المَبْحَثُ الخامِسُ: فَضْلُ عِلْمِ الإنشاءِ والكِتابةِ
لا أَدَلَّ على فَضيلةِ فَنِّ الكِتابةِ والإنشاءِ مِن أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى نَسَب تعليمَه لنَفْسِه فقال:
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 3-5] ؛ ولهذا فاخر بَعْضُهم، وادَّعى قيامَ صِراعٍ بَيْنَ أنصارِ السَّيفِ وأنصارِ القَلَمِ، فقال:
إنِ افتخَرَ الأبطالُ يومًا بسَيفِهم
وعَدُّوه ممَّا يُكسِبُ المجْدَ والكَرَمْ
كَفى قَلَمُ الكُتَّابِ عِزًّا ورِفْعةً
مَدى الدَّهْرِ أنَّ اللهَ أقسَمَ بالقَلَمْ
وكأنَّه في هذا يَرُدُّ على أبي تمَّامٍ في قَولِه:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعِبِ
ويؤكِّدُ تلك القَضِيَّةَ ابنُ الرُّوميِّ حينَ يَقولُ:
إنِ يخْدُمِ القَلَمَ السَّيفُ الَّذي خضَعَت
له الرِّقابُ ودانت خَوْفَه الأُمَمُ
فالموَتُ -والموتُ لا شَيءَ يُغالِبُه-
ما زال يَتْبَعُ ما يجري به القَلَمُ
كذا قضى اللهُ للأقلامِ مُذْ بُرِيَتْ
أنَّ السُّيوفَ لها مُذْ أُرْهِفَتْ خَدَمُ
ومعنى كَلامِه: إن كان العَجَبُ أنَّ السَّيفَ الَّذي خضَعَت له الرِّقابُ واستسلَمَت له الأُمَمُ يخدُمُ القَلَمَ، فالعَجَبُ كُلُّ العَجَبِ أنَّ الموتَ -الَّذي لا يَقهَرُه أحَدٌ- إنَّما هو تنفيذٌ لِما جرى به القَلَمُ -أي: القَدَرُ-، ولا عجَبَ في ذلك؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد قضى وحكَمَ لتلك الأقلامِ أن تكونَ هي السَّيِّدَ الآمِرَ، والسَّيفُ هو الخادِمَ المُطيعَ.
قال أبو جَعفَرٍ الفَضْلُ بنُ أحمَدَ: (الكِتابةُ أُسُّ المُلْكِ، وعِمادُ المَمْلكةِ، وأغصانٌ مُتفَرِّقةٌ مِن شَجَرةٍ واحِدةٍ. والكِتابةُ قُطبُ الأدَبِ، ومِلاكُ الحِكْمةِ، ولِسانٌ ناطِقٌ بالفَصْلِ، ومِيزانٌ يدُلُّ على رَجاحةِ العَقْلِ، والكِتابةُ نُورُ العِلْمِ، وفِدامةُ العُقولِ، ومَيدانُ الفَضْلِ والعَدْلِ. والكِتابةُ حِلْيةٌ وزِينةٌ ولَبُوسٌ وجَمالٌ وهَيْبةٌ، ورُوحٌ جارِيةٌ في أقسامٍ مُتفَرِّقةٍ، والكِتابةُ أفضَلُ دَرَجةٍ وأرفَعُ مَنزِلةٍ، ومَن جَهِلَ حَقَّ الكِتابةِ فقد وُسِمَ بوَسْمِ الغُواةِ الجَهَلةِ، وبالكِتابةِ والكُتَّابِ قامت السِّياسةُ والرِّياسةُ، ولو أنَّ فَضْلًا ونُبْلًا تُصُوِّرا جميعًا تُصُوِّرَت الكِتابةُ، ولو أنَّ في الصِّناعاتِ صِناعةً مَربوبةً لكانت الكِتابةُ رَبًّا لكُلِّ صَنعةٍ)
[18] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/ 66). .
