الفَصلُ السَّادِسُ: أبو عَمْرِو بنُ العَلَاءِ (ت: 154 هـ)
الإمامُ أبو عَمْرِو بنُ العَلَاءِ بنِ عَمَّارِ بنِ العُرْيَان بنِ عبدِ اللهِ بنِ الحُصَيْنِ التَّمِيمِي المَازِني البَصْري، النَّحْوِي المُقْرِئ، أحدُ القُرَّاءِ السَّبعةِ المشهورينَ.
اخْتُلِف في اسْمِه عَلَى أَقْوالٍ كَثِيرةٍ؛ فَقِيل: إنَّ اسمَه هو كُنْيتُه. وقيل: إنَّ اسمَه زَبَّان. وقيل: ربَّان، وقيل غيرُ ذلك. والصَّحيحُ: أنه زَبَّان؛ لِما رُوي أنَّ
الفرزدَقَ جاء مُعتذرًا إليه مِن أجْلِ هجْوٍ بلَغه عنه، فقال له
أبو عَمرٍو:
هَجَوتَ زَبَّانَ ثم جئتَ مُعْتَذِرًا
مِن هَجْوِ زَبَّانَ لم تَهْجُ ولم تَدَع
وسببُ الاختلافِ في اسمِه: أنَّه كان لجلالتِه لَا يُسْأَلُ عنه!
مَولِدُه:وُلِد بمكَّةَ سنةَ سبعين، أو ثمانٍ أو خمسٍ وستين، ونشأ بالبصرةِ.
ومِن مشايخِه: أنسُ بنُ مالكٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وعِكْرِمةُ، ومجاهِدٌ، ونَصرُ بنُ عاصمٍ، ويَحْيَى بن يَعْمَرَ، و
ابنُ كثيرٍ، وأخذ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي إسحاقَ، وكان أوسَعَ مِن عبدِ اللهِ عِلمًا بكلامِ العَرَبِ ولُغاتِها وغريبِها.
ومِن تَلامِذَتِه: شُعبةُ، وحمَّادُ بنُ زيدٍ، و
عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، وأخذ عنه الخليلُ بنُ أحمد، ويونُسُ بنُ حبيبٍ البَصْريُّ، وأبو محمَّدٍ اليزيديُّ، والأصمعيُّ.
مَنزِلتُه ومكانتُه:كان
أبو عَمرِو بنُ العَلَاء حُجَّةً في القراءاتِ، قليلَ الرِّوايةِ للحديثِ، وكان أعلَمَ النَّاسِ بالأدَبِ والعَرَبيَّةِ والقُرآنِ والشِّعْرِ، وكان رأسًا في العِلْمِ في أيَّامِ
الحَسَنِ البَصْريِّ رحمه الله، فكان يُقرِئُ النَّاسَ القرآنَ في مَسجِدِ البصرةِ و
الحسنُ حاضِرٌ.
وأخافه
الحَجَّاجُ بنُ يوسُفَ الثَّقَفيُّ، فكان يَتَسَتَّرُ؛ قال
أبو عَمرٍو: (فخرجتُ في الغَلَسِ أريد التنقُّلَ من الموضِعِ الذي كنتُ فيه إلى غيره، فسَمِعْتُ مُنشِدًا يُنشِدُ:
ربَّما تَكرَه النُّفوسُ من الأَمْرِ
له فَرْجَةٌ كَحَلِّ العِقَالِ
وسَمعتُ عجوزًا تقول: مات
الحجَّاجُ! فما أدري بأيِّهما كنتُ أُسَرَّ؛ أبقَولِ المنشد: "فَرجة" -بالفَتحِ- أم بقَولِ العَجوزِ: مات
الحجَّاجُ؟).
عَقيدتُه:كان
أبو عَمرٍو صاحِبَ سُنَّةٍ؛ قال إبراهيمُ الحَربيُّ: (كان أهلُ العَرَبيَّةِ كُلُّهم أصحابَ أهواءٍ إلَّا أربعةً؛ فإنَّهم أصحابُ سُنَّةٍ:
أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ، والخَليلُ بنُ أحمَدَ، ويُونُسُ بنُ حَبيبٍ البَصْريُّ، والأَصْمَعيُّ)
[29] ينظر: ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) للأنباري (ص: 34)، ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (12/ 180). ، وقد أكثَرَ في الردِّ على أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ؛ فحين تكَلَّم
عَمرُو بنُ عُبَيدٍ المتكَلِّمُ المُعتَزِليُّ في الوَعدِ والوَعيدِ على زَعْمِه في أنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وَعيدَه للعُصاةِ والفُسَّاقِ؛ قال له
أبو عَمرٍو: (إِنَّكَ لأَلْكَنُ الفَهمِ؛ إِذْ صَيَّرتَ الوَعِيْدَ الَّذِي فِي أَعْظَمِ شَيْءٍ مِثْلَهُ فِي أَصْغَرِ شَيْءٍ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّغَيْرِ وَالكَبِيْرِ لَيْسَا سَوَاءً، وَإِنَّمَا نَهَى اللهُ عَنْهُمَا لِتَتمَّ حُجَّتُه عَلَى خَلقِه، ولِئَلَّا يَعدِلَ عَنْ أَمرِه، وَوَرَاءَ وَعِيدِه عَفْوُه وَكَرَمُه.
