الفَصلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: سِيبَوَيْهِ (ت: 180 هـ)
أبو بِشْر -وَيُقَال: أبو الحَسَن- عمْرُو بنُ عُثْمَانَ بنِ قَنْبَر، مَوْلَى بني الحَارِثِ بنِ كَعْبِ بنِ عمرٍو، الفارسيُّ، ثم البَصْريُّ، إِمَامُ النَّحْوِ، حُجَّةُ العَرَبِ.
مَولِدُه:وُلِدَ سَنةَ ثمانٍ وأربعينَ ومِائةٍ، بقريةٍ مِن قُرَى شِيرَاز، يُقال لها: البيضاءُ، من بلادِ فارِسَ؛ فهو فارسيُّ الأصلِ.
مِن مشايخِه:الخَلِيلُ بنُ أحمدَ الفَرَاهِيدي، وعِيسَى بن عُمَر، ويُونُس بن حَبِيب، وأبو الخطَّاب (الأخْفَش الكبير).
ومِن تَلامِذَتِه:سعيدُ بنُ مَسْعَدة (الْأَخْفَش الأوْسَط)، ومحمَّدُ بنُ المُسْتَنِير قُطْرُب.
سببُ تَعَلُّمِه النَّحوَ:كان سِيبَوَيْه ذاتَ يومٍ يَسْتملي على حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، فلَحَن في حَرْفٍ، فَعَابَه حمَّادٌ، فقال له: سأطلُبُ عِلْمًا لا تُلَحِّنُنِي فيه، ولَزِم الخليلَ بن أحمدَ، فَبَرَع في النحوِ، وصار الغايةَ فيه. وكان الخليلُ إذا أقْبَل عليه سِيبَوَيهِ قال: (مرحبًا بزائرٍ لا يُمَّلُّ!).
مَنزِلتُه ومكانتُه:كان سِيبَوَيْه رحمه الله سُنِّيًّا مُحِبًّا للعِلمِ والعُلَماءِ، وكان يَصْحَبُ المحدِّثين والفُقهاء، ويطلب الآثارَ والفِقهَ، ويُعَدُّ سِيبَوَيْه إمامَ اللُّغَة، وحُجَّةَ العَرَب، وأفهَمَ النَّاس بالنَّحْو. وكان رحمه الله في لسانه حُبْسَةٌ، وَفِي قَلَمِهِ انْطِلاقٌ وَبَرَاعَةٌ.
قال
الجاحظ: (لم يَكْتُبِ النَّاسُ في النَّحْوِ كِتَابًا مِثْلَه، وجَمِيعُ كُتُبِ النَّاسِ عليه عِيَالٌ)
[67] ينظر: ((إنباه الرواة على أنباء النحاة)) للقفطي (2/351)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/463). .
سَبَبُ تَسْمِيَتِه بـ (سِيبَوَيْهِ):قيل: إنه سُمِّي بسِيبَوَيْهِ؛ لأن وَجْنَتَيْه كَانَتَا كَالتُّفَّاحَتَيْن. وقيل: هو لَقَبٌ بالفارسيَّةِ معناه: رَائِحَةُ التُّفَّاحِ.
عَقيدتُه:قال أبو المظَفَّرِ الإسْفِرايِينيُّ: (وكذلك لم يكُنْ في أئِمَّةِ الأدَبِ أحَدٌ إلَّا وله إنكارٌ على أهلِ
البِدعةِ شَديدٌ، وبُعْدٌ مِن بِدَعِهم بعيدٌ، مِثْلُ: الخَليلِ بنِ أحمَدَ، ويُونُسَ بنِ حَبيبٍ، وسِيبَوَيهِ، والأخفَشِ، و
الزَّجَّاجِ، و
المُبَرِّدِ، وأبي حاتِمٍ السِّجِسْتانيِّ، و
ابنِ دُرَيدٍ، والأزهَريِّ، و
ابنِ فارِسٍ، والفارابيِّ، وكذلك مَن كان مِن أئمَّةِ النَّحْوِ واللُّغةِ، مِثْلُ:
الكِسائيِّ، والفَرَّاءِ، والأصمَعيِّ، وأبي زَيدٍ الأنصاريِّ، وأبي عُبَيدةَ، وأبي عَمرٍو الشَّيبانيِّ، و
أبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلامٍ. وما منهم أحَدٌ إلَّا وله في تصانيفِه تَعَصُّبٌ لأهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وردٌّ على أهلِ الإلحادِ و
البِدعةِ)
[68] ينظر: ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) للإسفراييني (ص: 188). .
وقال العبَّاسُ بنُ الفرجِ الرِّياشيُّ: (كان سِيبوَيْه سُنِّيًّا على السُّنَّةِ)
[69] ينظر: ((طبقات النحويين واللغويين)) للزبيدي (ص: 68). .
