الفَصْلُ التَّاسِعُ: نماذِجُ مِن عُيونِ الخُطَبِ العَرَبيَّةِ
خُطْبةُ أبي طالِبٍ في زَواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن خَديجةَ بِنتِ خُوَيلِدٍ رَضِيَ اللهُ عنها:لمَّا أراد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يخطُبَ خَديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أخذ معه عَمَّه أبا طالِبٍ، وهو الَّذي خَطَب خُطْبةَ النِّكاحِ، فقام وقال: (الحَمْدُ للهِ الَّذي جعَلَنا مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ، وزَرْعِ إسماعيلَ، وضِئْضِئِ مَعَدٍّ، وعُنصُرِ مُضَرَ، وجعَلَنا حَضَنةَ بَيتِه، وسُوَّاسَ حِزْبِه، وجعل لنا بَيتًا محجوجًا وحَرَمًا آمِنًا، وجعَلَنا الحُكَّامَ على النَّاسِ.
ثمَّ إنَّ ابنَ أخي هذا محمَّدَ بنَ عَبدِ اللهِ لا يُوزَنُ به رجلٌ إلَّا رَجَح به؛ فإن كان في الكَمالِ قُلٌّ، فإنَّ المالَ ظِلٌّ زائِل، وأمرٌ حائِل، ومحمَّدٌ مَن قد عرَفْتُم قَرابَتَه، وقد خَطَب خَديجةَ بِنتَ خُوَيلِدٍ، وبَذَل لها مِنَ الصَّداقِ ما آجِلُه وعاجِلُه مِن مالي، وهو واللهِ بَعْدَ هذا له نَبَأٌ عَظيمٌ، وخَطَرٌ جَليلٌ)
[189] يُنظر: ((إمتاع الأسماع)) للمقريزي (6/ 29)، ((المواهب اللدنية بالمنح المحمدية)) للقسطلاني (1/ 117). .
خُطْبةُ قُسِّ بنِ ساعِدةَ:يُعَدُّ قُسُّ بنُ ساعِدةَ مِن أشهَرِ الخُطَباءِ في الجاهِليَّةِ، وقد كان يخطُبُ في النَّاسِ في سُوقِ عُكاظٍ، وكان أسقُفَ نَجرانَ، وقد أدركَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورآه في سُوقِ عُكاظٍ قَبْلَ بَعْثَتِه.
ومِن أشهَرِ خُطَبِه: (يا أيُّها النَّاسُ، اجتَمِعوا واسْمَعوا وعُوا، مَن عاشَ مات، ومَن ماتَ فات، وكُلُّ ما هو آتٍ آت.
ثُمَّ قال: أَمَّا بَعْدُ، فإنَّ في السَّماءِ لخَبَرًا، وإنَّ في الأرضِ لعِبَرًا، نجومٌ تَغور، وبِحارٌ تَمور ولا تَغور، وسَقْفٌ مَرْفوع، ومِهادٌ مَوضوع، أقسَمَ قُسٌّ قَسَمًا باللهِ وما أَثِم، لتَطلُبُنَّ مِنَ الأمْرِ شَحَطًا، ولَئِنْ كان بَعْضُ الأمرِ رِضًا إنَّ للهِ في بَعْضِه سَخَطًا، وما بهذا لَعِبًا، وإنَّ مِن وَراءِ هذا عَجَبًا.
