المَطْلَبُ الثَّاني: الرَّسائِلُ والمُكاتَباتُ الرَّسْميَّةُ
وهي مُكاتَباتُ الخُلَفاءِ والأُمَراءِ والوُزَراءِ ونَحْوِهم في شُؤونِ الدَّولةِ وتَسييرِ أُمورِها، كمُكاتَبةِ الخَليفةِ لأحَدِ وُلاتِه يأمُرُه أو يُوصيه بشَيءٍ، أو كِتابتِه لأحَدِ مُلوكِ أو رُؤَساءِ الدُّوَلِ المجاوِرةِ في إطارِ تَنظيمِ العَلاقاتِ أو الوَعيدِ والتَّهديدِ، وكذلك كِتابةُ العُمَّالِ إلى الخُلَفاءِ والأُمَراءِ، وكِتابةُ الأُدَباءِ والعُلَماءِ إلى الخُلَفاءِ وأصحابِ الجاهِ والسُّلْطانِ.
خصائِصُ الرَّسائِلِ الرَّسْميَّةِ:تتَّسِمُ الرَّسائِلُ الرَّسْميَّةُ ببَعضٍ مِنَ الشُّروطِ الَّتي لا بُدَّ منها في الرِّسالةِ، ومنها:
- مُراعاةُ الإطنابِ والإيجازِ والمُساواةِ حَسَبَ مُقتَضى الحالِ وحَسَبَ طبيعةِ الموضوعِ، بخِلافِ الرَّسائِلِ الأهليَّةِ الَّتي لا قُيودَ فيها. ودائِمًا ما تميلُ كُتُبُ المرؤوسينَ إلى التَّفصيلِ، وكُتُبُ الرُّؤَساءِ إلى الإيجازِ، حتَّى إنَّها تكونُ في أغلَبِ الأحوالِ توقيعًا، كما كَتَب جَعفَرٌ البَرْمكيُّ إلى أحَدِ عُمَّالِه كَثُرَت شِكايتُه: "قد كَثُر شاكوك وقَلَّ شاكِروك، فإمَّا اعتَدَلْتَ وإمَّا اعتَزَلْتَ".
- مراعاةُ الألقابِ والألفاظِ الخاصَّةِ بالمُرسَلِ إليه، فلا بُدَّ أن يُصَدِّرَ الرِّسالةَ بأنَّها إلى المَلِكِ أو السُّلطانِ أو الخَليفةِ أو نَحْوِ ذلك مِنَ الألقابِ.
- تصديرُ الرِّسالةِ ببَراعةِ الاستِهلالِ، بما يُمهِّدُ للمَوضوعِ المُرادِ.
- تنَوُّعُ العِبارةِ بَيْنَ السُّهولةِ والجَزالةِ حَسَبَ الموضوعِ والمكتوبِ إليه، وقد تكونُ مَسجوعةً مُوَشَّاةً بالبديعِ، فيها أبياتٌ مِنَ الشِّعْرِ وأمْثالٌ وحِكَمٌ، ولكِنَّها يجِبُ أن تَبرَأَ مِنَ التَّكَلُّفِ والإغرابِ.
- مراعاةُ ما يَليقُ بكلِّ واحِدٍ مِنَ الرُّؤَساءِ؛ فمُخاطبةُ الخليفةِ لا تَتَساوى مع مُخاطَبةِ مَن دونَه مِنَ الأُمَراءِ، فَضْلًا عن عامَّةِ النَّاسِ.
- مُلاحَظةُ البَدءِ والخِتامِ؛ فيَبدَأُ الرِّسالةَ بالبَسْمَلةِ أو الحَمْدِ، أو بالسَّلامِ أو بتَعظيمِ المُرسَلِ إليه، كما كانت عادةُ الأُدَباءِ في ذلك، ويختَتِمُها بالسَّلامِ أو الدُّعاءِ على ما كانوا يَفعَلون أيضًا
[148] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (6/ 263)، ((الأسلوب)) لأحمد الشايب (ص: 114). .
أمثِلةٌ للرَّسائِلِ الرَّسْميَّةِ:اختَلَفَت أنواعُ الرَّسائِلِ الرَّسْميَّةِ وَفْقًا للغَرَضِ الَّذي كُتِبَت فيه؛ فمِنها رسائِلُ التَّهْنِئةِ بالنَّصرِ أو المولودِ، ومنها رسائِلُ التَّعْزيةِ، ورسائِلُ الوصايا، ورسائِلُ الإخبارِ بأُمورِ الوِلاياتِ، ورَسائِلُ الخُلَفاءِ لرُؤَساءِ الدُّوَلِ الأُخرى، وغيرُ ذلك.
ومن أمثِلةِ ذلك ما أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكِتابتِه إلى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ؛ حَيثُ جاء في رسالتِه:
((بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، مِن مُحمَّدٍ عَبْدِ اللهِ ورَسولِه، إلى هِرَقْلَ عَظيمِ الرُّومِ، سَلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بَعْدُ: فإنِّي أدْعُوكَ بدِعايةِ الإسْلامِ، أسْلِمْ تَسْلَمْ، وأسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أجْرَك مرَّتَينِ، فإن تَوَلَّيتَ فعليك إثْمُ الأرِيسِيِّينَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] )) [149] أخرجه البخاري (2941) واللفظ له، ومسلم (1773) باختلاف يسير من حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه. .
