المَطْلَبُ الأوَّلُ: الرَّسائِلُ الأهلِيَّةُ
يتَّسِمُ ذلك النَّوعُ مِنَ الرَّسائِلِ بالحُرِّيَّةِ في التَّعبيرِ، وعَدَمِ التَّكَلُّفِ في العِبارةِ؛ فهي تلك الرَّسائِلُ الَّتي تدورُ بَيْنَ الأصدِقاءِ والأهْلِ والأحبابِ، ولا حَرَجَ على الكاتِبِ فيها إذا بَسَط الكَلامَ عن أحوالِه، وأطنَبَ في ذِكْرِ اشتياقِه وحُبِّه للمُرسَلِ إليه؛ ولهذا تَبعُدُ تلك الرَّسائِلُ عن النَّمَطيَّةِ والانقِباضِ والتَّعامُلِ الرَّسميِّ بَيْنَ طَرَفَيِ الرِّسالةِ.
وتتجَلَّى تلك الرَّسائِلُ الأهلِيَّةُ في عِدَّةِ أشكالٍ وصُوَرٍ؛ منها:
الوَصايا:هي رِسالةٌ يَكتُبُها أحَدُ الشَّيوخِ لتِلامِذَتِه، أو أحَدُ العاهِدينَ للمَعهودِ إليه ما يَليقُ به، أو أحَدُ الأصدِقاءِ لصَديقِه، أو أحَدُ أفرادِ العائِلةِ لقَريبِه، يُوصيه فيها بأمرٍ مِنَ الأُمورِ، وتتجَلَّى فيها الحِكَمُ ونَقْلُ الخِبراتِ.
ومِن ذلك وَصِيَّةُ بَعْضِ العُلَماءِ لمقُرئِ القُرآنِ، يقولُ فيها: (ولْيَدُمْ على ما هو عليه مِن تِلاوةِ القُرآنِ؛ فإنَّه مِصباحُ قَلْبِه، وصَلاحُ قُربِه، وصَباحُ القَبولِ المُؤذِنِ له برِضا رَبِّه، ولْيجعَلْ سُوَرَه له أسوارًا، وآياتِه تُظهِرُ بَيْنَ عَيْنَيه أنوارًا، ولْيتْلُ القُرآنَ بحُروفِه، وإذا قرأ استعاذ، وليَجمَعْ طُرُقَه وهي الَّتي عليها الجُمهورُ، ويَترُكِ الشَّواذَّ، ولا يرتَدَّ دونَ غايةٍ لإقصارٍ، ولا يَقِفْ فبَعْدَ أن أتَمَّ لم يَبْقَ بحَمْدِ اللهِ إحصارٌ، ولْيتوسَّعْ في مذاهِبِه ولا يخرُجْ عن قِراءةِ القُرَّاءِ السَّبعةِ أئِمَّةِ الأمصارِ، ولْيَبذُلْ للطَّلَبةِ الرِّغاب، وليُشْبِعْ فإنَّ ذوي النَّهْمةِ سِغاب، ولْيُرِ النَّاسَ ما وهبه اللهُ مِنَ الاقتدارِ؛ فإنَّه احتَضَن السَّبْعَ ودخل الغابَ... وليُقْبِلْ على ذوي الإقبالِ على الطَّلَب، وليأخُذْهم بالتَّربيةِ فما مِنهم إلَّا من هو إليه قد انتَسَب، وهو يعلَمُ ما منَّ اللهُ عليه بحِفْظِ كِتابِه العزيزِ مِنَ النَّعْماء، ووَصَلَ سَبَبَه منه بحَبلِ اللهِ الممتَدِّ مِنَ الأرضِ إلى السَّماءِ؛ فلْيَقْدُرْ حَقَّ هذه النِّعْمةِ بحُسْنِ إقبالِه على التَّعْليمِ، والإنصافِ إذا سُئِلَ؛ فعِلْمُ اللهِ ما يتناهى، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)
[139] يُنظر: ((التعريف بالمصطلح الشريف)) لابن فضل الله العمري (ص: 173). .
