المَطلَبُ الثَّالثُ: مَعاجِمُ ألْفاظِ الحَديثِ
تأخَّر هذا النَّوعُ مِنَ المَعاجِمِ عن نَظيرِه الآخَرِ (غَريب القُرآنِ)؛ فقد نَسَب
ابنُ الأثيرِ أوَّلَ كِتابٍ أُلِّف في غَريبِ الحَديثِ إلى أبي عُبَيدةَ مَعْمَرِ بنِ المُثَنَّى (ت: 209)
[36] يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/5). ، ونسَب ابنُ النَّديمِ أوَّلَ كِتابٍ أُلِّف في غَريبِ الحَديثِ إلى أبي عَدْنانَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدِ الأعلى
[37] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 68). ، وكان مُعاصِرًا لأبي عُبَيدةَ، ومِنَ المُحْتمَلِ أنْ يَسبِقَ أحدُهما الآخَرَ في التَّأليفِ في غَريبِ الحَديثِ. ولكنِ اعْتَمد بعضُ العُلَماءِ على قولِ ابنِ النَّديمِ وقدَّمه على قولِ
ابنِ الأثيرِ؛ فذهَب إلى أنَّ أبا عَدْنانَ قد سبَق أبا عُبَيدةَ في التَّأليفِ؛ لأنَّ ابنَ النَّديمِ أقْدَمُ مِنِ
ابنِ الأثيرِ، وأقْرَبُ منه إلى عَصْرِ هؤلاء المُؤرَّخِ لهم
[38] يُنظر: ((المُعجَم العَربيُّ نشأته وتطوره)) لحسين نصار (1/42). .
وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ كِتابَ أبي عَدْنانَ لم يَصِلْنا، فإنَّ
ابنَ دَرَسْتَويهِ يَصِفُه بقَولِه: (وصَّنفه على أبوابِ السُّنَنِ والفِقْهِ، إلَّا أنَّه ليس بالكَبيرِ)
[39] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (14/392). .
وكذلك كِتابُ أبي عُبَيدةَ فُقِدَ كما فُقِدَ كَثيرٌ مِن تُراثِنا، إلَّا أنَّه دخَل في كُتُبِ الغَريبِ الَّتي أُلِّفت بعدَه، ووصَفه
ابنُ الأثيرِ في مُقدِّمتِه بقَولِه: (فقيل: إنَّ أوَّلَ مَنْ جَمَع في هذا الفَنِّ شيئًا وألَّف: أبو عُبَيدةَ مَعْمَرُ بنُ المُثنَّى التَّميميُّ؛ فجمَع مِن ألْفاظِ غَريبِ الحَديثِ والأثَرِ كِتابًا صَغيرًا ذا أوراقٍ مَعْدوداتٍ، ولم تكنْ قِلَّتُه لجَهْلِه بغيرِه مِن غَريبِ الحَديثِ، وإنَّما كان ذلك لأمْرَين؛ أحدُهما: أنَّ كلَّ مُبَتدِئٍ لشيءٍ لم يُسبَقْ إليه، ومُبْتدِعٍ لأمْرٍ لم يُتقدَّمْ فيه عليه، فإنَّه يكونُ قليلًا ثمَّ يَكْثُرُ، وصَغيرًا ثمَّ يَكبُرُ. والثَّاني: أنَّ النَّاسَ يومَئذٍ كان فيهم بَقيَّةٌ وعندَهم مَعْرِفةٌ، فلم يَكُنِ الجَهْلُ قد عَمَّ، ولا الخَطْبُ قد طَمَّ)
[40] ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/5). .
ثمَّ تَعاقَبتْ حَرَكةُ التَّأليفِ في غَريبِ الحَديثِ؛ فقد (جمَع أبو الحَسَنِ النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ المازِنيُّ كِتابًا في غَريبِ الحَديثِ أكْبَرَ مِن كِتابِ أبي عُبَيدةَ، وشرَح فيه وبسَط على صِغَرِ حَجْمِه ولُطْفِه، ثمَّ جمَع عبدُ المَلِكِ بنُ قُرَيبٍ الأصْمَعيُّ -وكان في عَصْرِ أبي عُبَيدةَ وتأخَّر عنه- كِتابًا أحْسَنَ فيه الصُّنْعَ وأجادَ، ونيَّف على كِتابِه وزادَ، وكذلك مُحمَّدُ بنُ المُسْتَنيرِ المَعْروفُ بقُطْرُبٍ، وغيرُه مِن أئِمَّةِ اللُّغةِ والفِقْهِ جمَعوا أحاديثَ تكلَّموا على لُغتِها ومَعْناها في أوراقٍ ذَواتِ عَددٍ، ولم يَكَدْ أحَدُهم يَنْفرِدُ عن غَيرِه بكَبيرِ حَديثٍ لم يَذكُرْه الآخَرُ.