مُصنَّفاتُه:صَنَّف سِيبَوَيْه ((الكِتَاب)) في النحو، وهو يُعُدُّ أوَّلَ كتابٍ مَنهجيٍّ يُنَسِّقُ قواعِدَ اللُّغةِ العَرَبيَّة ويُدَوِّنُها، وسُمِّي بالكتابِ؛ لأنَّ سِيبَوَيْهِ ترَكَه دون عُنوان، فأقبل عليه أئمَّةُ النُّحَاةِ بعْده فانْغَمَسُوا في لُجَج بَحْرِه، واسْتَخْرَجُوا مِن دُرَرِه، ولم يَبْلُغُوا إلى قَعْرِه.
وكان
المُبَرِّد يَقُولُ لِمَن أرَادَ أن يقْرَأ عَلَيْهِ كِتابَ سِيبَوَيْهِ: (هَل ركِبْتَ البَحْرَ؟! تَعْظِيمًا واسْتِصْعَابًا لِمَا فِيهِ.
قال
الزَّمَخْشَرِي:
أَلَا صَلَّى الإِلَهُ صَلَاةَ صِدْقٍ
على عَمْرِوِ بن عُثْمَانَ بنِ قَنْبَرْ
فَإِنَّ كِتَابَه لم يُغْنِ عَنهُ
بَنو قَلَمٍ وَلَا أَبنَاءُ مِنْبَرْ
وفاتُه:شَاع عند الكثيرين أنَّ سَببَ وَفَاتِه مُنَاظَرةٌ جَرَت بيْنه وبيْن
الكِسَائِي في بَغْدَادَ بحضورِ سعيدٍ الأَخْفَشِ وَالفَرَّاء، فذُكِرَ: أنَّ سِيبَوَيْه لَمَّا قَدِم العِراقَ شقَّ أمرُه على
الكِسَائِي، فأَتَى جعفرَ بن يحيى بن بَرْمَك والفضلَ بنَ يحيى بن بَرْمَك، وقال: أنا وليُّكما وصاحبُكما، وهذا الرجُلُ إنما قَدِم لِيُذْهِبَ مَحَلِّي. قالا: فَاحْتَلْ لنَفسِك، فإنَّا سَنَجْمَع بينكما. فجُمِعا عند البَرَامِكَة، وحَضَر سِيبَوَيْه وحْدَه، وحَضَر
الكِسَائِيُّ ومعه الفَرَّاءُ والأحمرُ وغيرهما من أصحابِه. فسألوه: كيف تقول: (كُنْتُ أَظُنُّ العقربَ أشدَّ لَسْعَةً من الزُّنبُورِ، فإذا هو هي" أو: "هو إيَّاها"؟ قال: أقولُ: "فإذا هو هي". فأقبل عليه الجميعُ فقالوا: أخطأتَ ولحنْتَ. فقال يحيى بنُ خالِدِ بنِ بَرْمَك: هذا مَوضعٌ مُشكِلٌ؛ حتى يُحكَمَ بينكما. فقالوا: هؤلاء الأعرابُ على الباب. فأُدخِلَ أبو الجَرَّاح ومَن وُجد معه ممَّن كان يأخُذُ منه
الكِسَائِيُّ وأصحابُه، فقالوا: "فإذا هو إياها"، وكان
الكِسائيُّ قد اتفق معهم على ذلك. فانصرَمَ المجلِسُ على أنَّ سِيبَوَيْه قد أخطأ. فأعطاه البرامكةُ وأخذوا له مِن
الرَّشيدِ، وبُعِث به إلى بلَدِه، فيقال: إنه ما لَبِث إلَّا يسيرًا، ثم مات كَمَدًا).
لكنَّ هذه القصَّةَ غيرُ صحيحةٍ، بل هي كَذِبٌ، كما نصَّ على ذلك
الإمامُ الذَّهبي في ((السِّيَرِ))، وأماراتُ الوَضعِ باديةٌ عليها؛ فإنَّ مَقامَ
الكِسَائِي رحمه الله في العِلْمِ والدِّينِ يَمْتَنِع معه أن يَقَعَ في التَّآمُر والكَذَبِ على العَرَبِ ولُغَةِ القُرآنِ الكريمِ، وهو أَحَدُ القُرَّاءِ السَّبْعَة المشهورين؛ لأجْلِ أن يَحْفَظ مَنْزِلَتَه ووَجَاهَتَه الدنيويَّةَ بين النَّاسِ.
وقد تُوفِّي رحمه الله بِشِيرَاز أو الأَهْوَاز، وقيل: بالبَصْرة، سنةَ ثمانينَ ومائةٍ، وعمرُه اثنتانِ وثلاثون سنة. وقيل: أربعونَ سنةً
[70] يُنظَر: ((أخبار النحويين البصريين)) للسيرافي (ص 66)، ((تاريخ العلماء النحويين)) للتَّنُوخي (ص 90)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحَمَوي (5/ 2122)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (2/ 346)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (3/ 463)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/ 351)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 221)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (2/ 229). .