيضًا إلى كتاب ((Grundfragen)) لدي سوسير. .
فمِنَ القَضايا اللُّغَويَّةِ المُهِمَّةِ التي اختَلَف العُلَماءُ فيها وتبايَنَت فيها آراؤُهم وظيفةُ اللُّغةِ والأغراضُ التي تؤدِّيها، ولَمَّا كانت اللُّغةُ وسيلةً وأداةً تستعينُ بها العلومُ الأُخرى، كالفَلسفةِ والمَنطِقِ وعِلمِ النَّفسِ وعِلمِ الاجتِماعِ، فقد أدَّى هذا إلى اهتمامِ أهلِ هذه العُلومِ باللُّغةِ؛ ولذلك ظَلَّت فترةً من الزَّمَنِ في رِحابِ ميادينِ الفَلسَفةِ والمَنطِقِ وعِلمِ النَّفسِ، وكانت مبادِئُ اللُّغةِ تسيرُ وَفقَ معاييرِ هذه العلومِ، ويرى أصحابُ المدرسةِ العقليَّةِ من أصحابِ الفَلسَفةِ والمَنطِقِ أنَّ الوظيفةَ الأساسيَّةَ للُّغةِ هي التَّعبيرُ عن الأفكارِ ونَقلُ الخِبراتِ الإنسانيَّةِ، وأنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ التَّفكيرَ بدونِ اللُّغةِ.
ويحلِّلُ جِيفُونْزُ jevones وظيفةَ اللُّغةِ إلى ثلاثةِ أغراضٍ، هي:
1- كَوْنُها وسيلةً للتَّفاهُمِ والتَّواصُلِ.
2- كونُها أداةً مُساعِدةً للتَّفكيرِ.
3- كونُها أداةً لتَسجيلِ الأفكارِ والرُّجوعِ إليها.
وبتأمُّلِ هذه الأغراضِ التي ذكَرَها جِيفُونْزُ للُّغةِ نراها تخصُّ المُفَكِّرين فحَسْبُ، ولا تَشمَلُ الجماعةَ اللُّغَويَّة كُلَّها، والواقِعُ اللُّغَويُّ ينفي أنَّ النَّاسَ تتكَلَّمُ للتَّعبيرِ عن فِكرٍ فقط.
ولا يختَلِفُ السُّلوكيُّون من عُلَماءِ النَّفسِ عن الفلاسفةِ في قَصرِ وظيفةِ اللُّغةِ على مجالِهم، حيث رأَوا أنَّ الوظيفةَ الأساسيَّةَ للُّغةِ هي التَّأثيرُ والإقناعُ والتَّعبيرُ عن العواطِفِ، ومِن أبرَزِ اللُّغَويِّين تأثُّرًا بهذه المدرَسةِ السُّلوكيَّةِ: بُلومْفيلْدُ، وفي مقابِلِ المدرسةِ العَقليَّةِ هناك مدرسةٌ أُخرى هي المدرسةُ الاجتماعيَّةُ التي ركَّزت على الطبيعةِ الاجتماعيَّةِ للُّغةِ؛ فاللُّغةُ مرآةُ المجتَمَعِ ترتَبِطُ بالجماعةِ، أي: أنَّ اللُّغةَ تتأثَّرُ بأهلِها، ففي قولِهم قوَّةٌ لها، وفي ضعفِهم ضَعفٌ لها!
ومن أبرَزِ أنصارِ هذه المدرسةِ اللُّغَويُّ الفَذُّ يِسْبِرْسِنُ Yespersen، الذي يقرِّرُ أنَّ اللُّغةَ لا تُستخدَمُ للتَّعبيرِ عن الأفكارِ، بقَدْرِ ما تُستخدَمُ للتَّواصُلِ الاجتِماعيِّ والتَّعاوُنِ بَينَ أفرادِ الجماعةِ، وتُؤمِنُ هذه المدرسةُ باستقلالِ عِلمِ اللُّغةِ عن الاعتمادِ على معاييرِ ومبادِئِ العلومِ الأخرى، وأنَّه ينبغي أن يقومَ عِلمُ اللُّغةِ على حقائِقِ اللُّغةِ؛ كي تَصِلَ إلى نتائِجَ صحيحةٍ؛ لأنَّ الخَلطَ بَينَ اللُّغةِ ومبادِئِ العلومِ الأُخرى يؤدِّي بنا -في الأعَمِّ الأغلَبِ إلى نتائِجَ مُضَلِّلةٍ بعيدةٍ عن الصَّوابِ
[29] ((العربية وعلم اللغة الحديث)) محمد محمد داود (ص: 49 - 50). .