المَطلَبُ السَّابعُ: كُتُبُ لُغاتِ القَبائِلِ
ساعدتْ عَوامِلُ كَثيرةٌ على تَفرُّقِ العَربِ في شِبْه الجَزيرةِ؛ منها شَظَفُ العَيشِ، وقِلَّةُ الزَّرْعِ والضَّرْعِ، وجَدْبُ الأرضِ، وقِلَّةُ الماءِ، وكان لِهذا التَّفرُّقِ أثَرٌ كَبيرٌ في الحَياةِ اللُّغويَّةِ؛ إذِ اخْتَلفتْ لَهَجاتُ العَربِ اخْتِلافًا كَثيرًا؛ فاخْتَلفتْ لُغاتُ العَربِ -أي: لَهَجاتُها- في وُجوهٍ كَثيرةٍ:
أحدُها: الاخْتِلافُ فِي الحَرَكاتِ؛ كقَولِنا: "نَستَعينُ" و"نِستعينُ" بفتح النُّون وكَسْرِها. قال الفَرَّاءُ: هي مَفْتوحةٌ فِي لُغةِ قُرَيشٍ. وأسَدٌ وغيرُهم يَقولونها بكَسْرِ النُّونِ.
والوَجْهُ الآخَرُ: الاخْتِلافُ فِي الحَرَكةِ والسُّكونِ، مِثلُ قولِهم: "معَكم" و"معْكم".
ووَجْهٌ آخَرُ: وهو الاخْتِلافُ فِي إبْدالِ الحُروفِ، نَحْوُ: "أُولئك" و"أُلالِك".
ومِن ذلك: الاخْتِلافُ فِي الهَمْزِ والتَّسهيلِ، نَحْوُ: "مُسْتهزِئون" و"مُسْتهزُون".
ومنه: الاخْتِلافُ فِي التَّقْديمِ والتَّأخيرِ، نَحْوُ: "صاعِقة" و"صاقِعة".
ومنها: الاخْتِلافُ في الحَذْفِ والإثْباتِ، نَحْوُ: "اسْتَحيَيتُ" و"اسْتَحَيتُ" و"صَدَدْتُ" و"أَصْدَدْتُ".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي الحَرْفِ الصَّحيحِ يُبدَلُ حَرْفًا مُعْتلًّا، نَحْوُ: "أمَّا زيدٌ" و"أيما زيدٌ".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي فَتْحِ الألِفِ وإمالتِها فِي مِثلِ "قضَى" و"رمَى"؛ فبعضُهم يَفتَحُ فَتْحًا مَحْضًا، وبعضُهم يُميلُ.
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي الحَرْفِ السَّاكِنِ يَسْتقبِلُه مِثلُه؛ فمنْهم مَنْ يَكسِرُ الأوَّلَ، ومنْهم مَنْ يَضُمُّ، فيَقولون: "اشْترَوُا الضَّلالةَ" و"اشْترَوِا الضَّلالةَ".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي التَّذْكيرِ والتَّأنيثِ؛ فإنَّ مِنَ العَربِ مَنْ يقولُ: "هَذِهِ البَقَرُ" ومنْهم مَنْ يقولُ "هَذَا البَقَرُ" و"هذه النَّخيلُ" و"هَذَا النَّخيلُ".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي الإدْغامِ، نَحْوُ: "مُهْتَدون" و"مُهَدُّون".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي الإعْرابِ، نَحْوُ: "مَا زيدٌ قائِمًا" و"مَا زيدٌ قائِمٌ"، و"إنَّ هذين" و"إنَّ هذان".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي صُورةِ الجَمْعِ، نَحْوُ: "أَسْرى" و"أُسارى".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي التَّحْقيقِ والاخْتِلاسِ، نَحْوُ: "يَأمُرُكم" و"يأمُرْكم" و"عُفِيَ لَهُ" و"عُفْيَ لَهُ".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي إبدالِ هاءِ التَّأنيثِ تاءً ساكنةً، مِثلُ "هَذِهِ أُمَّهْ" و"هَذِهِ أمَّتْ".
ومنْها: الاخْتِلافُ فِي الزِّيادةِ، نَحْوُ: "أَنْظُرُ" و"أَنْظورُ".
ومِنَ الاخْتِلافِ: اخْتِلافُ التَّضادِّ، وذلك قولُ حِمْيَرٍ للقائِمِ: "ثِبْ"، أي: اقْعُدْ
[52] يُنظر: ((الصاحبي)) لابن فارس (ص: 25). .
