الفَصلُ الثاني والأربعون: أَبُو الفَرَجِ المُعَافَى بنُ زَكَرِيَّا (ت: 390 هـ)
أَبُو الفَرَجِ المُعَافَى بنُ زَكَرِيَّا بنِ يَحْيَى بنِ حُمَيْدٍ بن حمَّادِ بنِ داودَ، النَّهْرُوَانِيُّ
[407] النَّهْرَوَانِي: نِسْبَة إلى نَهْرَوَان، وهي ثلاث نهروانات: الأعلى، والأوسط، والأسفل. وقيل: هذه النِسْبَة إلى النَّهْرَوَان، وهي بلدة قديمة بالقُرْب مِن بَغْدَاد، لها عدة نَوَاحٍ. البغداديُّ، العَلَّامَةُ، الفَقِيهُ، المُفَسِّرُ، الحَافِظُ، النَّحْويُّ اللُّغَويُّ، القَاضِي، المُتَفَنِّنُ، عَالِمُ عَصْرِه. يُقال له: الجَرِيرِيُّ
[408] نِسبَةً إِلى رَأْيِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ؛ لأنه كان يتفقَّهُ على مَذهَبِه؛ مذهَبِ ابنِ جريرٍ الطَّبري، وكان لابن جرير مذهَبٌ فِقهيٌّ انفرد به؛ اندَثَر بعد وَفاتِه. ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ طَرَارَا.
مَوْلِدُه:وُلِد سَنةَ ثلاثٍ وثلاثِ مِائة. وقيل: سَنةَ خمسٍ وثلاثِ مِائة.
مِن مَشَايِخِه:أبو القَاسِمِ البَغَوِيُّ، وأبو مُحَمَّدِ بنُ صَاعِد، وأبو بَكْرِ بنُ أبي دَاوُدَ، وأبو سَعِيدٍ العَدَوِيُّ، وأبو حَامِدٍ الحَضْرَمِيُّ، والقَاضِي المَحَامِلِي، وابنُ شَنَبُوذَ، وأبو مُزَاحِمٍ الخَاقَانِي.
ومِن تَلَامِذَتِه:أبو القَاسِم عُبَيْدُ اللهِ الأَزْهَرِيُّ، والقَاضِي أَبُو الطَّيِّب الطَّبَرِي، وأحمَدُ بنُ عَلِي التَّوَّزِيُّ، وأَحْمَدُ بنُ عُمَرَ بن رَوْح، وأبو عَلِي مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْن الجَازِرِي، وأبو الحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بن حَسْنُون النَّرْسِي، وأحمدُ بنُ مَسْرُورٍ الخَبَّاز، ومُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ النهَاوَنْدِي.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:كان أَبُو الفَرَج المُعَافَى بنُ زَكَرِيَّا مِنْ أَعلمِ النَّاسِ في وَقتِه بِالفِقْه، وَالنَّحْو، وَاللُّغَة، وَأَصنَافِ الأَدب، وَلِيَ القَضَاءَ بِبَاب الطَّاق، وكان على مَذْهَبِ
ابنِ جَرِيرٍ.
وكان يُقال: (إِذَا حضَرَ القَاضِي أَبُو الفَرَج فَقَدْ حَضَرَتِ العُلُومُ كُلُّها).
وقِيل: (لو أَوْصَى رَجُلٌ بِثُلُثِ مَالِه أَنْ يُدفعَ إِلى أَعلَمِ النَّاسِ، لَوَجَبَ أَنْ يُدفعَ إِلَى المُعَافَى بنِ زَكَرِيَّا).
ومِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَبَحُّرِه في العِلْمِ:أَنَّ المُعَافَى بن زَكَرِيَّا حَضَر في دَار بَعْضَ الرُّؤَسَاء، وهُنَاك جَمَاعَةٌ مِن أَهْل العِلْم والأَدَب، فَقَالُوا: (فِي أيِّ نَوْع مِن العِلْم نَتَذَاكَر؟ فقال المُعَافَى لذلك الرَّئِيس: إنَّ خِزَانَتَك قَدْ جَمَعَت أَنْوَاعَ العُلُومِ وأَصْنَافَ الأَدَب، فَإِن رَأَيْتَ أَنْ تَبْعَثَ الغُلَامَ إليها، ويَضْرِبَ بِيَدِه إلى أيِّ كِتَاب قَرُب مِنْهَا، فَيْحَمِلَه ثم نَفْتَحَه، فَتَنْظُرَ في أي نَوْع هُو، فَنَتَذَاكَرَ ونَتَجَارَى فِيه!)، وهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ المُعَافَى كان له أُنْسَةٌ بِسَائِر العُلُومِ.
