المَطلَبُ السَّادسُ: المَعاجِمُ العَربيَّةُ الخاصَّةُ بالألْفاظِ الدَّخيلَةِ
اهتمَّ العُلَماءُ بالألْفاظِ المُعَرَّبةِ والدَّخيلَةِ اهْتِمامًا شَديدًا، وزاد اهْتِمامُهم بها حينَ تَطرَّقوا إلى مَسألَةٍ لها عَلاقةٌ بالقُرآنِ، وهي: هل وقَع في القُرآنِ شيءٌ مِنَ الكَلامِ الأعْجَميِّ؟
[44] اخْتَلف العُلَماءُ: هل يمكِنُ أن يقالَ: في القُرآنِ شَيءٌ غيرُ عربيٍّ. فذهب بعضُهم إلى أنَّ القُرآنَ لم يقَعْ فيه شيءٌ غيرُ عربيٍّ؛ قال أبو عُبَيدةَ: (من زعم أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَلسُنًا سوى الْعَرَبيَّةِ فقد أعظم على اللهِ القَولَ)، واحتجَّ بقَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف: 2] . وذهب بعضُهم إلى أنَّ القُرآنَ فيه كَلِماتٌ أعجميَّةٌ، مِثْلُ: (سِجِّيل) و(المِشْكاة) و(اليَم) و(إستَبْرَق) ونحو ذلك، ويُنسَبُ هذا القولُ لابنِ عَبَّاسٍ، ومجاهِدٍ، وعِكْرِمةَ. قال أبو مَيْسرةَ: (في القُرآنِ مِن كُلِّ لِسانٍ)، ورُوِيَ مِثْلُه عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، ووَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ. وبعضُهم حاول أن يجمَعَ بَيْنَ القولَينِ، ويقِفَ مَوقِفًا وسَطًا بَيْنَ الفريقَينِ، وهو أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ، فذهب إلى أنَّ الكَلِماتِ المُعَرَّبةَ الَّتي وقعت في القُرآنِ أصْلُها أعجميٌّ، فلمَّا دخلت في كَلامِ العَربِ واستعملوها صارت عربيَّةً، فهي أعجمِيَّةٌ باعتبارِ الأصلِ، وعربيَّةٌ باعتبارِ الاسْتِعمالِ؛ فقد قال: (والصَّوابُ عندي مذهَبٌ فيه تصديقُ القَولَينِ جميعًا؛ وذلك أنَّ هذه الأحرُفَ أصولُها أعجميَّةٌ، كما قال الفُقَهاءُ، لكِنَّها وقعت للعَرَبِ فعَرَّبَتْها بألسِنَتِها وحوَّلَتْها عن ألْفاظِ العَجَمِ إلى ألْفاظِها؛ فصارت عربيَّةً، ثمَّ نزل القُرآنُ وقد اختلطت هذه الحُروفُ بكَلامِ العَربِ؛ فمن قال: إنَّها عربيَّةٌ، فهو صادِقٌ، ومن قال: أعجميَّةٌ، فصادِقٌ)، ومال إلى هذا القَولِ الجَواليقيُّ، وابنُ الجَوزيِّ، وآخرون. يُنظر: ((غريب القُرآن)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (4/242)، ((الإتقان)) للسيوطي (2/126 - 129). فاشْتَدَّتْ عِنايتُهم بالمُعَرَّبِ والدَّخيلِ، وأفْرَدوا مُؤلَّفاتٍ كَثيرةً تَحدَّثتْ عنه.
