المَطلَبُ الرَّابعُ: مَعاجِمُ الفِقْهِ
لمَّا نزَل الإسْلامُ كان مِنَ الطَّبيعيِّ أنْ يُحتاجَ إلى ألْفاظٍ تُعبِّرُ عن عِباداتِ الإسْلامِ وشَعائِرِه المُفْترَضةِ عليهم ممَّا لم يَكُنْ لهم بها عَهْدٌ، ولم يَكُنْ مَفَرٌّ مِن أن تكونَ تلك الألْفاظُ مَألُوفةً عند العَربِ الَّذين أُنزِل عليهم ذلك الدِّينُ؛ لِهذا اسْتَخدم القُرآنُ كَلِماتٍ عَربيَّةً قَريبةَ الصِّلةِ ممَّا أرادَه لها، حتَّى اشتَهر المَدلولُ القُرآنيُّ والشَّرعيُّ لِتلك اللَّفظةِ أكْثَرَ مِن مَدلولِها الأصْليِّ الَّذي وُضِعتْ له في أصْلِ اللُّغةِ؛ فكَلِمةُ الصَّلاةِ مَثلًا مَعْناها في اللُّغةِ الدُّعاءُ، ومنْها قولُه تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ العِبادةَ الَّتي هي أقْوالٌ وأفْعالٌ مَخْصوصةٍ، مُفْتتَحةٍ بالتَّكْبيرِ، مُخْتتَمةٍ بالتَّسْليمِ، على نَحْوٍ مَخْصوصٍ، بنِيَّةٍ مَخْصوصةٍ، والجامِعُ بَيْنَهما أنَّ تلك العِبادةَ أغْلَبُ قِوامِها الدُّعاءُ. وكذلك الصِّيامُ؛ فأصْلُه لُغةً الإمْساكُ، فاسْتَعمَلَه الإسْلامُ في الإمْساكِ عنِ الطَّعامِ والشَّرابِ والشَّهْوةِ مِنَ الفَجْرِ إلى المَغْرِبِ بنِيَّةٍ مَخْصوصةٍ.وهكذا سائِرُ الألْفاظِ والمُصْطلَحاتِ الَّتي اسْتَخدَمَها القُرآنُ والسُّنَّةُ، على أنَّ الفُقَهاءَ قد أكْثَروا مِن تَوصيفِ الأفْعالِ مِنَ المَأموراتِ والمَنْهيَّاتِ، ورمَزوا لها برُموزٍ وألْفاظٍ لُغويَّةٍ، لا غِنى لِطالِبِ العِلمِ عن تَحْديدِ مَدْلولِها، وهذا ما وُضِعتْ لأجْلِه كُتُبُ غَريبِ الفِقْهِ؛ إذ اعْتَنى الفُقَهاءُ بتلك الألْفاظِ، وحدَّدوا مَفْهومَها، وبيَّنوا اخْتِلافَ الفُقَهاءِ في تَعْريفِها، وقد كَثُرتْ تلك المُؤلَّفاتُ جِدًّا، وزاد حَجْمُها إلى أنْ صارت تُضاهي مَعاجِمَ الألْفاظِ في حَجْمِها وعَددِها
[42] يُنظر: ((المُعجَم العَربيُّ نشأته وتطوره)) لحسين نصار (1/54). .
ومِن هذه الكُتُبِ: (الزَّاهِرُ في غَريبِ ألْفاظِ الإمامِ الشَّافِعيِّ) لأبي مَنْصورٍ مُحمَّدِ بنِ أحْمَدَ الأزْهريِّ، وقدِ اعْتَمد فيه على جامِعِ
إسْماعيلَ بنِ يَحيى المُزَنيِّ، الَّذي اخْتَصره مِن مُؤلَّفاتِ الشَّافِعيِّ، ومنها كِتابُ (المُغرِب في تَرْتيبِ المُعرِب) لأبي الفَتْحِ ناصِرِ بنِ عبدِ السَّلامِ المُطَرِّزِيِّ الخُوارِزميِّ، وقد اعْتَمد فيه على ألْفاظِ كِتابِه (المُعرِب) الَّذي اعْتَمد فيه على كِتابِ الغَريبَينِ
للهَرَويِّ، والجامِعِ لشَرْحِ الرَّازيِّ، والزِّياداتِ بكَشْفِ الحَلوانيِّ، ومُخْتصَرِ
الكَرْخيِّ وغيرِها.
