المَبحَثُ الرَّابعُ: المُعجَمُ التَّاريخيُّ
يَتناوَلُ ذلك النَّوعُ مِنَ المَعاجِمِ التَّأصيلَ لكلِّ كَلِمةٍ مِن كَلِماتِ اللُّغةِ العَربيَّةِ، ببَيانِ أصْلِها وتاريخِ اسْتِعمالِها، وتَسْجيلِ أوَّلِ نَصٍّ ورَدتْ فيه، وما اعْتَراها مِنَ التَّغيُّراتِ، وما طَرأ عليها مِنَ الدَّلالاتِ المُختَلِفةِ معَ تَعاقُبِ الزَّمانِ، وما اقْتَحمَها مِنَ الزِّيادةِ أوِ النُّقْصانِ في مَعْناها؛ فالألْفاظُ كالبَشَرِ لها مِيلادٌ وحَياةٌ ومَوتٌ، وبَيْنَ المِيلادِ والمَوتِ مُتغيِّراتٌ وأحْداثٌ كَثيرةٌ
[59] يُنظر: ((البَحْث اللُّغويُّ عند العَرب)) لأحمد مختار عمر (ص:302). .
فهذا المُعجَمُ يُعالِجُ نَشْأةَ الألْفاظِ، وتَقْسيمَها إلى أنْواعٍ ثَلاثةٍ بحسَبِ طَبيعةِ اللُّغةِ، وهي: الألْفاظُ العَربيَّةُ في اللُّغاتِ السَّاميَّةِ، والألْفاظُ المُعَرَّبةُ مِنَ الفارِسيَّةِ أوِ اليُونانيَّةِ أوِ اللَّاتينيَّةِ وغيرِها، والألْفاظُ العَربيَّةُ الَّتي ابْتَكَرَها العَربُ ولا نَجِدُ لها نَظيرًا في السَّاميَّاتِ.
أمَّا النَّوعُ الأوَّلُ فتَنْدرِجُ تحتَه أصْنافٌ أيضًا، وهي:
- ألْفاظٌ ساميَّةٌ قَديمةٌ تَشْترِكُ فيها اللُّغاتُ السَّاميَّةُ جَميعًا أو أكْثَرُها، وهي مَوجودةٌ في اللُّغةِ العَربيَّةِ مِنَ السَّاميَّةِ الأمِّ مُباشَرةً في أغْلَبِ الأحْيانِ، ويَكمُنُ دَورُ المُعجَمِ التَّاريخيِّ في تَتبُّعِ نَظائِرِ اللَّفظِ في جَميعِ اللُّغاتِ، وبَيانِ مَعانيها فيها.
- ألْفاظٌ ساميَّةٌ غيرُ مُشْترَكةٍ في جَميعِ السَّاميَّاتِ، إنَّما وُجِدتْ في السُّريانيَّةِ والعِبْريَّةِ ثمَّ انْتَقلتْ إلى العَربيَّةِ. ويَظهَرُ أثَرُ المُعجَمِ التَّاريخيِّ هنا في تَتَبُّعِ اللُّغةِ الأصْليَّةِ للَّفظِ، والطَّريقِ الَّذي انْتَقل به إلى العَربيَّةِ، سواءٌ كان مُباشِرًا بَيْنَ اللُّغةِ المَصدَرِ واللُّغةِ العَربيَّةِ، أو عن طَريقِ لُغةٍ أخرى، سواءٌ كانت ساميَّةً أو آرِيَّةً، كما حدَث أنِ انْتَقلَتْ بعضُ الألْفاظِ السَّاميَّةِ عن طَريقِ اللُّغةِ الفارِسيَّةِ.
ويُسْتحسَنُ في هذا الصِّنفِ أيضًا تَتبُّعُ نَظائِرِه الَّتي أخَذَتْها لُغةٌ غيرُ العَربيَّةِ مِن لُغتِه؛ لنَرى الفُروقَ بَيْنَ ما اعْتَراه في العَربيَّةِ وفي غيرِها حينَ انْتَقل إليها، ويُحاوِلُ هذا المُعجَمُ أنْ يَصِلَ إلى التَّاريخِ الَّذي انْتَقل فيه هذا اللَّفظُ إلى العَربيَّةِ، والصُّوَرِ الَّتي تَشكَّلَ بها، ثمَّ يُعالِجَه كبَقيَّةِ الأنْواعِ.
ويَتَناوَلُ المُعجَمُ التَّاريخيُّ النَّوعَ الثَّانيَ مِنَ الكَلِماتِ، وهي المُعَرَّبةُ، فيُعالِجُها ببَيانِ أصْلِها، وطَريقةِ انْتِقالِها إلى العَربيَّةِ، وزَمنِ الانْتِقالِ، وصُوَرِه فيها، ونَظائِرِه الَّتي اتَّخذتْها لُغاتٌ أخرى مِنَ اللُّغةِ الأمِّ، وبَيانِ مَعْناه في تلك اللُّغاتِ، ومُقارَنةِ بعضِ تلك المَعاني ببعضٍ.
ويَقْتصِرُ الأمرُ في الألْفاظِ العَربيَّةِ الخاصَّةِ على مُحاوَلةِ مَعْرفةِ زَمنِ ظُهورِها، وعند أيِّ قَبيلةٍ، والصُّوَرِ الَّتي ظهَرتْ بها للمرَّةِ الأُولى.
ثمَّ تُعالَجُ هذه الأنْواعُ المُختَلِفةُ عِلاجًا واحِدًا؛ لأنَّها أصْبَحتْ عَربيَّةً، فيَتتبَّعُ المُعجَمُ تَطوُّرَها في المَعْنى والصُّوَرِ وفي العُصورِ المُختَلِفةِ، وربَّما في الأقاليمِ المُتنوِّعةِ حتَّى يَومِنا هذا.
فيَتجلَّى هَدَفُ هذا المُعجَمِ في:1- أنْ يُبيِّنَ كلَّ كَلِمةٍ: متى صارت عَربيَّةً؟ وكيف؟ وبأيِّ صُورةٍ؟ وبأيِّ مَدلولٍ؟ وأيُّ تَطوُّرٍ في الصُّورةِ والمَعْنى طَرأ عليها منذُ ذلك الحِينِ؟ وأيُّ اسْتِعمالاتِها هُجِر على مرِّ الزَّمانِ؟ وأيُّها لا يَزالُ باقيًا؟ وفي أيِّ اسْتِعمالٍ جَديدٍ؟ وبأيِّ كَيفيَّةٍ؟ ومتى؟
2- أنْ يُصوِّرَ هذه الحَقائِقَ بمَجْموعاتٍ مِنَ الشَّواهِدِ يَمتدُّ زَمنُها منذُ أوَّلِ مرَّةٍ ظهَرتْ فيها الكَلِمةُ إلى آخِرِ مرَّةٍ أو إلى اليومِ، فتَرِدُ الكَلِمةُ مُصوِّرةً تاريخَها ومَعانيَها.
3- أنْ يُعالِجَ أصْلَ كلِّ كَلِمةٍ على أساسِ الحَقيقةِ التَّاريخيَّةِ وَحْدَها، ووَفقًا لمَنهَجِ عِلمِ اللُّغةِ الحَديثِ ونَتائِجِه
[60] يُنظر: ((المُعجَم العَربيُّ نشأته وتطوره)) لحسين نصار (2/614). .