يا مَعْشَرَ إياد، أينَ ثَمودُ وعاد؟ وأين الآباءُ والأجداد؟ أينَ المَعروفُ الَّذي لم يُشْكَرْ، والظُّلْمُ الَّذي لم يُنكَرْ؟ أقسمَ قُسٌّ قَسَمًا باللهِ وما أَثِم، إنَّ للهِ دِينًا هو أَرضى مِن دِينٍ نحن عليه، ما بالُ النَّاسِ يَذهَبونَ فلا يَرجِعون، أَنَعِمُوا فأقاموا، أو تُرِكوا فناموا؟
في الذَّاهِبينَ الأوَّليـ
ـنَ مِنَ القُرونِ لنا بَصائِرْ
لَمَّا رَأيتُ مَواردًا
للمَوتِ ليس لها مَصادِرْ
ورَأيتُ قَومي نَحْوَها
يَمضي الأصاغِرُ والأكابِرْ
لا يَرجِعُ الماضي ولا
يَنْجو مِنَ الباقينَ غابِرْ
أيقَنْتُ أنِّي لا محا
لةَ حَيثُ صار القَومُ صائِرْ
[190] أخرجه الطبراني (12/88) (12561)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (2/105) باختلاف يسير من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. ويُنظر: ((البيان والتَّبيين)) للجاحظ (1/ 253)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 215). أوَّلُ خُطْبةٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:ذكَرَت كُتُبُ السِّيرةِ أنَّ أوَّلَ خُطْبةِ جُمُعةٍ خَطَبها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المدينةِ كانت في بني سالِمِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوفٍ، وكان نصُّها:
((الحَمْدُ للهِ، أحمَدُه وأستعينُه، وأستَغْفِرُه وأستَهْديه، وأؤمِنُ به ولا أكفُرُه، وأعادي من يَكفُرُه، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمَّدًا عَبْدُه ورَسولُه، أرسَلَه بالهُدى ودينِ الحَقِّ والنُّورِ والموعِظةِ، على فَترةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وقِلَّةٍ مِنَ العِلْمِ، وضَلالةٍ مِنَ النَّاسِ، وانقِطاعٍ مِنَ الزَّمانِ، ودُنُوٍّ مِنَ السَّاعةِ، وقُربٍ مِنَ الأجَلِ.
مَن يُطِعِ اللهَ ورَسولَه فقد رَشَد، ومن يَعْصِهما فقد غَوى وفَرَّط وضَلَّ ضَلالًا بَعيدًا.
وأُوصيكم بتقوى اللهِ؛ فإنَّه خَيرُ ما أوصى به المُسلِمُ المُسلِمَ أن يَحُضَّه على الآخِرةِ، وأن يأمُرَه بتقوى اللهِ؛ فاحْذَروا ما حَذَّركم اللهُ مِن نَفْسِه، ولا أفضَلَ مِن ذلك نصيحةً ولا أفضَلَ مِن ذلك ذِكْرى، وإنَّه تقوى لِمَن عَمِلَ به على وَجَلٍ ومخافةٍ، وعَونِ صِدقٍ على ما تَبْتَغون مِن أمرِ الآخِرةِ.
ومَن يُصلِحِ الَّذي بَيْنَه وبَيْنَ اللهِ مِن أمْرِ السِّرِّ والعَلانيَةِ لا ينوي بذلك إلَّا وَجْهَ اللهِ، يَكُنْ له ذِكْرًا في عاجِلِ أمْرِه، وذُخرًا فيما بَعْدَ الموتِ؛ حينَ يفتَقِرُ المرءُ إلى ما قَدَّم، وما كان مِن سِوى ذلك يَوَدُّ لو أنَّ بَيْنَه وبَيْنَه أمَدًا بعيدًا، ويُحَذِّرُكم اللهُ نَفْسَه، واللهُ رَؤوفٌ بالعِبادِ.
والَّذي صَدَق قَولُه وأنجَزَ وَعْدَه لا خُلْفَ لذلك؛ فإنَّه يقولُ تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] .
واتَّقوا اللهَ في عاجِلِ أَمْرِكم وآجِلِه في السِّرِّ والعَلانِيَةِ؛ فإنَّه مَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عنه سيِّئاتِه ويُعْظِمْ له أجْرًا، ومَن يَتَّقِ اللهِ فقد فاز فَوزًا عظيمًا، وإنَّ تَقْوى اللهَ تُوقِي مَقْتَه، وتُوقي عُقوبتَه، وتُوقي سَخَطَه، وإنَّ تَقْوى اللهِ تُبَيِّضُ الوَجْهَ، وتُرضي الرَّبَّ، وتَرفَعُ الدَّرَجةَ.
