المَبحَثُ الرَّابعُ: منهَجُ ابنِ جِنِّي في كتابِه
قسَّم
ابنُ جِنِّي كتابَه إلى مُقَدِّمةٍ، وأبوابٍ، وخاتمةٍ:
تمثَّلت المُقَدِّمةُ في: تمهيدٍ، ذكَر فيه حديثًا عن أسماءِ الحروفِ ومخارِجِها؛ فهي مُقَدِّمةٌ تنتمي لعِلمِ الأصواتِ
[381] يُنظر: ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (1/ 83). ، وتنُمُّ عن عُلوِّ كَعبِه في عِلمِ الأصواتِ؛ يقولُ الدُّكتور كمال بِشر: (أمَّا وَصفُ
ابنِ جِنِّي للمخارجِ بالصُّورةِ التي سجَّلها في كتابِه وترتيبُه لهذه المخارجِ، فهو يدُلُّ على قوَّةِ ملاحظتِه وذكائِه النَّادِرِ)
[382] يُنظر: ((علم الأصوات)) لكمال بشر (ص: 95). .
ثمَّ تأتي أبوابُ الكتابِ مُرَتَّبةً على حروفِ المعجَمِ لا على ترتيبِ المخارجِ، وهو التَّرتيبُ الذي اتَّبَعه الخليلُ والأزهريُّ في مُعجَمَيهما، ومن ثَمَّ يبدأُ ببابِ الهمزةِ، ويختِمُ ببابِ الياءِ، وهو التَّرتيبُ الذي كان مشهورًا في عصرِه، وهو الذي أمَر به الرَّجُلُ الذي وضَع
ابنُ جِنِّي الكتابَ بناءً على توجيهاتِه؛ يقولُ: (وأقرُّوا ذلك شيئًا فشيئًا على تأليفِ حروفِ المعجَمِ، دونَ مدارجِ الحروفِ، كما آثَرتَ، وبه أمرْتَ، وسأتجشَّمُ لطاعتِك المضَضَ، بانكشافِ أسرارِ هذا العِلمِ)
[383] ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (1/ 18). .
وفي كُلِّ حرفٍ من الحروفِ يذكُرُ أوَّلًا صفتَه من حيثُ الجهرُ والهمسُ، ثمَّ يذكُرُ كيفيَّةَ مجيئِه في الكَلِمِ من حيثُ الأصالةُ والزِّيادةُ والإبدالُ، فيبدأُ بالحديثِ عن أصالةِ الحرفِ، ويضرِبُ لوقوعِه فاءً وعينًا ولامًا مثالينِ؛ اسمًا وفعلًا، إلَّا بابَ الهمزةِ، زاد عن المثالينِ، ثمَّ يتحدَّثُ عن إبدالِه، ثمَّ عن زيادتِه؛ فمثلًا يقولُ في بابِ الهمزةِ: (اعلَمْ أنَّ الهمزةَ حرفٌ مجهورٌ، وهو في الكلامِ على ثلاثةِ أضرُبٍ: أصلٍ، وبدَلٍ، وزوائِدَ)
[384] ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (1/ 59). ، ثمَّ يتحدَّثُ عن أحوالِ الهمزةِ في كُلِّ نوعٍ، في ترتيبٍ بديعٍ، ونظامٍ مُحكَمٍ، يُنبئُ عن علمٍ جمٍّ واسعٍ؛ فإنْ لم يكُنْ للحرفِ موضِعُ زيادةٍ، فلا يذكُرُ إلَّا الأصالةَ فيه كالخاءِ مثلًا
[385] يُنظر: ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (1/ 195). ، وإذا كان الحرفُ لا يُبدَلُ فلا يذكُرُ فيه إبدالَه، كالغينِ مثلًا
[386] يُنظر: ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (1/ 255). .
ويختِمُ الكتابَ بثلاثةِ فُصولٍ؛ يتحدَّثُ في الفَصلِ الأوَّلِ عن حروفِ المعجَمِ في ذاتِها (ألف، باء، تاء ...)، واشتقاقِها، وكيفيَّةِ تثنيتِها وجمعِها
[387] يُنظر: ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (2/ 405). ، وفي الفَصلِ الثَّاني يتحدَّثُ عن مذهَبِ العَرَبِ في مَزجِ الحروفِ بعضِها ببعضٍ، وفيه حديثٌ عن الحروفِ التي يمكنُ أن تتجاورَ، والتي لا تتجاورُ مُطلقًا في كلامِ العَرَبِ، وما يحسُنُ وما يقبُحُ من ذلك، وما يصِحُّ وما لا يَصِحُّ
[388] يُنظر: ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (2/ 427). ، ثمَّ أفرد الفَصلَ الثَّالثَ كتدريبٍ على الإتيانِ بفِعلِ الأمرِ من أفعالٍ مهموزةٍ ومعتلَّةٍ على طريقةِ العَرَبِ في كلامِها
[389] يُنظر: ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (2/ 435). .
ومن ثَمَّ ف
ابنُ جِنِّي يجعَلُ عِلمَ الأصواتِ مُقَدِّمةً ومدخلًا لدراسةِ التَّصريفِ، ثمَّ يتحدَّثُ عن الطَّريقةِ التي يأتي عليها كُلُّ حرفٍ من حروفِ المباني، مالئًا كتابَه بالقواعِدِ التَّصريفيَّةِ وما يتَّصِلُ بها من الأصواتِ والنَّحوِ، ودَعَم ذلك كُلَّه بالشَّواهِدِ ما أمكَنَ؛ فهو لا يمُرُّ مرورَ الكرامِ، بل يقِفُ بتأنٍّ ليُحلِّلَ ويُفسِّرَ، ويورِدَ الأقوالَ، ويؤيِّدَ أو يعارِضَ، ويأتيَ بنظريَّاتٍ لم تترُكْ مجالًا لمتكَلِّمٍ بَعدَه؛ كنظريَّةِ السُّهولةِ والتَّيسيرِ التي كان يُسَمِّيها المتقَدِّمون "التخفيف"؛ فهو كتابٌ في اللُّغةِ من الطِّرازِ الأوَّلِ
[390] يُنظر: ((سر صناعة الإعراب)) مقدمة التحقيق: حسن هنداوي (ص: 27، 28). .
ومِن ثَمَّ فإنَّ مادَّةَ الكتابِ الأساسيَّةَ تقومُ على قضايا: الإعلالِ والإبدالِ، والزِّيادةِ والحذفِ. وهذه المباحِثُ هي أهمُّ مباحثِ عِلمِ الصَّرفِ
[391] يُنظر: ((سر صناعة الإعراب)) مقدمة التحقيق: حسن هنداوي (ص: 35، 36). .