وكما أنَّ القَلَمَ يَقهَرُ النُّفوسَ ويُسَلِّطُ السَّيفَ عليها، فهو أيضًا ما يدرَأُ عنها ذلك، وقد رَوَت كُتُبُ التَّاريخِ أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ المُقَفَّعِ حَفِظ حياةَ عَبدِ اللهِ بنِ عَلِيِّ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ العَبَّاسِ مِن غَدْرِ ابنِ أخيه
أبي جَعفَرٍ المنصورِ؛ حَيثُ كان ابنُ المُقَفَّعِ كاتبًا لعيسى بنِ عَلِيٍّ أخي عبدِ اللهِ المذكورِ، وكانت قد وقَعَت بَيْنَ عَبدِ اللهِ بنِ عَلِيٍّ وبَيْنَ أبي جَعفرٍ حُروبٌ انتَهَت بهزيمةِ عَبدِ اللهِ، ففرَّ إلى أخيه عيسى وسأل
المنصورَ الأمانَ، فأجابه
المنصورُ إلى ذلك ناويًا أن يَغدِرَ به، فسأل ابنَ المقَفَّعِ أن يَكتُبَ له عَهْدًا وثيقًا
للمَنصورِ لِيُمضِيَه له، فكتَب عهدًا لم يَدَعْ فيه للخِيانةِ مَجالًا إلَّا سدَّه، وكان ممَّا كَتَبَه فيه: (ومتى غدر أميرُ المؤمِنينَ بعَمِّه عبدِ اللهِ بنِ عَلِيٍّ، فنِساؤه طوالِقُ، ودَوابُّه حُبُسٌ، وعَبيدُه أحرارٌ، والمُسلِمون في حِلٍّ مِن بَيعتِه)
[19] يُنظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (2/ 152)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (3/ 911). .
ومِن عَظيمِ ذلك أنَّ بَعْضَ الأُمَراءِ نَقَمَ على بَعْضِ رجالِه، فهَرَب الرَّجُلُ خائِفًا مِن شَرِّه، فأمر الأميرُ كاتِبَه أن يُرسِلَ إليه يُرَغِّبُه في الحُضورِ، وأنَّه في أمانٍ منه، ونَحْوِ ذلك، ففَهِم الكاتِبُ أنَّ الأميرَ ينوي له شَرًّا، فكتب له ما أراد الأميرُ، غَيرَ أنَّه جاء عند عِبارةِ (إنْ شاء اللهُ) فشدَّد النُّونَ (إنَّ شاء اللهُ)؛ ففَهِم الرَّجُلُ مَقصودَ الكاتِبِ وأنَّه يُشيرُ إلى قَولِه تعالى:
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص: 20] ، فردَّ الرَّجُلُ في رِسالةٍ وكتب فيها "أنا الخادِمُ المُطيعُ" بكَسْرِ الهَمْزةِ وتشديدِ النُّونِ "إنَّا"، فعَلِمَ الكاتِبُ أنَّ الرَّجُلَ فَهِمَ مقصودَه وأنَّه لن يأتيَ، وأشار بذلك إلى قَولِه تعالى:
إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا [المائدة: 24] [20] يُنظر: ((وفيات الأعيان)) (3/ 410). .
والقَلَمُ أحَدُ اللِّسانَينِ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ مِنَ البَيانِ لسِحْرًا )) [21] أخرجه البخاري (5767)، من حديثِ عبد الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقد سَمِع
عَمْرُو بنُ العاصِ زِيادَ بنَ أبيه يخطُبُ في النَّاسِ، فقال: (للهِ دَرُّ هذا الغُلامِ، أمَا واللهِ لو كان أبوه قُرَشِيًّا لساق العَرَبُ النَّاسَ بعَصاه!)، وذلك في حَضْرةِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ وأبي سُفْيانَ بنِ حَربٍ
[22] يُنظر: ((وفيات الأعيان)) (6/ 357)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (20/ 303). .