واسْتمرَّتِ الحالُ إلى زَمَنِ
أبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلَّامٍ، وذلك بعد المِائَتَين، فجمَع كِتابَه المَشْهورَ في
((غَريب الحَديثِ والآثارِ)) الَّذي صار -وإنْ كان مُتأخِّرًا في الزَّمنِ- أوَّلًا في التَّقْديمِ والعِنايةِ به؛ لِما حَواه مِنَ الأحاديثِ والآثارِ الكَثيرةِ، والمَعاني اللَّطيفةِ، والفَوائِدِ الجمَّةِ، فصار هو القُدوةَ في هذا الشَّأنِ؛ فإنَّه أفْنَى فيه عُمُرَه، وأطابَ به ذِكْرَه، حتَّى قال فيما يُروى عنه: (إنِّي جمَعتُ كِتابي هذا في أرْبعينَ سَنةً، وهو كان خُلاصَةَ عُمُري). وظنَّ -رَحِمَه اللهُ- على كَثْرَةِ تَعَبِه وطُولِ نَصَبِه أنَّه قد أتَى على مُعظَمِ غَريبِ الحَديثِ وأكْثَرِ الآثارِ، وبَقِي على ذلك كِتابُه في أيدي النَّاسِ يَرجِعون إليه، ويَعْتمِدون في غَريبِ الحَديثِ عليه إلى عَصْرِ
أبي مُحمَّدٍ عبدِ اللهِ بنِ مُسلِمِ بنِ قُتَيبةَ الدِّينَوَريِّ رَحِمَه اللهُ، فصنَّف كِتابَه المَشْهورَ في غَريبِ الحَديثِ والآثارِ، حذَا فيه حَذْوَ
أبي عُبَيدٍ، ولم يُودِعْه شيئًا مِنَ الأحاديثِ المُودَعةِ في كِتابِ
أبي عُبَيدٍ إلَّا ما دَعتْ إليه حاجَةٌ مِن زِيادةِ شَرْحٍ وبَيانٍ، أوِ اسْتِدراكٍ أوِ اعْتِراضٍ، فجاء كِتابُه مِثلَ كِتابِ
أبي عُبَيدٍ أو أكْبَرَ منه.
وقد كان في زَمانِه الإمامُ إبْراهيمُ بنُ إسْحاقَ الحَربيُّ رَحِمَه اللهُ، فجمَع كِتابَه المَشْهورَ في غَريبِ الحَديثِ، وهو كِتابٌ كَبيرٌ ذو مُجلَّداتٍ عِدَّةٍ، جمَع فيه وبسَط القولَ، وشرَح واسْتَقْصى الأحاديثَ بطُرقِ أسانِيدِها، وأطالَه بذِكْرِ مُتونِها وألْفاظِها، وإن لم يَكُنْ فيها إلَّا كَلِمةٌ واحِدةٌ غَريبةٌ، فطالَ لِذلك كِتابُه فتُرِكَ وهُجِر، وإنْ كان كَثيرَ الفَوائِدِ، جَمَّ المَنافِعِ.
ثمَّ صنَّف العُلَماءُ في هذا الفَنِّ تَصانيفَ كَثيرةً؛ منْهم شَمِرُ بنُ حَمْدَوَيهِ، وأبو العبَّاسِ أحْمَدُ بنُ يَحيى اللُّغويُّ المَعْروفُ بثَعْلبٍ. و
أبو العبَّاسِ مُحمَّدُ بنُ يَزيدَ الثُّماليُّ المَعْروفُ ب
المُبَرِّدِ، وأبو بَكْرٍ مُحمَّدُ بنُ القاسِمِ الأنْباريُّ، وأحْمَدُ بنُ الحَسَنِ الكِنْدِيُّ، وأبو عُمَرَ مُحمَّدُ بنُ عبدِ الواحِدِ الزَّاهِدُ صاحِبُ ثَعْلَبٍ، وغيرُ هؤلاء مِن أئِمَّةِ اللُّغةِ والنَّحْوِ والفِقْهِ والحَديثِ، ولم يَخْلُ زَمانٌ وعَصْرٌ ممَّن جمَع في هذا الفَنِّ شيئًا)
[41] ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/5). .