واخْتَلف تَفْسيرُهم للمُعَرَّبِ والدَّخيلِ؛ فمنْهم مَنْ ذهَب إلى أنَّ المُعَرَّبَ والدَّخيلَ واحِدٌ، ومنْهم
السُّيوطيُّ؛ فقد قال في مُزْهِرِه: (ويُطلَقُ على المُعَرَّبِ دَخيلٌ، وكَثيرًا ما يَقعُ ذلك في كِتابِ العَينِ والجَمْهَرَةِ وغَيرِهما)
[45] ((المزهر)) للسيوطي (1/212). ، وبعضُهم فرَّق بَيْنَ الدَّخيلِ والمُعَرَّبِ؛ قال
أبو حَيَّانَ: (والأسْماءُ الأعْجَميَّةُ على ثَلاثةِ أقْسامٍ: قِسْمٌ غيَّرَتْه العَربُ وألْحَقتْه بكَلامِها؛ فحُكْمُ أبْنِيَتِه في اعْتِبارِ الأصْليِّ والزَّائِدِ والوَزْنِ حُكْمُ أبْنِيةِ الأسْماءِ العَربيَّةِ الوَضْعِ، نَحْوُ: دِرْهَم وبَهْرَج، وهو الجَديرُ باسمِ المُعَرَّبِ، وقِسْمٌ غيَّرتْه ولم تُلْحِقْه بأبْنِيةِ كَلامِها، ولا يُعتَبَرُ فيه ما يُعْتَبَرُ في القِسْمِ الَّذي قبلَه، نَحْوُ: آجُرٍّ، وإبْرِيسَم. وقِسْمٌ تَرَكوه على حالِه غيرَ مُغيَّرٍ، فما لم يُلْحِقوه بأبْنِيةِ كَلامِها لم يُعَدَّ منها، وهو الجَديرُ باسمِ الدَّخيلِ
[46] ((ارتشاف الضَّرَب)) لأبي حيان الأندلسي (1/146). .
فالمعرب هو: الَّذي دخَل في كَلامِ العَربِ مِنَ الكَلامِ الأعْجَميِّ، وجَرتْ عليه قَواعِدُهم ونُظُمُهم.
والدخيل هو: ما دخَل في كَلامِ العَربِ مِنَ الكَلامِ الأعْجَميِّ، ولم تَجْرِ عليه قَواعِدُهم، بل تُرِك كما هو.
وقد طالَتْ حَرَكةُ التَّأليفِ في المُعَرَّبِ والدَّخيلِ، إلَّا أنَّها لم تَفِدْ بمُؤلَّفٍ في بِدايةِ الأمرِ، فقد بدأتْ في أحْضانِ المَعاجِمِ العَربيَّةِ، فقد عُنِي الخَليلُ في مُعجَمِه (العَين) ببعضِ هذه الألْفاظِ، وأتى بعدَه
أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلَّامٍ، الَّذي أفْرَد له بعضَ الفُصولِ في كِتابِه (الغَريب المُصنَّف)، ثمَّ أفْرَد
ابنُ قُتَيبةَ فَصْلًا مِن كِتابِه (أدَب الكاتِبِ) لِما تَكلَّم به العامَّةُ مِنَ الكَلامِ الأعْجَميِّ
[47] يُنظر: ((أدب الكاتب)) لابن قتيبة (ص: 495). ، وكان في الأبْوابِ الَّتي ألْحَقها
ابنُ دُرَيدٍ بآخِرِ
((جَمْهَرَتِه)) بابًا لِما تَكلَّم به العَربُ مِن كَلامِ العَجَمِ حتَّى صار كاللُّغةِ
[48] يُنظر: ((جمهرة اللُّغة)) لابن دريد (3/1322). . وأتى بعدَهم
ابنُ سِيدَه، فأفْرَد للمُعَرَّبِ بابًا في مُعجَمِه (المُخصَّص)
[49] يُنظر: ((المخصص)) لابن سِيدَه (4/221). .
ولم يُؤلَّفْ كِتابٌ خاصٌّ بالكَلامِ المُعَرَّبِ إلَّا في القَرْنِ السَّادسِ؛ فقد ألَّف
الجَوالِيقيُّ كِتابَه (المُعَرَّب مِنَ الكَلامِ الأعْجَميِّ)، وهذا الكِتابُ جمَع الكَلِماتِ المُعَرَّبةَ الَّتي اسْتُخدِمتْ في القُرآنِ، وفي أحاديثِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي كَلامِ العَربِ، ورتَّبها تَرْتيبًا أبْجَديًّا.