ثُمَّ أنشَدَ:
ولا يَرْهَبُ ابْنُ العَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي
ولا أَخْتَتِي مِنْ صَوْلَةِ المُتَهَدِّدِ
وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُه ووَعَدْتُه
لَمُخْلِفُ إِيْعَادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي
فَقَالَ
عَمْرُو بنُ عُبَيْدٍ: صَدَقتَ، إِنَّ العَرَبَ تَتَمَدَّحُ بِالوَفَاءِ بِالوَعدِ والوَعِيْدِ، وقدْ يُمتدَحُ بِهما المَرْءُ، تَسَمَّعْ إِلَى قَوْلِهِم:
لاَ يُخْلِفُ الوَعْدَ وَالوَعِيْدَ وَلَا
يَبِيْتُ مِنْ ثَأْرِهِ عَلَى فَوْتِ
فَقَدْ وَافقَ هَذَا قَوْلَه تَعَالَى:
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف: 44] .
قَالَ
أَبُو عَمْرٍو: (قَدْ وَافَقَ الأَوَّلُ أَخْبَارَ رَسُوْلِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وَالحَدِيْثُ يُفَسِّرُ القُرْآنَ)
[30] ينظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (6/ 407). .
وقال
ابنُ القيِّمِ: (وحمَلَ آخَرَ بُغضُ قولِه:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] على أنَّ حَرَّفَها وقَرَأها بالنَّصبِ: «وكلَّم اللهَ مُوسى تَكليمًا» أي أنَّ مُوسى هو الذي كَلَّم اللهَ وخاطَبَه واللهُ لم يُكلِّمْه، فقال له
أبو عَمرِو ابنُ العَلاءِ: فكيْفَ تَصنَعُ بقولِه:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] ؟ فبُهِتَ المُعَطِّلُ)
[31] ينظر: ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) لابن القيم (3/ 1037). .
ويَنقِلُ عنه
ابنُ قُتَيبةَ في ردِّه على القَدَريَّةِ، فيقولُ: (قال
أبو عَمرٍو: أشهَدُ أنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ، ويَهْدي مَن يَشاءُ، وللهِ عَلينا الحُجَّةُ، ومَن قال: تعالَ أُخاصِمْكَ، قلتُ له: أعِزَّ عنَّا نفْسَكَ)
[32] ينظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قتيبة (ص: 139). .
مَنْهَجُه:لم يكُنْ
أبو عَمرٍو يحتَجُّ بشَيءٍ مِنَ الشِّعْرِ الإسلاميِّ، على أنَّه عاش في عَصرِ الاحتِجاجِ، وقد كانت كُتُبُه التي كتَبَها عن العَرَبِ الفُصَحاءِ تَصِلُ إلى سَقفِ بَيتِه، فلمَّا تنسَّك أحرَقَها كُلَّها، ثمَّ لَمَّا رَجَع عن ذلك لم يبقَ له مِن عِلمِ ذلك إلَّا مَحفوظُه
[33] ينظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 466)، ((فوات الوفيات)) لابن شاكر الكتبي (2/ 29). !
وكان على عِلْمِه وإتقانِه النَّحْوَ واللُّغةَ لا يَقرَأُ القُرآنَ إلَّا بما أخَذَ عن القُرَّاءِ مُشافهةً؛ يقولُ: (لولا أنْ ليس لي أن أقرَأَ إلَّا بما قد قُرِئَ، لقَرَأْتُ حَرْفَ كذا وكذا، وذَكَر حُروفًا)
[34] ينظر: ((تهذيب الكمال في أسماء الرجال)) للمزي (34/ 124). .
وفاتُه:تُوفِّي رحمه الله في الكوفةِ وهو في طريقِه إلى الشَّامِ سنةَ أربعٍ وخمسينَ ومائةٍ. وَقيل: سِتٍّ وخمسينَ أو سَبعٍ وخمسينَ ومائةٍ
[35] يُنظَر: ((مراتب النحويين)) لأبي الطيب اللُّغوي (ص 27)، ((طبقات النحويين واللغويين)) لمحمد بن الحسن الزُّبَيدي (ص 35)، ((تاريخ العلماء النحويين)) للتَّنُوخي (ص 140)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحَمَوي (3/ 1317)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (4/ 131)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (2/ 231)، ((الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة)) لمجموعة باحثين (1/ 914). .