ومن ذلك وَصِيَّةُ بَعْضِ العُلَماءِ للمُحَدِّثِ: (وقد أصبح بالسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ مُضطَلِعًا، وعلى ما جمعَتْه طُرُقُ أهلِ الحَديثِ مُطَّلِعًا...، وهو يَعلَمُ مِقدارَ طَلَبِ الطَّالِبِ؛ فإنَّه طالما شدَّ له النِّطاقَ، وسعى له سَعْيَه وتجشَّم المشاقَّ، وارتحَلَ له يشتَدُّ به حِرْصُه والمطايا مُرْزِمة، وينبِّهُه له طَلَبُه والجُفونُ مُقفَلة، والعُيونُ مُهَوِّمة... فلْيُعامِلِ الطَّلَبةَ إذا أتَوه للفائِدةِ مُعامَلةَ مَن جَرَّب، وليُنَشِّطِ الأقرِباءَ منهم ويُؤنِسِ الغُرَباءَ، فما هو إلَّا ممَّن طلب آوِنةً مِن قَريبٍ وآوِنةً تَغرَّب، وليُسْفِرْ لهم صَباحُ قَصْدِه عن النَّجاحِ، ولْيَنتَقِ لهم من عُقودِه الصِّحاحَ، وليُوضِّحْ لهم الحديثَ، وليُرِحْ خواطِرَهم بتقريبِه ما كان يُسارُ إليه السَّيرَ الحَثيثَ، وليُؤتِهم مَّما وسَّع اللهُ عليه فيه المجال، ويعَلِّمْهم ما يجِبُ تَعليمُه مِنَ المُتونِ والرِّجال، ويُبَصِّرْهم بمواقِعِ الجَرْحِ والتَّعديل، والتَّوجيهِ والتَّعليل، والصَّحيحِ والمعتَلِّ الَّذي تتناثَرُ أعضاؤه سُقمًا كالعليل، وغيرَ ذلك ممَّا لرجالِ هذا الشَّانِ به عناية، وما يُنقَّبُ فيه عن درايةٍ أو يقنَعُ فيه بمجَرَّدِ رِواية، ومِثْلُه ما يُزادُ حِلْمًا، ولا يُعرَفُ بمن رخَّص في حديثٍ مَوضوعٍ أو كتَمَ عِلمًا)
[140] يُنظر: ((التعريف بالمصطلح الشريف)) لابن فضل الله العمري (ص: 175). .
ومن ذلك وَصِيَّةُ أميرِ المُسلِمينَ يُوسُفَ بنِ تاشفين سُلْطانِ المَغرِبِ بولايةِ عَهْدِه لابنِه أبي الحَسَنِ على ما بيَدِه مِنَ الغَربِ والأندَلُسِ، جاء فيها: (كِتابُ تَوليةِ عَظيمٍ جَسيمٍ، وتوصيةُ حميمٍ كريمٍ، مُهِّدَتْ على الرِّضا قواعِدُه، وأُكّدَت بيَدِ التَّقْوى معاقِدُه، وأُبعِدَت عن الغَوايةِ والهَوى مصادِرُه وموارِدُه... فولَّاه على استِحكامِ بَصيرةٍ وبَعْدِ طُولِ مَشورةٍ عَهْدَه، وأفضى إليه بالأمرِ والنَّهْيِ والبَسْطِ والقَبْضِ بَعْدَه، وجعَلَه خليفتَه في رَعايا مُسنَدِه وأوطَأَ عَقِبَه جماهيرَ الرِّجالِ، وناطه بمهِمَّاتِ الأموالِ والأحوالِ، وعَهِدَ إليه أن يتَّقِيَ اللهَ ما استطاع، ولا يَعدِلَ عن سَمْتِ العَدْلِ وحُكمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ في أحَدٍ عصى أو أطاع، ولا ينامَ به عن حمايةِ مَن أسهَرَه الحَيفُ والخَوفُ والاضطِجاع، ولا يتلهَّى دونَ مُعلِنِ شَكوى، ولا يتصَمَّمَ عن مُستصرِخٍ لدِفاعِ بلوى، وأن ينتَظِمَ أقصى بلادِه وأدناها في سِلْكِ تدبيرِه، ولا يكونَ بَيْنَ القَريبِ والبَعيدِ من رعيَّتِه بونٌ في إحصائِه وتقديرِه؛ ثُمَّ دعا -أدام اللهُ تأييدَه- لِمُبايعتِه مَن دنا ونأى مِنَ المسلِمينَ، فلَبَّوا مُسرِعينَ وأتَوا مُهطِعينَ، وأعطَوا صَفْقةَ أيمانِهم مُتبرِّعينَ مُتطَوِّعينَ، وبايَعوه على السَّمْعِ والطَّاعةِ، والْتزامِ سَنَنِ الجماعةِ، وبَذْلِ النصيحةِ، وإصفاءِ النِّيَّاتِ الصَّحيحةِ، ومُوادَّةِ مَن صاحَبَه، ومحاربةِ مَن حارَبَه، ومُكايَدةِ من كايَدَه، ومعانَدةِ مَن عانَدَه، لا يدَّخِرون في ذلك على حالِ المَكْرَهِ والمَنْشَطِ مَقْدِرة، ولا يحتَجُّونَ في وَقْتَيِ السَّخَطِ والرِّضا بمَعْذِرة، ثُمَّ أمر بمخاطَبةِ أهلِ البِلادِ لتُبايِعَه كُلُّ طائِفةٍ في بَلَدِها، وتُعطِيَه كما أعطاه من حَضَر صَفقةَ يَدِها؛ حتَّى يَستويَ في التَّزامِ بَيْعَتِه القريبُ والبعيدُ، ويجتَمِعَ على الاعتِصامِ بحَبلِ دَعوتِه الغائِبُ والشَّهيدُ، وتطمَئِنَّ مِن أعلامِ النَّاسِ وخَيرِهم قُلوبٌ كانت مِن تراخي ما انتَجَز قَلِقَة، ولم تَزَلْ ببَقِيَّةِ التَّأخُّرِ أَرِقَة، ويَشمَلَ النَّاسَ السُّرورُ والاستِبشار، وتتمَكَّنَ لهم الدَّعَةُ ويتمهَّدَ القَرار، وتَنْشَأَ في الصَّلاحِ لهم آمال، ويَستقبِلَهم جِدٌّ صاعِدٌ وإقبال، واللهُ يُبارِكُ لهم فيها بَيْعةَ رِضْوان، وصَفْقةَ رُجْحان، ودعوةَ إيمان، إنَّه على ما يَشاءُ قَدير، لا إلهَ إلَّا هو نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِير)
[141] يُنظر: ((الإحاطة في أخبار غرناطة)) للسان الدين ابن الخطيب (2/369). .
ومن ذلك وَصِيَّةُ أُمامةَ بِنتِ الحارِثِ لابنَتِها عِنْدَ زواجِها؛ حَيثُ قالت لها: (أيْ بُنَيَّةُ، إنَّكِ فارَقْتِ بَيْتَكِ الَّذي منه خرَجْتِ، وعُشَّكِ الَّذي فيه درَجْتِ، إلى رَجُلٍ لم تَعْرِفيه، وقَرينٍ لم تألَفِيه؛ فكُوني له أَمَةً يَكُنْ لكِ عَبْدًا، واحفَظي له خِصالًا عَشْرًا تكُنْ لكِ ذُخْرًا: أمَّا الأُولى والثَّانيةُ: فالخُشوعُ له بالقَناعة، وحُسْنُ السَّمْعِ له والطَّاعة. وأمَّا الثَّالِثةُ والرَّابِعةُ: فالتفَقُّدُ لِمَوضِعِ عَينِه وأنْفِه، فلا تَقَعُ عَينُه منكِ على قَبيح، ولا يَشَمُّ منكِ إلَّا أطيَبَ رِيح. وأمَّا الخامِسةُ والسَّادِسةُ: فالتفَقُّدُ لوَقتِ مَنامِه وطعامِه؛ فإنَّ حرارةَ الجُوعِ مَلْهَبة، وتَنْغيصَ النَّومِ مَغْضَبة. وأمَّا السَّابِعةُ والثَّامِنةُ: فالاحتِفاظُ بمالِه والإرعاءُ على حَشَمِه وعِيالِه، ومِلاكُ الأمرِ في المالِ حُسْنُ التَّقْدير، وفي العِيالِ حُسْنُ التَّدْبير. وأمَّا التَّاسِعةُ والعاشِرةُ: فلا تَعْصِنَّ له أَمْرًا، ولا تُفْشِنَّ له سِرَّا؛ فإنَّكِ إن خالَفْتِ أمْرَه أوغَرْتِ صَدْرَه، وإن أفشَيتِ سِرَّه لم تأمَني غَدْرَه. ثُمَّ إيَّاكِ والفَرَحَ بَيْنَ يَدَيه إذا كان مُهتَمًّا، والكآبةَ بَيْنَ يَدَيه إذا كان فَرِحًا)
[142] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (7/ 90). .