وهذا يدُلُّ على أنَّ القُدرةَ على البَيانِ والتَّعبيرِ وإفحامِ الخَصْمِ: مِن أخَصِّ خصائِصِ المُلْكِ والسِّياسةِ، وبالفِعْلِ فإنَّ التَّاريخَ قد عرَف كُتَّابًا آلَ الأمرُ إليهم بَعْدَ ذلك في الخِلافةِ والمُلْكِ، فالرَّاشِدونَ الأربَعةُ كانوا كَتَبةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه كذلك كاتبًا
للصِّدِّيقِ، و
مُعاويةُ رَضِيَ اللهُ عنه كان كاتِبًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وانتهى إليه المُلْكُ بعد
الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ، وكذا كان مَرْوانُ بنُ الحَكَمِ كاتبًا لعُثمانَ بنِ عَفَّانَ، وكان
عبدُ المَلِكِ بنِ مَروانَ يَكتُبُ لِ
مُعاويةَ، وغَيرُهم كثيرٌ ممَّن كانت الكِتابةُ سَبَبًا إلى سُدَّةِ الحُكْمِ والرِّئاسةِ
[23] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/ 68). .
قال جَعْفَرُ بنُ أحمَدَ: (للكُتَّابِ أقرَّت المُلوكُ بالفاقةِ والحاجةِ، وإليهم أُلقِيَت الأَعِنَّةُ والأَزِمَّةُ، وبهم اعتَصَموا في النَّازِلةِ والنَّكْبةِ، وعليهم اتَّكَلوا في الأهْلِ والوَلَدِ والذَّخائِرِ، والعَقْدِ ووُلاةِ العَهْدِ، وتَدبيرِ المُلْكِ وقِراعِ الأعداءِ، وتَوفيرِ الفَيْءِ، وحياطةِ الحَريمِ، وحِفظِ الأسرارِ، وترتيبِ المراتِبِ، ونَظْمِ الحُروبِ)
[24] يُنظر: ((عمدة الكتاب)) لأبي جعفر النحاس (ص: 364). .
وقال عَلِيُّ بنُ خَلَفٍ الكاتِبُ: (وما مِن أحَدٍ يَتَوسَّلُ إلى السَّلاطينِ بالأدَبِ، ويمُتُّ إليهم مِنَ العِلْمِ بسَبَبٍ إلَّا وهو نافِلةٌ لا يَنولُ ما يَنولُه إلَّا على وَجهِ الإرفاقِ، خلا الكاتِبَ؛ فإنَّه يَنولُ الرَّغائِبَ العَظيمةَ مِن طَريقِ الاستِحقاقِ؛ لِمَوضِعِ الافتقارِ إليه والحاجةِ، ومِنَ المَعْلومِ أنَّه لا بدَّ من واسِطةٍ تقومُ بَيْنَ المُلوكِ والرَّعِيَّةِ؛ لبُعدِ ما بَيْنَ الطَّبَقَتينِ: العُلْيا والدُّنْيا، وليس من طَبَقاتِ النَّاسِ مَن يُساهِمُ المُلوكَ في جَلالةِ القَدْرِ وعَظيمِ الخَطَرِ، ويُشارِكُ العامَّةَ في التَّواضُعِ والاقتِصادِ سِوى الكُتَّابِ، فاحتِيجَ إليهم للسِّفارةِ في مَصالِحِ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ السَّلاطينِ، واستيفاءِ حُقوقِ السَّلاطينِ مِنَ الرَّعِيَّةِ، والتَّلَطُّفِ في الصِّلةِ بَيْنَهما)
[25] يُنظر: ((مواد البيان)) لعلي بن خلف الكاتب (ص: 35). .
ولو لم يَكُنْ في فَضْلِ الكِتابةِ والإنشاءِ إلَّا أنَّها تُمَكِّنُ الإنسانَ مِنَ التَّعبيرِ ببَراعةٍ عمَّا تتراوَدُه مِنَ المعاني، وتُحسِّنُ لها اختيارَ الألفاظِ والتَّراكيبِ، وتُجَنِّبُه الوُقوعَ في اللَّحْنِ أو اللَّبْسِ وعَدَمِ الإفهامِ؛ لكان ذلك كافِيًا.