الفَصلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَبُو حَيَّانَ الأندَلُسِيُّ (ت: 745 هـ)
أَبُو حَيَّانَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ بنِ عَلِيِّ بنِ يُوسُفَ بنِ حَيَّان الغَرنَاطِيُّ الأندَلُسِيُّ، أَثِيرُ الدِّين، الإِمَامُ، العَلَّامةُ، في عِلْم القُرْآنِ، والحَدِيثِ والعَرَبِيَّةِ، واللُّغَةِ والأَدَبِ، والتَّارِيخِ.
مَوْلِدُه:وُلِد سَنةَ أربَعٍ وخمسين وسِتِّ مِائةٍ.
مِن مَشَايِخِه:أبو علي الشلوبين، وابن الصائغ، وبهاء الدين ابن النحاس، وعَبدُ الحَقِّ بنِ عَلِيٍّ، وأبو جَعْفَرِ بنِ الطَّبَّاعِ، وأبو عَلِيِّ بنِ أبي الأَحْوَصِ، وعبد النَّصِيرِ بن عَلِي المَرْيُوطِي، وعبدِ الوَهَّابِ بنِ الفُراتِ، ومُحَمَّدِ بنِ الدَّهَّان.
ومِن تَلَامِذَتِه:الكَمَالُ الأدْفوِيُّ، و
تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِي، و
تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ، و
ابنُ سَيِّد النَّاسِ، و
ابنُ عَقيلٍ، والسَّمينُ الحَلبيُّ، وناظِرُ الجَيشِ.
عَقيدتُه:إنَّ المُطَّلِعَ على مُؤَلَّفاتِ أبي حيَّانَ يرى أنَّه تأثَّر كثيرًا بأقوالِ المتكَلِّمينَ، خاصَّةً
الأشعَريَّةً؛ حيث وافق أقوالَهم في كثيرٍ من المسائِلِ والتأويلاتِ التي خَرَجوا فيها عن ظاهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وربَّما نصر في هذا قولَ
المعتَزِلةِ أيضًا، وإن كان ينفي عن نَفْسِه الانتِسابَ إلَّا إلى أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، يدُلُّ على ذلك قَولُه في تَفسيرِ قولِه تعالى:
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [غافر: 17] : (قال ابنُ عَطيَّةَ: وهذه الآيةُ نَصٌّ في أنَّ الثَّوابَ والعِقابِ مُعَلَّقٌ باكتِسابِ العَبدِ. انتهى. وهو على طريقةِ
الأشعَريَّةِ)
[628] ينظر: ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان (9/ 246). .
فمن مخالفَتِه لمُعتَقَدِ أهلِ السُّنَّةِ قَولُه:
((والإتيانُ: حقيقةٌ في الانتقالِ من حَيِّزٍ إلى حَيِّزٍ، وذلك مُستحيلٌ بالنِّسبةِ إلى اللهِ تعالى؛ فروى أبو صالحٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ: إنَّ هذا من المكتومِ الذي لا يُفَسَّرُ. ولم يَزَلِ السَّلَفُ في هذا وأمثالِه يُؤمِنون، ويَكِلُون فَهْمَ معناه إلى عِلمِ المتكَلِّمِ به، وهو اللهُ تعالى.
والمتأخِّرون تأوَّلوا الإتيانَ وإسنادَه على وُجوهٍ:
أحَدُها: أنَّه إتيانٌ على ما يَليقُ باللهِ تعالى مِن غَيرِ انتِقالٍ.
الثَّاني: أنَّه عَبَّرَ به عن المجازاةِ لهم والانتِقامِ، كما قال: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل: 26] ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] .
الثَّالِثُ: أن يكونَ مُتعَلِّقُ الإتيانِ محذوفًا، أي: أن يأتيَهم اللهُ بما وعَدَهم من الثَّوابِ والعِقابِ. قاله الزَّجَّاجُ.
الرَّابعُ: أنَّه على حَذفِ مُضافٍ، التَّقديرُ: أمْرُ اللهِ، بمعنى: ما يفعَلُه اللهُ بهم، لا الأمرُ الذي مقابِلُه النَّهيُ، ويُبَيِّنُه قَولُه بَعْدُ: وقُضِيَ الأمرُ.
الخامِسُ: قُدرتُه، ذكره القاضي أبو يعَلْى عن أحمَدَ ...)) [629] ينظر: ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان (2/ 343). .
