الفَصلُ الثَّامِنَ عَشَرَ: الكِسَائِيُّ (ت: 189 هـ)
أبو الحَسَن عَلِيُّ بنُ حَمْزَة بنِ عبدِ اللهِ بن عُثْمَان بن بَهْمَن بن فَيْرُوز، الأَسَدِي مَوْلاهُم، الكُوفِي، الإمامُ النَّحْويُّ، اللُّغَويُّ، المُقْرِئ، شَيْخُ القِرَاءةِ وَالعَرَبِيَّةِ، المُلَقَّب ب
الكِسَائِي؛ أصلُه مِن الكوفةِ، ثم استوطن بغدادَ.
مَوْلِدُه:وُلِد بالكوفةِ سنةَ تِسعَ عَشرةَ ومائةٍ تقريبًا.
مِن مشايخِه:الخَلِيلُ بنُ أحمدَ، وأبو جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ، و
جَعْفَرٌ الصَّادِق، والأَعْمَشُ، وتَلَا على
حمزةَ الزَّيَّاتِ، وابنِ أبي ليلى، و
عَاصِمِ بنِ أبي النَّجُودِ.
ومِن تَلامِذَتِه:يحيى الفَرَّاءُ، وأبو عمرو الدُّورِي، و
أبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلَّام.
سَبَبُ تَسْمِيَتِه بالكِسَائِيِّ:سُمِّي ب
الكِسَائي لكِسَاءٍ أَحْرَم فيه. وقيل: لأنَّه التَفَّ في كِسَاءٍ وهو يَقرَأُ على
حمزةَ الزَّيَّاتِ.
مَنزِلتُه ومكانتُه:كان
الكِسَائِيُّ رحمه الله عظيمَ القدْرِ في دِينِه وفَضْلِه، إمامًا في النَّحْوِ واللُّغَةِ والقراءاتِ؛ فهو أحدُ أئمَّةِ القُرَّاءِ، وقراءتُه هي إحدى القراءاتِ السَّبْعِ المتواترةِ، وقد أدَّب
الرشيدَ وولدَه الأمينَ.
قال
الشَّافعي: (مَن أراد أن يَتَبَحَّر فِي النَّحْوِ، فهو عِيَالٌ على
الكِسَائي)
[83] ينظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (60/117)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (5/409). .
وقال الفرَّاء: ناظرتُ
الكِسائيَّ يومًا وزِدْتُ، فكأني كنتُ طائرًا يَشرَبُ من بحْرٍ
[84] ينظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (4/927). .
وقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: (اجْتَمَعَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالنَّحوِ، وَوَاحِدَهُم فِي الغَرِيبِ، وَأَوحَدَ في عِلْمِ القُرْآنِ؛ كَانُوا يُكْثِرُونَ عَلَيْهِ، وكَانَ يَجمَعُهُم، وَيَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَيَتْلُو وَهُم يَضبِطُونَ عَنْهُ المقَاطِعَ والمَبَادِئَ)
[85] ينظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (9/132). .
وكان لا يُسألُ عن مسألةٍ في الفِقهِ إلَّا أجاب عنها مِن قواعدِ النَّحْوِ! فمِن ذلك أنَّه سُئِل: (ما تقولُ فيمَن سها في سجودِ السَّهوِ؛ أيسجُدُ؟ قال: لا؛ لأن المُصَغَّرَ لا يُصَغَّرُ)
[86] ينظر: ((شذرات الذهب في أخبار من ذهب)) لابن العماد (2/407). .
سَبَب تَعَلُّمِه النَّحْوَ:تَعَلَّم
الكِسَائِيُّ النَّحْوَ على كِبَرِ السِّنِّ، وكان سببُ تعلُّمِه له: أنَّه كان قبْل اشتغالِه بالنَّحْو واللُّغَةِ يُجَالِسُ بعضَ العالِمِين بهما، فجاءهم ذاتَ يومٍ وقد مَشَى حتى أعْيَا مِن طُول مَشْيِه، وجلَس إليهم وقال: لقد مَشَيْتُ حتى عَيِيتُ! فَانْتَهَرُوه وقالوا له: أَتُجالِسُنا وأنت تَلْحَنُ؟! فقال
الكِسَائِي: وكيف لَحَنْتُ؟! فقالوا له: إن كنتَ تُريدُ أنَّك مَشَيْتَ حتى تَعِبْتَ، فقل: مَشَيْتُ حتى أَعْيَيْتُ. وإن كنتَ تُريدُ أنَّك مَشَيْتَ في قضاءِ أمرٍ حتى انْقَطَعَتْ حِيلَتُك فيه، فقل: مَشَيْتُ حتى عَيِيتُ. فأَنِف
الكِسَائِيُّ مِن هذه الكَلِمةِ وقام من فَوْرِه، فسأل عمَّن يُعلِّمُ النحْوَ حتى تَعَلَّمَه وأتْقَنه، وظلَّ يَشتغِلُ باللُّغةِ والنَّحْوِ حتى صار إمامَ الكوفةِ فيها، وواحدًا مِن أصحابِ القِراءاتِ السَّبعِ للقُرآنِ الكريمِ.