وفي نصائِحِ الآباءِ لأولادِهم ألَّفَ كثيرٌ مِنَ العُلَماءِ كُتُبًا مُستقِلَّةً في ذلك، كما صنَعَ
أبو الوليدِ الباجي في رسالتِه المُسَمَّاةِ
((النَّصيحة الوَلَدِيَّة/ وَصِيَّة أبي الوَليدِ الباجي لولَدَيه))، وهي رِسالةٌ نَفيسةٌ، جاء في أوَّلِها: (يَا بَنِيَّ هداكما اللهُ وأرشَدَكما ووفَّقَكما وعصَمَكما وتفَضَّل عليكما بِخَيرِ الدُّنْيا والآخِرةِ، ووقاكما مَحْذورَهما برَحْمَتِه؛ إنَّكما لَمَّا بلَغْتُما الْحَدَّ الَّذِي قَرُبَ فِيه تعَيُّنُ الفُروضِ عليكما، وتوَّجَه التَّكْليفُ إليكما، وتحَقَّقْتُ أنَّكما قد بلغْتُما حَدَّ مَن يَفهَمُ الوَعْظَ، ويتبَيَّنُ الرُّشْدَ وَيصْلُحُ للتَّعليمِ والعِلْمِ؛ لَزِمَني أَن أقدِّمَ إليكما وَصِيَّتي وأُظْهِرَ إليكما نَصيحتي مَخافةَ أَن تختَرِمَني مَنِيَّةٌ وَلم أبلُغْ مُبَاشرةَ تَعليمِكما وتَدريبِكما وإرشادِكما وتَفْهيمكما، فإن أنسَأَ اللهُ تعالى في الأجَلِ فسيَكثُرُ النُّصحُ والتَّعْليمُ والإرشادُ والتَّفْهيمُ، وما توفيقي إلَّا باللهِ، عليه توكَّلْتُ وعليه فلْيَتَوَكَّلِ المتوَكِّلونَ، بيَدِه قُلوبُكما ونَواصيكما، وإن حالَ بيني وبَينَ ذلك ما أتوقَّعُه وأظُنُّه مِنِ اقتِرابِ الأجَلِ وانْقِطاعِ الأمَلِ، ففيما أرسُمُه مِن وَصِيَّتي وأبيِّنُه من نصيحتي ما إن عَمِلْتُما به ثَبَتُّما على مِنهاجِ السَّلَفِ الصَّالحِ وفُزْتُما بالمتْجَرِ الرَّابِحِ، ونِلْتُما خيرَ الدُّنْيا والآخِرةِ، وأستودِعُ اللهَ دينَكما ودُنياكما، وأستحفِظُه مَعاشَكما ومَعادَكما، وأفوِّضُ إليه جَميعَ أحوالِكما، وهو حَسْبي فيكما ونِعْمَ الوَكيلُ)
[143] يُنظر: ((النصيحة الولدية)) لأبي الوليد الباجي (ص: 9). .
وكما صَنَع
تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكيُّ في وَصِيَّتِه لوَلَدِه محمَّدٍ، وهي منظومةٌ نفيسةٌ نَحْوُ 60 بيتًا، جاء في مَطْلَعِها:
بُنيَّ لا تُهْمِلْ نَصيحَتي الَّتي
أوصيكَ واسْمَعْ مِن مقَالِي تَرْشُدِ
احْفَظْ كِتابَ اللهِ والسُّنَنَ الَّتي
صَحَّتْ وفِقْهَ
الشَّافِعيِّ مُحَمَّدِواعْلَمْ أُصولَ الفِقْهِ عِلْمًا مُحْكَمًا
يَهْدِيكَ لِلْبحْثِ الصَّحيحِ الأَيِّدِ
وَتَعلَّمِ النَّحْوَ الَّذي يُدْني الفَتى
مِنْ كُلِّ فَهْمٍ في القُرانِ مُسَدَّدِ
وخُذِ العُلومَ بِهِمَّةٍ وتَفَطُّنٍ
وقَريحةٍ سَمْحَاءَ ذاتِ تَوَقُّدِ
[144] يُنظر: ((وصية تقي الدين السبكي لولده محمد)) (ص: 15). رسائِلُ العيادةِ والشَّوقِ والتَّهْنِئةِ والاعتِذارِ ونَحْوِها:وهي مِنَ الرَّسائِلِ المُستطابةِ بَيْنَ الأحِبَّةِ والأصفِياءِ والأخِلَّاءِ، إذا حَبَس البُعدُ خِطابَ الكَلامِ، أو حَصَل تقصيرٌ عن القيامِ بحَقِّ الصُّحْبةِ والمحَبَّةِ وما يَليقُ بهما مِنَ الاهتمامِ والإكرامِ، وهذا النَّوعُ مِنَ الرَّسائِلِ مِن مواضِعِ الرِّقَّةِ في الكَلامِ؛ فهي غَايَةُ إيضاحِ لَطيفِ الوِجْدانِ مِنَ المتكلِّمِ، أو التَّلطُّفِ مع السَّامِعِ.