وقال في تَفسيرِ قَولِه تعالى:
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] :
((مُعتَقَدُ أهلِ الحَقِّ أنَّ اللهَ تعالى ليس بجِسمٍ ولا جارِحةَ له، ولا يُشَبَّه بشَيءٍ من خَلْقِه، ولا يُكيَّفُ ولا يتحَيَّزُ، ولا تَحُلُّه الحوادِثُ، وكُلُّ هذا مُقَرَّرٌ في عِلمِ أُصولِ الدِّينِ. والجُمهورُ على أنَّ هذا استعارةٌ عن جُودِه وإنعامِه السَّابِغِ، وأضاف ذلك إلى اليَدينِ جاريًا على طَريقةِ العَرَبِ في قَولِهم: فلانٌ يُنفِقُ بكِلْتا يَدَيه
قال الزَّمخشريُّ: ومَن لم يَنظُرْ في عِلمِ البيانِ عَمِيَ عن تبَصُّرِ محَجَّةِ الصَّوابِ في تأويلِ أمثالِ هذه الآيةِ، ولم يتخَلَّصْ مِن يَدِ الطَّاعِنِ إذا عبَثَتَ به، ثمَّ قال: فإنْ قُلْتَ: لمَ ثُنِّيَت اليَدُ في بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وهي مُفرَدةٌ في يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ؟ قُلتُ: ليكونَ رَدُّ قولِهم وإنكارُه أبلغَ وأدلَّ على إثباتِ غايةِ السَّخاءِ له ونَفْيِ البُخلِ عنه، وذلك أنَّ غايةَ ما يَبذُلُه السَّخيُّ بمالِه من نَفْسِه، وأن يُعطِيَه بيَدَيه جميعًا، فبُنيَ المجازُ على ذلك. انتهى. وكلامُه في غايةِ الحُسْنِ.
وقيلَ عن ابنِ عَبَّاسٍ: يداه: نِعْمتاه، فقيل: هما مجازانِ عن نِعْمةِ الدِّينِ ونِعمةِ الدُّنيا، أو نِعمةِ سلامةِ الأعضاءِ والحواسِّ ونِعمةِ الرِّزقِ والكِفايةِ، أو الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، أو نِعْمةِ المَطَرِ ونِعْمةِ النَّباتِ.
وما ورد ممَّا يُوهِمُ التجسيمَ كهذا وقَولِه: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ومِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس: 71] ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ، ووَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] وتَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] وهَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ونحوِها؛ فجُمهورُ الأمَّةِ أنَّها تُفسَّرُ على قوانينِ اللُّغةِ ومجازِ الاستِعارةِ، وغيرِ ذلك مِن أفانينِ الكَلامِ)) [630] ينظر: ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان (4/ 315). .
وقال:
((وأمَّا استِواؤه على العَرْشِ فحَمَلَهُ على ظاهِرِه مِنَ الاستِقرارِ بذاتِه على العَرْشِ قَومٌ، والجُمهورُ مِنَ السَّلَفِ: السُّفيانانِ، ومالِكٌ، والأوزاعيُّ، واللَّيثُ، وابنُ المبارَكِ، وغَيرُهم، في أحاديثِ الصِّفاتِ على الإيمانِ بها وإمرارِها على ما أراد اللهُ تعالى من غَيرِ تَعيينِ مُرادٍ، وقومٌ تأوَّلوا ذلك على عِدَّةِ تأويلاتٍ. وقال سُفيانُ الثَّوريُّ: فَعَل فِعْلًا في العَرْشِ سمَّاه استواءً)) [631] ينظر: ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان (5/ 65). .
ففي تلك الأمثِلةِ جَعَل مَذهَبَ السَّلَفِ فيها التَّفويضَ في المعاني، وهو غيرُ صَحيحٍ.
وقال أيضًا:
((ووَصْفُ اللهِ تعالى بالرَّحمةِ مجازٌ عن إنعامِه على عبادِه، ألَا ترى أنَّ المَلِكَ إذا عَطَف على رَعِيَّتِه ورَقَّ لهم، أصابهم إحسانُه؟! فتكونُ الرَّحمةُ إذ ذاك صِفةَ فِعلٍ. وقال قَومٌ: هي إرادةُ الخَيرِ لِمن أراد اللهُ تعالى به ذلك، فتكونُ على هذا صِفةَ ذاتٍ)) [632] ينظر: ((البحر المحيط في التفسير)) لأبي حيان (1/ 31). .
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:كان أَبُو حَيَّانَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ بارعًا في عِلم العَرَبِيَّة، وصَنَّف فيها التَّصَانِيفَ العَدِيدَةَ، وقَرَأ عليه أكَابِرُ أَهْلِ العِلْم، وطَالَ عُمْرُه وبَعُد صِيتُه، ودرَّس في التَّفْسِير بالجَامِع الطُّولوني.