خُذوا بحَظِّكم ولا تُفَرِّطوا في جَنْبِ اللهِ، قد علَّمَكم اللهُ كِتابَه، ونَهَج لكم سَبيلَه؛ لِيَعلَمَ الَّذين صَدَقوا وليَعلَمَ الكاذِبينَ، فأحْسِنوا كما أحسَنَ اللهُ إليكم، وعادُوا أعداءَه، وجاهِدوا في اللهِ حَقَّ جِهادِه، هو اجتباكم وسمَّاكم المُسلِمينَ؛ لِيَهلِكَ مَن هَلَك عن بَيِّنةٍ، ويَحيا مَن حَيَّ عن بيِّنةٍ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ، فأكثِروا ذِكْرَ اللهِ، واعمَلوا لِما بَعْدَ الموتِ؛ فإنَّه مَن أصلَحَ ما بَيْنَه وبَيْنَ اللهِ، يَكْفِه ما بَيْنَه وبَيْنَ النَّاسِ؛ ذلك بأنَّ اللهَ يَقْضي على النَّاسِ ولا يَقْضون عليه، ويَملِكُ مِنَ النَّاسِ ولا يَملِكون منه. اللهُ أكبَرُ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العَليِّ العَظيمِ!)) [191] أخرجه الطبري في ((التاريخ)) (2/7) ويُنظر: ((السيرة النبوية)) لابن كثير (2/ 299). .
خُطْبةُ الوداعِ:وَقَف النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على عَرَفاتٍ في حَجَّةِ الوداعِ في السَّنةِ العاشِرةِ مِنَ الهِجْرةِ، فخَطَب في النَّاسِ وهو راكِبٌ على القَصْواءِ، فقال بَعْدَ أنْ حَمِدَ اللهَ وأثْنَى عليه:
((إنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم حَرامٌ عليكم، كحُرْمةِ يَومِكم هذا، في شَهْرِكم هذا، في بَلَدِكم هذا، ألَا كُلُّ شَيءٍ مِن أمْرِ الجَاهلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوضوعٌ، ودِماءُ الجاهلِيَّةِ مَوضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِن دِمائِنا دَمُ ابنِ رَبِيعةَ بنِ الحارِثِ؛ كان مُسْتَرْضَعًا في بَني سَعدٍ فقَتَلَتْه هُذَيلٌ، ورِبَا الجاهلِيَّةِ مَوضوعٌ، وأوَّلُ رِبًا أضَعُ رِبَانا؛ رِبَا عبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ؛ فإنَّهُ مَوضوعٌ كُلُّه. فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخَذْتُمُوهنَّ بأمانِ اللهِ، واسْتَحْلَلْتُم فُروجَهنَّ بكَلِمةِ اللهِ، ولكم عَليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحَدًا تَكْرَهونَه، فإِنْ فَعَلْنَ ذلكَ فاضْرِبوهنَّ ضَرْبًا غيْرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزْقُهنَّ وكِسْوتُهنَّ بالمَعروفِ، وقَدْ ترَكْتُ فيكم ما لنْ تَضِلُّوا بَعْدَه إنِ اعتَصَمْتُم به: كِتابَ اللهِ. وأنْتُمْ تُسأَلونَ عنِّي؛ فما أنتم قائِلونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بلَّغْتَ، وأدَّيْتَ، ونصَحْتَ، فقال بإصْبَعِه السَّبَّابةِ يَرْفَعُها إلى السَّماءِ ويَنْكُتُها إلى النَّاسِ: اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ- ثَلاثَ مرَّاتٍ)) [192] أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. .