وكان له شِعْر حَسَن:فَمِن ذلك قَوْلُه:
يَا مِحْنَةَ الدَّهْرِ كُفِّي
إِنْ لَمْ تَكُفِّي فَخِفِّي
مَا آنَ أنْ تَرْحَمِينَا
مِنْ طولِ هَذَا التَّشَفِّي
طَلَبتُ جَدًّا لِنَفْسِي
فَقِيل لِي قَدْ تُوفِّي
فَلا عُلُومِي تُجْدِي
ولَا صِنَاعَةُ كَفِّي
ثَوْرٌ يَنَال الثُّرَيَّا
وعَالِمٌ مُتَخَفِّي
[409] يُنظر: ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (6/2702)، ((بغية الوعاة)) للسيوطي (2/293). وقَوْلُه:ألا قُلْ لِمَن كَان لِي حَاسِدًا
أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الأَدَبْ
أَسْأَتَ عَلَى اللهِ فِي مُلْكِه
بِأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ
فَجَازَاك عَنِّي بِأَنْ زَادَنِي
وَسَدَّ عَلَيْكَ وُجُوهَ الطَّلَبْ
[410] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (15/308)، ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) لابن الجوزي (15/25). عَقيدتُه:كان المعافى رحمه اللهُ حَسَنَ الاعتِقادِ، على سُنَّةٍ واتِّباعٍ، يَظهَرُ ذلك في كُتُبِه، مِثْلُ قَولِه: ((وقد استدَلَّ مُستَدِلُّونَ بما أتى في الخَبَرِ الأوَّلِ مِن ثناءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على نُعَيمانَ، وزَجْرِه للاعِنِه، ونظائِرِه من الأخبارِ، على فَسادِ مَذهَبِ
المُعتَزِلةِ في وَعيدِ أهلِ الصَّلاةِ، وعلى صِحَّةِ تجويزِ العَفْوِ عنهم، وأنَّهم في مَشيئةِ اللهِ تعالى))
[411] ينظر: ((الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي)) للمعافى بن زكريا (ص: 327). .
وذكر أيضًا كلامَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ في القَضاءِ والقَدَرِ، فقال:
((لَمَّا قَدِمَ عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه من صِفِّينَ قامَ إليه شيخٌ مِن أصحابِه، فقال: يا أميرَ المُؤمِنينَ أخبِرْني عن مَسيرِنا إلى أهلِ الشَّامِ، بقَضاءٍ وقَدَرٍ؟ فقال عَلِيٌّ عليه السَّلامُ: والذي فَلَق الحبَّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ، ما قطَعْنا واديًا ولا عَلَونا تَلْعةً إلَّا بقَضاءٍ وقَدَرٍ، فقال الشَّيخُ: عندَ اللهِ أحتَسِبُ عَنائي، فقال عليٌّ عليه السَّلامُ، وَلِمَ؟ بل عَظَّم اللهُ أجْرَكم في مَسيرِكم وأنتم مُصعِدون، وفي مُنحَدَرِكم وأنتم مُنحَدِرون، وما كُنتُم في شَيءٍ مِن أمورِكم مُكرَهينَ ولا إليها مُضْطرِّينَ. فقال الشَّيخُ: كيف يا أميرَ المؤمِنينَ والقَضاءُ والقَدَرُ ساقنا إليها؟ قال: وَيْحَك! لعَلَّك ظنَنْتَه قَضاءً لازِمًا وقَدَرًا حاتِمًا، لو كان ذاك لسَقَط الوَعْدُ والوعيدُ، ولبَطَل الثَّوابُ والعِقابُ، ولا أتَت لائِمةٌ مِنَ اللهِ لِمُذنِبٍ، ولا مَحْمَدَةٌ من اللهِ لمُحسِنٍ، ولا كان المحسِنُ أَولى بثَوابِ الإحسانِ مِنَ المُذنِبِ، ذلك مقالُ إخوانِ عَبَدةِ الأوثانِ وجُنودِ الشَّيطانِ وخُصَماءِ الرَّحمنِ، وهم قَدَريَّةُ هذه الأُمَّةِ ومَجوسُها، ولكِنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بالخيرِ تخييرًا، ونهى عن الشَّرِّ تحذيرًا، ولم يُعْصَ مغلوبًا، ولم يُطَعْ مُكْرِهًا، ولم يملِكْ تَفويضًا، ولا خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ وما أرى فيهما مِن عَجائِبِ آياتِهما باطِلًا؛ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
فقال الشَّيخُ: يا أميرَ المؤمنِينَ، فما كان القَضاءُ والقَدَرُ الذي كان فيه مَسيرُنا ومُنصَرَفُنا؟ قال: ذلك أمرُ اللهِ وحِكْمَتُه. ثمَّ قرأ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] )) [412] ينظر: ((الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي)) للمعافى بن زكريا (ص: 600). .
مُصَنَّفَاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((التفسير)) -ولعَلَّه: البيانُ المُوجَزُ عن علومِ القُرآنِ المُعجِز-، وكتاب: ((الجليس والأنيس)).
وَفَاتُه:تُوفِّي سَنةَ تِسعينَ وثلاثِ مِائة
[413] يُنظَر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (15/ 308)، ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 242)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (6/ 2702)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (3/ 296)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (5/ 221)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (16/ 544)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (2/ 293)، ((الأعلام)) للزركلي (7/ 260). .