ولمَّا أرادَ
الجَوالِيقيُّ أنْ يُرتِّبَها وجَد أنَّ تَرْتيبَ الألْفاظِ المُعَرَّبةِ باعْتِبارِ حُروفِها الأُصولِ أمرٌ غيرُ مَقْبولٍ؛ فهذه الألْفاظُ غيرُ عَربيَّةٍ، وإجْراؤُها على المَنهَجِ الصَّرفيِّ للُّغةِ العَربيَّةِ نَوعٌ مِنَ التَّعسُّفِ غيرُ مَقْبولٍ؛ لذلك رتَّبها تَرْتيبًا تُراعَى فيه كلُّ حُروفِ الكَلِمةِ.
وهذه المَعاجِمُ تَخْتلِفُ اخْتِلافًا كَبيرًا عن مَعاجِمِ الألْفاظِ العامَّةِ؛ فإنَّ مَعاجِمَ الألْفاظِ الغايةُ منها شُمولُ كلِّ ما وَصَل إليْنا مِنَ اللُّغةِ، أمَّا هذه المَعاجِمُ فليس الهَدَفُ منها شُمولَ ألْفاظِ اللُّغةِ، بل تَتَناوَلُ مَجْموعةً مُحدَّدةً مِنَ الألْفاظِ تَبحَثُ فيها، وتَخْتلِفُ باخْتِلافِ مَوضوعِ البَحْثِ
[50] يُنظر: ((علم اللُّغة العَربيَّة)) لمحمود فهمي حجازي (ص:111). .
ثمَّ اتَّسَعتْ بعدَ
الجَوالِيقيِّ حَرَكةُ التَّأليفِ في الكَلامِ المُعَرَّبِ؛ فألَّف عبدُ اللهِ بنُ مُحمَّدٍ العُذْريُّ المَعْروفُ بالبِشْبِيشيِّ كِتابَ (التَّذْييل والتَّكْميل لِما اسْتُعمِل مِنَ اللَّفظِ الدَّخيلِ)، وألفَّ أحْمَد كَمال باشا رِسالةً في تَعْريبِ الألْفاظِ الفارِسيَّةِ، وألَّف شِهابُ الدِّينِ أحْمَدُ بنُ مُحمَّدٍ الخَفاجيُّ كِتابَ (شَفاءُ الغليلِ فيما في كَلامِ العرَبِ من الدَّخيل)
ويَتَّفقُ هؤلاء المُؤلِّفون جَميعًا في بعضِ الظَّواهِرِ العامَّةِ، والَّتي أهمُّها أنَّهم يَحكُمون على المُعَرَّبِ مُعْتمِدين على اللُّغويِّين القُدَماءِ الَّذين كانوا يَحْكُمون على الألْفاظِ بالسَّماعِ في أغْلَبِ الأحْيانِ.
واخْتَلف تَرْتيبُهم لِهذه الكُتُبِ؛ فارْتَضَى ابنُ كَمال باشا أنْ يَجعَلَ كِتابَه أرْبَعةَ أقْسامٍ: المُعَرَّبُ الَّذي غُيِّر وأُلْحِقَ بأبْنِيةِ العَربِ، وما لم يُغيَّرْ ولم يُلحَقْ بها، وما غُيِّرَ ولم يُلحَقْ. ولم يُرتِّبِ الكَلِماتِ في داخِلِ هذه الأبْوابِ.
ورتَّب الخَفاجيُّ مُفرداتِ كِتابِه بحسَبِ حَرْفِها الأوَّلِ وحْدَه. ورتَّب العُذْريُّ والمَدَنيُّ بحسَبِ حُروفِها كلِّها، ولكنَّ العُذْريَّ خالَف نِظامَه في اسمِ الجَلالةِ (الله)، وقدَّمه في صَدرِ كِتابِه.
واخْتَلفوا في تَناوُلِهم للمُوَلَّدِ، فلم يُعْنَ به
الجَوالِيقيُّ وابنُ كَمال باشا، وخفَّف منه العُذْريُّ والمَدَنيُّ، وأكْثَرَ منه الخَفاجيُّ
[51] يُنظر: ((المُعجَم العَربيُّ نشأته وتطوره)) لحسين نصار (1/669). .