وكان عَالِيَ الهِمَّة، نَافِذَ الكَلِمَة، كَثِيرَ البَذْلِ والجُود للطَّلَبَة، له إقْبَال على أَذْكِيَاء الطَّلَبَة يُعَظِّمُهم ويُنَوِّه بَقَدْرِهم، وكان كَثِيرَ النَّظْم مِن الأَشْعَار والمُوشَّحَات، ثَبْتًا فيما يَنْقُلُه، عَارِفًا باللُّغَة، وأمَّا النَّحْوُ والتَّصْرِيفُ فهو الإِمَامُ المُطْلَقُ فيهما؛ خَدَم هَذا الفَنَّ أَكْثَرَ عُمُرِه، وله اليَدُ الطُّولَى في التَّفْسِيرِ والحَدِيث، وتَرَاجِم النَّاس، ومَعْرِفَةِ طَبَقَاتِهم خُصُوصًا المَغَارِبَة.
وكان له بِرٌّ كَثِير وإحْسَان، وصَدَقَات جَمَّة، وقِيَامٌ مع مَن يَقْصِدُه وإن لم يَعْرِفْه، ورَدْعٌ لأَهْل الفَسَاد، وكان مع إحْسَانِه ومَكَارِمِه بَخِيلًا على الطَّعَامِ جِدًّا، حتى كان يقولُ: (إذا رأيتُ شَخْصًا أَمْعَن في طَعَامِي أظنُّ أنَّه يَضْرِب بَطْنِي بسِكِّين!).
وَكَانَ يعَظِّمُ
شَيخَ الإسلامِ ابنَ تَيْمِية رحمه الله ومَدَحَه بقَصِيدَة، ثمَّ وَقع بَينه وَبَينه مَسْأَلَة نَقَل فِيهَا أَبُو حَيَّان شَيْئا عَن
سِيبَوَيْه، فَقَالَ
ابْنُ تَيْمِيَّةَ: (و
سيبويه كَانَ نَبِيَّ النَّحْو! لقد أَخطَأ
سِيبَوَيْه فِي ثَلَاثِينَ موضعًا من كِتَابه؛ لا تَعْرِفُها أَنْتَ ولَا هُو)، فَأَعْرَضَ عَنهُ ورماه فِي تَفْسِيره النَّهر -وهو مختَصَر البَحْر المُحِيط- بِكُل سُوءٍ! وبعد ما كان يقولُ الشِّعْرَ في مَدْحِه أَصْبَح يَنْظِمُ الشِّعْرَ في ذَمِّه والطَّعْنِ فيه! وفي تفسيره (النَّهْر المَاد) نَسَب
شَيْخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ إلى التَّجْسِيمِ.
وكان ظَاهِريَّ المَذْهَبِ مُتَعَصِّبًا لأبي
محمَّدٍ عَلِيِّ بنِ أحمَدَ بنِ سَعِيدِ بنِ حَزْمٍ، مَائِلًا إلى مَذْهَبِ
الإمامِ الشَّافِعِيِّ.
ومِن شِعْرِه:عِدَاي لَهُم فَضْلٌ عَليَّ وَمِنَّةٌ
فَلَا أَذْهَب الرَّحْمَنُ عَنِّي الأَعَادِيَا
هُمْ بَحَثُوا عَن زَلَّتِي فَاجْتَنَبْتُهَا
وهُمْ نَافَسُونِي فَاكْتَسَبْتُ المَعَالِيا
مُصَنَّفَاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((البحر المحيط)) في التفسير، وكتاب: ((النَّهْر الماد)) -اختصار للبحر المحيط-، وكتاب: ((تحفة الأريب بِمَا فِي القُرْآن من الغَرِيب))، وكتاب: ((التذييل والتكميل فِي شرح التسهيل))، وكتاب: ((ارتشاف الضرب)) ومختصره؛ قيل: إنه لم يُؤَلَّف فِي العَرَبيَّة أَعَظْمُ منهما وَلَا أجمع، وَلَا أحْصَى للخَلِاف والأَحْوَال، وكتاب: ((المُبْدع فِي التصريف))، وكتاب: ((غَايَة الإِحْسَان فِي النَّحْو))، وكتاب: ((شَرْح الشَّذا فِي مَسْأَلَة كَذَا))، وكتاب: ((الْحُلَل الحالية فِي أَسَانِيد القُرْآن العَالِيَة)).
وفاتُه:تُوفِّي سَنةَ خمسٍ وأربعين وسَبْعِ مِائةٍ
[633] يُنظَر: ((فوات الوفيات)) لمحمد بن شاكر (4/ 71)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (5/ 175)، ((المقفى الكبير)) لتقي الدين المقريزي (7/ 271)، ((الدرر الكامنة)) لابن حجر (6/ 58)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (1/ 280)، ((الأعلام)) للزركلي (7/ 152). .