فمِن ذلك رِسالةُ أبي بكرٍ الخُوارَزميُّ لأحَدِ أصدِقائِه بلَغَه مَرَضُه: (وصل كِتابُك يا سيِّدي فسَرَّني نظري إليه، ثُمَّ غَمَّني اطِّلاعي عليه؛ لِما تضَمَّنَه مِن ذِكرِ عِلَّتِك، جَعَل اللهُ أوَّلَها كفَّارةً وآخِرَها عافيةً، ولا أعدَمَك على الأُولى أَجْرًا وعلى الأُخرى شُكرًا، وبوُدِّي لو قَرُبَ عَلَيَّ مُتناوَلُ عيادَتِك، فاحتمَلْتُ عنك بالتعَهُّدِ والمساعَدةِ بَعْضَ أعباءِ عِلَّتِك؛ فلقد خَصَّني من هذه العِلَّةِ قَسْمٌ كقَسْمِك، ومَرِضَ قَلْبي فيك لمَرَضِ جِسْمِك.. وأظُنُّ أني لو لَقِيتُك عَليلًا لانصرَفْتُ عنك وأنا أَعَلُّ منك؛ فإنِّي -بحَمْدِ اللهِ تعالى- جَلْدٌ على أوجاعِ أَعْضائي، غَيرُ جَلْدٍ على أوجاعِ أصْدِقائي. شفاك اللهُ وعافاك)
[145] يُنظر: ((جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب)) للهاشمي (1/ 147). .
ورسالةُ أبي منصورٍ الثَّعالبيِّ في الاشتياقِ: (شوقي إليك رهينُ قَلْبي وقَرينُ صَدْري، والزَّعيمُ بتَعليقِ فِكْري وتَفريقِ صَدْري، سَميرُ ذِكْري ونَديمُ فِكْري، زادي في سَفَري وعَتادي في حَضَري، لا يستَقِلُّ به ولا يَقْوى عليه صَبْري، يكادُ يكونُ لِزامًا ويُعَدُّ غَرامًا، لا يَرحَلُ مُقيمُه ولا يُصرَفُ غَريمُه، استخَفَّ نَفْسي واستفَزَّها وحَرَّك جوانِحي وهَزَّها شَوقٌ أخذَ بسَمْعِ خاطِري وبَصَرِه، وحال بَيْنَ مَورِدِ قَلْبِه ومَصْدَرِه، شوقٌ قد استنفَد جَلَدي ومَلَك خَلَدي، شَوقٌ بَراني بَرْيَ الخِلالِ، ومَحَقني مَحْقَ الهِلالِ، شَوقٌ تَرَكني حَرَضًا وأوسَعني مَضَضًا، أراني الصَّبرَ حَسْرةً والوَجْدَ يَمْنةً ويَسْرةً، شوقٌ يَزيدُ على الأيامِ تَوَقُّدًا وتأجُّجًا وتضَرُّمًا وتوَهُّجًا، نارُ الشَّوقِ حَشْوُ ضُلوعي، وماءُ الصَّبابةِ مِلءُ جُفوني، أنا من لواعِجِ الشَّوقِ بَيْنَ غمائِمَ لا تُمطِرُ إلَّا صواعِقَ وسمائِمَ، قد قدَحَت في كَبِدي مِنَ الحُرقةِ بهذه الفُرقةِ ما يفوتُ أيسَرُه حَدَّ الشِّكايةِ، ويجوزُ أضعَفُه كُنْهَ الكِنايةِ، شَوقُ الرَّوضِ الماحِلِ إلى الغَيثِ الهاطِلِ)
[146] يُنظر: ((جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب)) للهاشمي (1/ 46). .
ومِنَ الأبياتِ السَّائِرةِ في الشَّوقِ بَيتانِ للأديبِ غانِمِ بنِ الوَليدِ المَخزوميِّ، يقولُ:
ومِن عَجَبٍ أنِّي أحِنُّ إليهم
وأسألُ عنهم كُلَّ رَكبٍ وهم مَعي
فيبكي دَمًا طَرْفي وهم في سَوادِه
ويَشْكو جَوًى قَلبي وهم بَيْنَ أضْلُعي
ويُروى البَيتُ الثَّاني:
وتَطلُبُهم عَيني وهم في سَوادِها
ويَشتاقُهم قَلْبي وهم بَيْنَ أضلُعي
[147] يُنظر: ((أخبار وتراجم أندلسية)) لأبي طاهر السِّلفي (ص124)، ((الحماسة المغربية)) للجرَّاوي التادلي (2/ 1068). .