ويَظهَرُ بهذا أنَّ اللَّهَجاتِ القَبليَّةَ كانت كَثيرةً ومُختَلِفةً اخْتِلافًا واضِحًا؛ لِذلك بادَر العُلَماءُ بالتَّأليفِ في هذا المَيدانِ اللُّغويِّ لأسْبابٍ عَديدةٍ؛ منها خَوفُهم على هذه اللَّهَجاتِ مِنَ الضَّياعِ، وسَببٌ آخَرُ: أنَّ هذه اللُّغاتِ لها ارْتِباطٌ بالقُرآنِ مِن جانِبٍ ما؛ فقد ورَد في الحَديثِ:
((إنَّ القُرآنَ أُنزِل على سَبْعةِ أحْرُفٍ )) [53] أخرجه البخاري (2419)، ومسلم (818) مطولاً. ؛ فقد فسَّر بعضُهم سَبْعةَ الأحْرُفِ بأنَّها لَهَجاتُ العَربِ، وإلى هذا ذهَب
أبو عُبَيدٍ وثَعْلَبٌ والأزْهَريُّ وآخَرون، واختارَه ابنُ عَطيَّةَ، وصحَّحه
البَيْهَقيُّ في
((الشُّعَب)) [54] قال البيهقيُّ في شعب الإيمان (3/ 536): والصَّحيحُ: أن يكونَ المُرادُ بالحُروفِ السَّبعةِ اللُّغاتِ السَّبعَ الَّتي هي شائِعةٌ في القُرآنِ، وإليه ذهب أبو عُبَيدٍ. . وقد رُوِي عنِ
ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قال: (نزَل القُرآنُ على سَبْعِ لُغاتٍ، منها خَمْسٌ بلُغةِ العَجُزِ مِن هَوَازِنَ)
[55] ينظر: ((فضائل القُرآن)) للقاسم بن سلام (ص: 340). ، قال
أبو عُبَيدٍ: (والعَجُزُ: سَعْدُ بنُ بَكْرٍ، وجُشَمُ بنُ بَكْرٍ، ونَصْرُ بنُ مُعاوِيةَ، وثَقيفٌ، وهؤلاء كلُّهم مِن هَوازِنَ، ويُقالُ لهم: عُليا هَوَازِنَ)
[56] ((فضائل القُرآن)) للقاسم بن سلام (ص: 340). .
وقال أبو حاتِمٍ السِّجِسْتانيُّ: نزَل بلُغةِ قُرَيشٍ وهُذَيلٍ وتَميمٍ والأزْدِ ورَبيعَةَ وهَوازِنَ وسَعْدِ بنِ بَكْرٍ. واسْتَنكَر ذلك
ابنُ قُتَيبةَ، وقال: لم يَنزِلِ القُرآنُ إلَّا بلُغةِ قُرَيشٍ، واحْتجَّ بقَولِه تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] ؛ فعلى هذا تكونُ اللُّغاتُ السَّبْعُ في بُطونِ قُرَيشٍ. وبِذلك جزَم أبو عليٍّ الأهْوازيُّ
[57] يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (1/169). .
وأوَّلُ مَنْ يُنسَبُ إليه كِتابٌ في لُغاتِ القَبائِلِ يُونُسُ بنُ حَبيبٍ، ثمَّ تَوالتْ بعدَه حَرَكةُ التَّأليفِ في هذا النَّوعِ؛ فألَّف فيه بعدَه أبو عُمَرَ إسْحاقُ بنُ مِرارٍ الشَّيْبانيُّ صاحِبُ كِتابِ (الجِيم). وألَّف في اللُّغاتِ أيضًا الفَرَّاءُ، وأبو عُبَيدةَ، والأصْمَعيُّ، وأبو زيدٍ الأنْصاريُّ، وعَمْرُو بنُ أبي عُمَرَ الشَّيبانيُّ، وعَزيزُ بنُ الفَضْلِ الهُذَليُّ، ولم تَصِلْ إلينا كُتُبُهم جَميعًا.
ويَدخُلُ في كُتُبِ اللُّغاتِ أيضًا كَثيرٌ مِنَ الأبْوابِ والأجْزاءِ مِن كِتابِ
((إصْلاح المَنْطِقِ)) لابنِ السِّكِّيتِ. وكذلك بعضُ الأبْوابِ الَّتي جاءتْ في
((أدَب الكاتِبِ)) ل
ابنِ قُتَيبةَ، و
((فَصيح ثَعْلَبٍ))، وكَثيرٌ مِنَ المَعاجِمِ اللُّغويَّةِ الَّتي اهتمَّتْ بلُغاتِ القَبائِلِ، مِثلُ
((المُخَصَّص)) ل
ابنِ سِيدَه، و
((جَمْهَرَة اللُّغةِ)) ل
ابنِ دُرَيدٍ [58] يُنظر: ((المُعجَم العَربيُّ نشأته وتطوره)) لحسين نصار (1/63). .