ومِنَ الوصايا ما كَتَبه
الخليفةُ الأُمَويُّ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ إلى والي الكوفةِ: (كتبْتَ إليَّ تسأَلُني عن ناسٍ مِن أهلِ الحِيرةِ، يُسْلِمونَ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى والمجوسِ، وعليهم جِزيةٌ عَظيمةٌ، وتستأذِنُني في أخْذِ الجِزْيةِ منهم، وإنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤه بعث محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم داعيًا إلى الإسلامِ، ولم يبعَثْه جابيًا، فمَن أسلَمَ مِن أهلِ تلك المِلَلِ فعليه في مالِه الصَّدَقةُ، ولا جِزْيةَ عليه، وميراثُه لذَوِي رَحِمِه إذا كان منهم، يتوارَثون كما يتوارَثُ أهلُ الإسلامِ، وإن لم يَكُنْ له وارِثٌ فمِيراثُه في بَيتِ مالِ المُسلِمينَ الَّذي يُقسَمُ بَيْنَ المسلِمين، وما أُحدِثَ مِن حَدَثٍ ففي مالِ اللهِ الَّذي يُقسَمُ بَيْنَ المسلِمين يَعقِلُ عنه منه. والسَّلامُ)
[150] أخرجه أبو يوسف في ((الخراج)) (ص: 144). .
ومنه أيضًا أنَّ يزيدَ بنَ الوَليدِ لَمَّا بُويِعَ بالخِلافةِ تباطَأَ مَرْوانُ بنُ محمَّدٍ في البَيعةِ، فأرسلَ إليه يزيدُ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ. مِن عَبدِ اللهِ أميرِ المُؤمِنينَ يَزيدَ بنِ الوَليدِ إلى مَرْوانَ بنِ محمَّدٍ. أمَّا بَعْدُ فإنِّي أراك تُقَدِّمُ رِجْلًا وتؤخِّرُ أُخرى، فإذا أتاك كِتابي هذا فاعتَمِدْ على أيِّهما شِئْتَ. والسَّلامُ)
[151] يُنظر: ((البيان والتَّبيين)) للجاحظ (1/ 249)، ((أدب الكاتب = أدب الكتاب)) لابن قتيبة (ص: 20). .
ومنه ما كَتَبه
بديعُ الزَّمانِ الهَمَذانيُّ في تَعزيةِ رَئيسِ هَراةَ أبي عامِرٍ عَدْنانَ بنِ مُحمَّدٍ الضَّبِّيِّ:
إذا ما الدَّهْرُ جَرَّ على أُناسٍ
مَصائِبُهُ أناخَ بآخَرِينا
فقُلْ للشَّامِتينَ بِنا أفيقُوا
سيَلْقى الشَّامِتون كما لَقِينا
أحسَنُ ما في الدَّهْرِ عُمومُه بالنَّوائِبِ وخُصوصُه بالرَّغائِبِ، فهو يدعو الجَفَلَى إذا ساء ويخُصُّ بالنِّعمةِ إذا شاء، فلْيُفَكِّرِ الشَّامِتُ؛ فإن كان أفلَتَ فله أن يَشْمَتَ، ولْينظُرِ الإنسانُ في الدَّهرِ وصُروفِه والموتِ وصُنوفِه، من فاتحةِ أَمْرِه إلى خاتِمةِ عُمُرِه: هل يجِدُ لنَفْسِه أثَرًا في نَفْسِه، أم لتدبيرِه عَونًا على تَصويرِه، أم لعَمَلِه تقديمًا لأمَلِه، أم لحِيَلِه تأخيرًا لأجَلِه! كلَّا بل هو العَبدُ لم يَكُنْ شيئًا مذكورًا، خُلِقَ مَقهورًا، فهو يحيا جَبْرًا ويَهلِكُ صَبْرًا، وليتأمَّلِ المَرءُ كيف كان قَبْلًا، فإن كان العَدَمُ أصلًا والوُجودُ فَضْلًا، فلْيَعلَمِ الموتَ عَدْلًا...
والموتُ -أطال اللهُ بقاءَ مَولاي- خَطْبٌ قد عَظُم حتَّى هان، وأمرٌ قد خَشُن حتَّى لان، ولعَلَّ هذا السَّهمَ قد صار آخِرَ ما في كِنانَتِها وأزكى ما في خزانَتِها، ونحن -مَعاشِرَ التَّبَعِ- نتعَلَّمُ الأدَبَ مِن أقوالِه والجميلَ مِن أفعالِه، فلا نحُثُّه على الجميلِ وهو الصَّبرُ، ولا نُرَغِّبُه في الجَزيلِ وهو الأجْرُ؛ فبهما رأيُه
[152] يُنظر: ((جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب)) للهاشمي (1/ 154). .
ويُلحَظُ من تلك النَّماذِجِ اعتِمادُها على الإيجازِ، مع مراعاةِ الوُضوحِ وعَدَمِ التَّكَلُّفِ في العِبارةِ، وإنزالِ النَّاسِ مَنازِلَهم مِنَ الأُسلوبِ والألقابِ، والتَّقيُّدِ بآدابِ العامَّةِ مع الخاصَّةِ.