عَقيدتُه:قال
الخَطيبُ البَغْداديُّ في ترجمتِه: (وكان عَظيمَ القَدْرِ في دينِه وفَضْلِه)
[87] ينظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (13/ 345). .
وقد صرَّح بنَفسِه انتسابَه إلى مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ؛ قال أبو عُمرَ الدُّوريُّ: (لم يُغيِّرِ
الكِسائىُّ شيئًا مِن حالهِ مع السُّلطانِ إلَّا لِباسَه، قال: فَرآهُ بعضُ عُلماءِ الكوفيِّينَ وعليه جربَّاناتٌ عِظامٌ، فقال له: يا أبا الحسَنِ، ما هذا الزِّىُّ؟ فقال: أدبٌ مِن أدبِ السُّلطانِ، لا يَثْلِمُ دينًا، ولا يُدخِلُ في
بِدعةٍ، ولا يُخْرِجُ عن سُنَّةٍ)
[88] ينظر: ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقفطي (2/ 266). .
بالإضافةِ إلى قَولِ أبي المظَفَّرِ الإسْفِرايِينيِّ: (وكذلك لم يكُنْ في أئِمَّةِ الأدَبِ أحَدٌ إلَّا وله إنكارٌ على أهلِ
البِدعةِ شَديدٌ، وبُعْدٌ مِن بِدَعِهم بعيدٌ، مِثْلُ: الخَليلِ بنِ أحمَدَ، ويُونُسَ بنِ حَبيبٍ، و
سِيبَوَيهِ، والأخفَشِ، و
الزَّجَّاجِ، و
المُبَرِّدِ، وأبي حاتِمٍ السِّجِسْتانيِّ، و
ابنِ دُرَيدٍ، والأزهَريِّ، و
ابنِ فارِسٍ، والفارابيِّ، وكذلك مَن كان مِن أئمَّةِ النَّحْوِ واللُّغةِ، مِثْلُ:
الكِسائيِّ، والفَرَّاءِ، والأصمَعيِّ، وأبي زَيدٍ الأنصاريِّ، وأبي عُبَيدةَ، وأبي عَمرٍو الشَّيبانيِّ، و
أبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلامٍ. وما منهم أحَدٌ إلَّا وله في تصانيفِه تَعَصُّبٌ لأهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وردٌّ على أهلِ الإلحادِ و
البِدعةِ)
[89] ينظر: ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) للإسفراييني (ص: 188). .
مُصنَّفاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتابُ: ((معاني القرآن))، وكتاب: ((مختصر في النحو))، وكتاب: ((القراءات))، وكتاب: ((مقطوع القُرآن ومَوصوله))، وكتاب: ((النوادِر الكبير))، وكتاب: ((النوادِر الصغير))، وكتاب ((الهِجاء))، وكتاب ((المصادِر))، إلى غير ذلك.
ومِن الشِّعْرِ المَنْسُوبِ إليه:أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمًا نَافِعًا
اطْلُبِ النَّحْوَ ودَعْ عَنْك الطَّمَعْ
إِنَّمَا النَّحْوُ قِيَاسٌ يُتَّبَعْ
وَبِه فِي كُلِّ عِلْمٍ يُنْتَفَعْ
وَإِذا مَا أبْصَرَ النَّحْوَ فَتًى
مرَّ في المنْطقِ مَرًّا فاتَّسَع
وَفَاتُه:تُوفِّي رحمه الله بالرَّيِّ سنة تِسعٍ وثمانينَ ومِائةٍ. وقيل: سنةَ اثنتينِ وثمانينَ ومائةٍ. وقيل: سنةَ ثلاثٍ وثمانينَ ومائةٍ
[90] يُنظَر: ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 58)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحَمَوي (4/ 1737)، ((إنباه الرواة)) للقِفْطي (2/ 256)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (3/ 295)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (9/ 131)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (13/ 669)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (2/ 162). .