ومنها كِتابُ (تَهْذيبُ الأسْماءِ واللُّغاتِ) ل
أبي زَكريَّا مُحيي الدِّينِ بنِ شَرَفٍ النَّوَويِّ، وقدِ اعْتَمد فيه على مُخْتصَرِ
المُزَنيِّ، والمُهذَّبِ والتَّنْبيهِ والوَسيطِ والوَجيزِ والرَّوضةِ.
ومنْها كِتابُ (لُغات مُخْتصَرِ
ابنِ الحاجِبِ) لمُحمَّدِ بنِ عبدِ السَّلامِ الأمَويِّ المَكِّيِّ، واعْتَمد فيه على مُخْتصَرِ
ابنِ الحاجِبِ. ومنها كِتابُ (المِصْباح المُنير) لأحْمَدَ الحَمَويِّ الفَيُّوميِّ، وقدِ اعْتَمد فيه على شَرْحِ الإمامِ الرَّافِعيِّ على الوَجيزِ.
ويَشْترِكُ مُعظَمُ هذه المَعاجِمِ في الإكْثارِ مِنَ الاسْتِشهادِ بالحَديثِ، والإقْلالِ مِنَ الشِّعرِ، حتَّى أشْبَه كِتابُ المُطَرِّزِيِّ و
النَّوَويِّ خاصةً كُتُبَ غَريبِ الحَديثِ، في حينِ أكْثَرَ الأزْهَريُّ مِنَ الشَّواهِدِ جَميعِها: مِن قُرآنٍ، وحَديثٍ، وشِعرٍ، وأخْبارٍ.
ويَشْترِكُ أكْثَرُها أيضًا في العِنايةِ بأسْماءِ الفُقَهاءِ والمُحدِّثينَ والأماكِنِ الوارِدةِ في الأحاديثِ.
وتَشْترِكُ أيضًا في العِنايةِ بالألْفاظِ ذاتِ المَعاني الفِقْهيَّةِ، وعَدَمِ إيرادِ شيءٍ مِن مُشتقَّاتِها إلَّا ما يُوضِّحُ مَعْنًى، أو يَتَّصِلُ به اتِّصالًا شَديدًا، أو ما ورَد في أحاديثَ أخرى، أو كان له مَعْنًى فِقْهيٌّ أيضًا. فاشْتَدتِ الصِّلةُ بَيْنَها وبَيْنَ كُتُبِ غَريبِ الحَديثِ.
وقدِ اخْتَلفوا في طَريقةِ تَرْتيبِهم للألْفاظِ، فارْتَضى الأزْهَريُّ تَرْتيبَ كُتُبِ الشُّروحِ، فسار على الأبوابِ الفِقْهيَّةِ. أمَّا المُطَرِّزِيُّ فسار على طَريقةِ المَعاجِمِ؛ فرتَّب الألْفاظَ وَفقًا لحُروفِ الأُصولِ على الألِفْباءِ مُبْتدِئًا مِن حُروفِها؛ الأوَّلِ فالثَّاني فالأخيرِ، لكنَّه إذا عالَجَ كَلِمتَين رُباعيَّتَين أو خَمْسيَّتَين رتَّبهما بحسَبِ ثالِثِهما بعدَ اعْتِبارِ الرَّابِعِ، أمَّا
النَّوَويُّ فرتَّب الكَلِماتِ بحسَبِ حُروفِها الأُصولِ كلِّها، مُبْتدِئًا مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، إلَّا ألْفاظًا قَليلةً رتَّبها بحسَبِ حُروفِها الزَّوائِدِ؛ خَوفًا ألَّا يَسْتطيعَ الفُقَهاءُ والباحِثون الوُصولَ إليها لعَدَمِ مَعْرفتِهم حُروفَها الأُصولَ، وفعَل هذا الأمرَ أيضًا في تَرْتيبِه لأسْماءِ الأماكِنِ، أيْ: بحسَبِ الحُروفِ كلِّها.
وعدَل الأمَويُّ عن نِظامِ الحُروفِ الأُصولِ تَمامًا، ورتَّب ألْفاظَه باعْتِبارِ الحُروفِ كلِّها أُصولًا كانت أو زَوائِدَ.
وسار الفَيُّوميُّ على نِظامِ المُطَرِّزِيِّ تَقْريبًا، إلَّا أنَّه وضَع الألْفاظَ الرُّباعيَّةَ والخُماسيَّةَ معَ الألْفاظِ الثُّلاثيَّةِ الَّتي تَتَّفقُ معَ حُروفِها الأُولى، وكان حقُّه أنْ يُفرِدَ للرُّباعيِّ والخُماسيِّ مَوادَّ خاصَّةً بها
[43] يُنظر: ((المُعجَم العَربيُّ نشأته وتطوره)) لحسين نصار (1/55). .