خُطْبةُ الحَجَّاجِ بنِ يُوسُفَ الثَّقَفيِّ حينَ تولَّى حُكْمَ العِراقِ:لَمَّا بَعَث عَبدُ المَلِكِ بنُ مَروانَ الحَجَّاجَ بنَ يُوسُفَ على الكوفةِ والبَصْرةِ، دخل الحَجَّاجُ المَسجِدَ وهو مُتلَثِّمٌ، وأَمَر أن يُجمَعَ له النَّاسُ، فاجتَمَعوا وقام خطيبًا في النَّاسِ، فنَزَع اللِّثامَ عن وَجْهِه، وأنشَدَ:
أنا ابنُ جَلَا وطلَّاعُ الثَّنايا
متى أضَعِ العِمامةَ تَعْرِفوني
ثمَّ قال: (يا أهْلَ الكُوفةِ، أمَا واللهِ إنِّي لأحمِلُ الشَّرَّ بِحمْلِه، وأحْذُوه بنَعْلِه، وأجْزيه بمِثْلِه، وإنِّي لأرى رُؤوسًا قد أينَعَت وحان قِطافُها، وإنِّي لَصاحِبُها، وكأنِّي أنظُرُ إلى الدِّماءِ بَيْنَ العَمائِمِ واللِّحَى، ثُمَّ قال:
هذا أوانُ الشَّدِّ فاشتَدِّي زِيَمْ
قد لَفَّها اللَّيلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ
ليس براعي إبِلٍ ولا غَنَمْ
ولا بجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمْ
إنِّي -واللهِ- يا أهْلَ العِراق، ومَعْدِنَ الشِّقاقِ والنِّفاق، ومَساوِئِ الأخلاق، ما يُقعْقَعُ لي بالشِّنانِ، ولا يُغمَزُ جانبي كتَغْمازِ التِّينِ، ولقد فُرِزْتُ عن ذَكاءٍ، وفُتِّشْتُ عن تَجْربةٍ، وإنَّ أميرَ المؤمِنينَ -أطال اللهُ بقاءَه- نَثَر كِنانَتَه بَيْنَ يَدَيه، فعَجَم عِيدانَها، فوَجَدني أمرَّها عُودًا، وأصلَبَها مَكْسِرًا، فرماكم بي؛ لأنَّكم طالَما أوضَعْتُم في الفِتنةِ، واضطجَعْتُم في مراقِدِ الضَّلالِ، واللهِ لأحزِمَنَّكم حَزْمَ السَّلَمةِ، ولأضرِبَنَّكم ضَرْبَ غرائِبِ الإبِلِ؛ فإنَّكم لكَأَهلِ قريةٍ كانت آمِنةً مُطمَئِنَّةً يأتيها رِزْقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ، فكفَرَت بأنعُمِ اللهِ فأذاقها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوفِ بما كانوا يَصْنَعون، وإنِّي واللهِ ما أقولُ إلَّا وَفَيتُ، ولا أَهُمُّ إلَّا أمضَيْتُ، ولا أخلُقُ إلَّا فَرَيتُ، فإيَّاي وهذه الشُّفَعاءَ، والزَّرافاتِ والجَماعاتِ، وقالًا وقِيلًا. وما يقولون؟ وفيمَ أنتم وذاك؟ واللهِ لتَستقيمُنَّ على طريقِ الحَقِّ، أو لأدَعَنَّ لكلِّ رَجُلٍ منكم شُغلًا في جَسَدِه.
وإنَّ أميرَ المؤمِنينَ أمَرَني بإعطائِكم أُعْطِياتِكم، وأن أوَجِّهَكم لمحارَبةِ عَدُوِّكم مع المهَلَّبِ بنِ أبي صُفْرةَ، وإنِّي أقسِمُ باللهِ لا أجِدُ رَجُلًا تخلَّفَ بَعْدَ أخْذِ عَطائِه بثلاثةِ أيَّامٍ إلَّا ضرَبْتُ عُنُقَه.
يا غُلامُ، اقرَأْ عليهم كِتابَ أميرِ المُؤمِنينَ. فقرأ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ. مِن عَبدِ اللهِ عَبدِ المَلِكِ أميرِ المؤمِنينَ إلى مَن بالكوفةِ مِنَ المُسلِمينَ، سلامٌ عليكم" فلم يَقُلْ أحَدٌ منهم شَيئًا، فقال الحَجَّاجُ: اكفُفْ يا غُلامُ، ثُمَّ أقبَل على النَّاسِ، فقال: أسَلَّمَ عليكم أميرَ المؤمِنينَ، فلم ترُدُّوا عليه شيئًا؟! هذا أدَبُ ابنِ نِهْيةَ! أمَا واللهِ لأؤدِّبَنَّكم غَيرَ هذا الأدَبِ أو لتَستقيمُنَّ. اقرَأْ يا غُلامُ كِتابَ أميرِ المُؤمِنينَ، فلمَّا بلغ إلى قَولِه: "سلامٌ عليكم" لم يَبْقَ في المسجِدِ أحَدٌ إلَّا قال: وعلى أميرِ المؤمِنينَ السَّلامُ)
[193] أخرجه الطبري في ((التاريخ)) (3/547). ويُنظر: ((الكامل في اللغة والأدب)) للمبرد (1/ 298)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 208). .